(المعاصي تضعف العبد أمام نفسه )

ومن عقوباتها : أنها تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه ، فإن كل أحد يحتاج إلى معرفة ما ينفعه وما يضره في معاشه ومعاده ، وأعلم الناس أعرفهم بذلك على التفصيل ، وأقواهم وأكيسهم من قوي على نفسه وإرادته ، فاستعملها فيما ينفعه وكفها عما يضره ، وفي ذلك تتفاوت معارف الناس وهممهم ومنازلهم ، فأعرفهم من كان عارفا بأسباب السعادة والشقاوة ، وأرشدهم ...من آثر هذه على هذه ، كما أن أسفههم من عكس الأمر .
والمعاصي تخون العبد أحوج ما كان إلى نفسه في تحصيل هذا العلم ، وإيثار الحظ الأشرف العالي الدائم على الحظ الخسيس الأدنى المنقطع ، فتحجبه الذنوب عن كمال هذا العلم ، وعن الاشتغال بما هو أولى به ، وأنفع له في الدارين .
فإذا وقع مكروه واحتاج إلى التخلص منه ، خانه قلبه ونفسه وجوارحه ، وكان بمنزلة رجل معه سيف قد غشيه الصدأ ولزم قرابه ، بحيث لا ينجذب مع صاحبه إذا جذبه ، فعرض له عدو يريد قتله ، فوضع يده على قائم سيفه واجتهد ليخرجه ، فلم يخرج معه ، فدهمه العدو وظفر به .
كذلك القلب يصدأ بالذنوب ويصير مثخنا بالمرض ، فإذا احتاج إلى محاربة العدو لم يجد معه منه شيئا ، والعبد إنما يحارب ويصاول ويقدم بقلبه ، والجوارح تبع للقلب ، فإذا لم يكن عند ملكها قوة يدفع بها ، فما الظن بها ؟
وكذلك النفس فإنها تخبث بالشهوات والمعاصي وتضعف ، أعني النفس المطمئنة ، وإن كانت الأمارة تقوى وتتأسد ، وكلما قويت هذه ضعفت تلك ، فيبقى الحكم والتصرف للأمارة .
وربما ماتت نفسه المطمئنة موتا لا يرتجى معه حياة ينتفع بها ، بل حياته حياة يدرك بها الألم فقط .
والمقصود أن العبد إذا وقع في شدة أو كربة أو بلية خانه قلبه ولسانه وجوارحه عما هو أنفع شيء له ، فلا ينجذب قلبه للتوكل على الله تعالى والإنابة إليه والجمعية عليه والتضرع والتذلل والانكسار بين يديه ، ولا يطاوعه لسانه لذكره ، وإن ذكره بلسانه لم يجمع بين قلبه ولسانه ، فينحبس القلب على اللسان بحيث يؤثر الذكر ، ولا ينحبس القلب واللسان على الذكر ، بل إن ذكر أو دعا ذكر بقلب لاه ساه غافل ، ولو أراد من جوارحه أن تعينه بطاعة تدفع عنه لم تنقد له ولم تطاوعه .
وهذا كله أثر الذنوب والمعاصي كمن له جند يدفع عنه الأعداء ، فأهمل جنده ، وضيعهم ، وأضعفهم ، وقطع أخبارهم ، ثم أراد منهم عند هجوم العدو عليه أن يستفرغوا وسعهم في الدفع عنه بغير قوة .

هذا ، وثم أمر أخوف من ذلك وأدهى منه وأمر ، وهو أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال إلى الله تعالى ، فربما تعذر عليه النطق بالشهادة ، كما شاهد الناس كثيرا من المحتضرين أصابهم ذلك ، حتى قيل لبعضهم : قل لا إله إلا الله ، فقال : آه آه ، لا أستطيع أن أقولها .
وقيل لآخر : قل : لا إله إلا الله ، فقال : شاه رخ ، غلبتك . ثم قضى .
وقيل لآخر : قل لا إله إلا الله ، فقال :
يا رب قائلة يوما وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب
ثم قضى .
وقيل لآخر : قل لا إله إلا الله ، فجعل يهذي بالغناء ويقول : تاتنا تننتا . حتى قضى
وقيل لآخر ذلك ، فقال : وما ينفعني ما تقول ولم أدع معصية إلا ركبتها ؟ ثم قضى ولم يقلها .
وقيل لآخر ذلك ، فقال : وما يغني عني ، وما أعرف أني صليت لله صلاة ؟ ثم قضى ولم يقلها .
وقيل لآخر ذلك ، فقال : هو كافر بما تقول . وقضى .
وقيل لآخر ذلك ، فقال : كلما أردت أن أقولها لساني يمسك عنها .
وأخبرني من حضر بعض الشحاذين عند موته ، فجعل يقول : لله ، فلس لله . حتى قضى .
وأخبرني بعض التجار عن قرابة له أنه احتضر وهو عنده ، وجعلوا يلقنونه : لا إله إلا الله ، وهو يقول : هذه القطعة رخيصة ، هذا مشتر جيد ، هذه كذا . حتى قضى .
وسبحان الله ! كم شاهد الناس من هذا عبرا ؟ والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم .
فإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه قد تمكن منه الشيطان ، واستعمله فيما يريده من معاصي الله ، وقد أغفل قلبه عن ذكر الله تعالى ، وعطل لسانه عن ذكره وجوارحه عن طاعته ، فكيف الظن به عند سقوط قواه واشتغال قلبه ونفسه بما هو فيه من ألم النزع ؟
وجمع الشيطان له كل قوته وهمته ، وحشد عليه بجميع ما يقدر عليه لينال منه فرصته ، فإن ذلك آخر العمل ، فأقوى ما يكون عليه شيطانه ذلك الوقت ، وأضعف ما يكون هو في تلك [ ص: 92 ] الحال ، فمن ترى يسلم على ذلك ؟ فهناك يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء [ سورة إبراهيم : 27 ] .
فكيف يوفق بحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطا . فبعيد من قلبه بعيد من الله تعالى ، غافل عنه متعبد لهواه أسير لشهواته ، ولسانه يابس من ذكره ، وجوارحه معطلة من طاعته مشتغلة بمعصيته - أن يوفق للخاتمة بالحسنى .
ولقد قطع خوف الخاتمة ظهور المتقين ، وكأن المسيئين الظالمين قد أخذوا توقيعا بالأمان أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون سلهم أيهم بذلك زعيم [ سورة القلم : 39 - 40 ]
كما قيل :
يا آمنا من قبيح الفعل منه أهل= أتاك توقيع أمن أنت تملكه
جمعت شيئين أمنا واتباع هوى= هذا وإحداهما في المرء تهلكه
والمحسنون على درب المخاوف= قد ساروا وذلك درب لست تسلكه
فرطت في الزرع وقت البذر من =سفه فكيف عند حصاد الناس تدركه
هذا وأعجب شيء منك زهدك في= دار البقاء بعيش سوف تتركه
من السفيه إذا بالله أنت أم ال =مغبون في البيع غبنا سوف يدركه
[ ص: 90 , 91 ]الداء والدواء ابن القيم رحمه الله.