الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

إن العلماء هم خير الناس بعد الأنبياء على الإطلاق، وهم ورثتهم باتفاق؛ فهم للدين حملة، ولميثاقه حفظة، وللشريعة نقلة إلى الأجيال جيلاً بعد جيل، وقرناً بعد قرن.
وإن سبيل العلم والدعوة غيرُ مفروش بالورود، وطريقَه صعبٌ وشائك مهما كان السالك؛ لذا فإن السالكين له قليل، والحاملين لواءَه نزرٌ يسير!....
ومن العلماء الأجلاء، والأئمة الفضلاء العَلمُ الإمام، الجبلُ الهُمام، تلميذُ شيخ الإسلام الإمامُ ابنُ قيم الجوزية ـ رحمه الملك العلام ـ المتوفى سنة 751 من الهجرة.
وإن الناظر ليجد أن كلام ابن القيم كله قيم!!، ومن كلامه القيم: " رسالة أرسلها إلى أحد إخوانه "حريٌ بطالب العلم أن يقرأها؛ فإن فيها من الفوائد العلمية والإيمانية الشيءَ الكثير مع قلة حجمها، وهذا أسلوب ابن القيم ـ رحمه الله ـ في تركته الناجعة، ومؤلفاته الماتعة!!.
وقد اخترت لكم منها بعض الفوائد التفسيرية، والدرر القرآنية لعلها تنفعني وتنفعكم بإذن الله؛ فإليكموها:

• الدرة الأولى: في قوله تعالى إخباراً عن المسيح: وجعلني مباركاً أين ما كنت قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " أي معلماً للخير، داعياً إلى الله، مذكراً به، مرغبا ًفي طاعته فهذا من بركة الرجل، ومن خلا من هذا فقد خلا من البركة، ومحقت بركة لقائه والاجتماع به، بل تمحق بركة من لقيه واجتمع به ...."، وقال ـ رحمه الله ـ: " إن بركة الرجل تعليمه للخير حيثما حل ونصحه لكل من اجتمع به " .
قلت: رحمك الله يا ابن القيم؛ فإنك وشيخك مباركيْن بحق، فقد نصرتم السنة، وقمعتم البدعة، ودافعتم عن حياض هذا الدين، وجاهدتم في سبيل رب العالمين، فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلله دركم!!، وأذكر ههنا أثراً ـ إسناده جيد ـ ذكره الإمام ابن كثير ـ رحمه الله ـ عند هذه الآية فقال:" قال ابن جرير: حدثني سليمان بن عبد الجبار، حدثنا محمد بن يزيد بن خُنَيْس المخزومي، سمعت وُهَيْب بن الورد مولى بني مخزوم قال: لقي عالم عالمًا هو فوقه في العلم، فقال له: يرحمك الله، ما الذي أعلن من عملي؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده، وقد أجمع الفقهاء على قول الله: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ، وقيل: ما بركته؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أينما كان" .

• الدرة الثانية: في قوله تعالى: والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً
أورد ابن القيم ـ رحمه الله ـ قول مجاهد في معنى قوله واجعلنا للمتقين إماما فقال: قال مجاهد: واجعلنا للمتقين إماماً أي: اجعلنا مؤتمين بالمتقين مقتدين بهم .
ثم أورد ابن القيم ـ رحمه الله ـ إشكالاً وسؤالاً، وخلاصة الإشكال: أن بعض من لم يفقه فقه السلف وعمق عملهم يقول على حسب قول مجاهد وغيره إن الأصل أن يكون التقدير مقلوباً أي " واجعل المتقين لنا أئمة " .
ثم أجاب الإمام ابن القيم عن هذا السؤال، وردّ هذا الإشكال؛ وخلاصة ردّه: أنه لا يكون الرجل إماماً للمتقين حتى يأتم بالمتقين، فمتى ائتم الرجل بالمتقين من السلف قبله، وحذا حذوهم، واقتفى أثرهم صار إماما للمتقين بعده.


• الدرة الثالثة: في قوله تعالى أيضاً : والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً
طرح ابن القيم هنا سؤالاً آخر وهو: لماذا وحد الله لفظ (إماماً) ولم يقل (أئمة) ؟!!
ثم أجاب ـ رحمه الله ـ بثلاثة أجوبة عن هذا السؤال، وخلاصة أجوبته:
الجواب الأول: أن إمام جمع آم مثل صاحب وصحاب، وهذا قول الأخفش.
الجواب الثاني: أن الإمام هنا مصدرٌ لا اسم، والتقدير: أي اجعلنا ذوي إمام
وقد ضعّف ابن القيم هذين القولين.
الجواب الثالث: قول الفراء: أنه إنما قال هنا ( إماماً ) ولم يقل ( أئمة ) من باب الواحد المراد به الجمع
وقد أتى الفراء على قوله بشاهدين ودليلين وهما:
1- قوله تعالى:
إنا رسولُ ربِّ العلمين ولم يقل رسولا .
2- قول الشاعر:
يا عاذلاتي لا تردن ملامتي
إن العواذل ليس لي بأمير
أي: ليس لي بأمراء.
قلت: وإن في نفس الآية شاهداً على المفرد المراد به الجمع؛ ففي قوله تعالى أزواجنا وذرياتنا قراءتان:
• قراءة نافع، وابن كثير، وابن عامر، وحفص، وأبي جعفر، ويعقوب بالجمع وذرياتنا
• قراءة أبي عمرو، وشعبة، وحمزة، والكسائي، وخلف العاشر بالإفراد وذريتنا قال الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ :
"ووحد ذرياتنا حفظ صحبة "
(والحاء) رمز لأبي عمرو، (وصحبة) رمز لشعبة وحمزة والكسائي
وقال الإمام ابن الجزري ـ رحمه الله ـ في الدرة :
"جمع ذريةحلا "
(والحاء) رمز ليعقوب

وقد قال الإمام ابن خالويه ـ رحمه الله ـ في توجيه قراءة الإفراد : " والحجة لمن وحّد : أنه أراد به الذرية وإن كان لفظها لفظ التوحيد فمعناها معنى الجمع " (الحجة ص 165 )

ثم بعد أن أورد ابن القيم الجواب الثالث عقّب بتعقيب جميل، وذيّل بتذييل جليل يُكتب بماء الذهب!! ؛ فقال:
" وهذا أحسن الأقوال، غير أنه يحتاج إلى مزيد بيان، وهو أن المتقين كلهم على طريق واحد، ومعبودهم واحد، وأتباع كتاب واحد ونبي واحد، وعبيد رب واحد؛ فدينهم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد ومعبودهم واحد، فكأنهم كلهم إمامٌ واحد لمن بعدهم، ليسوا كالأئمة المختلفين الذين قد اختلفت طرائقهم، ومذاهبهم، وعقائدهم، فالائتمام إنما هو بما هم عليه، وهو شيءٌ واحد، وهو الإمام في الحقيقة " .


• الدرة الرابعة: في قوله تعالى: وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون
ذكر ـ رحمه الله ـ أن الآية الكريمة تضمنت أصولاً أربعة وهي:
1) الصبر
2) اليقين
3) الدعوة إلى الله وهداية خلقه
4) هدايتهم بما أمر به على لسان رسوله لا بمقتضى عقولهم وأهوائهم ...
ثم بين ـ رحمه الله ـ كل أصل من هذه الأصول على حدة، ثم لخص ما ذكره في آخر المطاف فقال: " فحصل من هذا: أن أئمة الدين الذين يقتدون بهم هم الذين جمعوا بين الصبر واليقين والدعوة إلى الله بالسنة والوحي لا بالآراء وبالبدع، فهؤلاء خلفاء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أمته، وهم خاصته وأولياؤه، ومن عاداهم أو حاربهم فقد عادى الله ـ سبحانه ـ وآذنه بالحرب " .
قلت: وإليكم لطيفة تختص بالقراءات في هذه الآية:
قرأ الجماعة وهم نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، أبو جعفر، وخلف العاشر، وروح عن يعقوب لمَّا صَبَرُوا بفتح اللام وتشديد الميم وفتحها؛ فيكون المعنى: أي حين صبروا.
وقرأ حمزة، والكسائي، ورويس عن يعقوب: لِمَا صبروا فيكون المعنى أي لصبرهم جعلناهم أئمة.
قال الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ :
" لما صبروا فاكسر وخفف شذا "
(والشين) رمز لحمزة والكسائي
وقال الإمام ابن الجزري ـ رحمه الله ـ في الدرة :
" وفتحه مع لما فصل وبالكسر طب ولا "
(طب) : الطاء رمز لرويس

رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه ( ص5 ـ ص24 )


وإن في الرسالة درراً أخرى كثيرة، أسأل الله أن ييسر نشرها ....

كما أسأل الله سبحانه أن ينفعنا ويعلمنا، ويجعلنا مباركين أينما كنا، مخلصين لله في جميع أعمالنا إنه ولي ذلك والقادر عليه .





وكتبه
أبو قدامة المدني
سعيد بن إبراهيم بن"محمد سعيد" النمارنة
مرحلة الماجستير / الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة