كم تسبح نفسك في فضاء الأحلام وكلما زاد إغراقك في حلمك جدّف بك السير ههنا وههنا في قعر لا حد له ..

تلك فكرة ، فما تكاد تغفو عينُك عليها حتى تَرِد عليك أسطورة أخرى فتجدّف في المسير حتى تُؤخَذ إلى وسط البحر فيمينك بحر وشمالك بحر فما ترفعُ أَهدابَك حتى تَفجأك اليقظةُ ..

وهكذا أنت بين حلم وحلم وما يمنعك منه شيء سوى أنه حُلُم ، فلا حقيقة تقال ولا أمر فيه يُصال .

كم من الناس وَأَدُوا أحلامَهم فماتوا متَّكِئِين على الأرائك يحْتَسُون ما يُذهب عنهم الخيال المُغْرق .

ثمّة أناسوا شمروا عن ساعِدِ السَعْدِ وأَبْرَقُوا لَمْعةَ الفجر فضاءَ لهم النجمُ وأشرقت لهم الشمس ، أولائك أناس تَفَلوا عن شمائلهم ومَضوا قدما نحوَ الفضاء يبحثون عن كوكب مجهول وعن مجرّة مغمورة .

نظروا حولهم فرأوا جبالا شاهقة تَحُوم حولها نسور الموت تخطّفهم ، ورأوا ذئاب الوادي يتصيدون السائر ، وأبصروا حولهم موتى الأحياء ليس لهم هَمٌ في حياتهم إلا دفنُ بناتِ أفكارهم ، فيَطمُونها بالتراب حيةً قد مَدَّت ثغرَها إليهم لها بكاءٌ وعويلٌ .

وكلما صدَّهم صادٌ حثُّوا مسيرهم وجَدَّ جِدُّهم ووَرِيَ زَنْدُهم فامتَطوا جوادَ الأمل بعاديات ضبحا مورياتٍ قدحاً وسَلُّوا حسام العزم يقطِّعون حِبال العجز ، وينفضون ضباب الكسل بعزيمة فلَّت الحديد وقطَّعت أوصاله .. فأثاروا النَّقعَ وتوسطوا الجمعَ .
وإذا غذّ بهم السير تنسَّموا نسيم الحريَّة وكفروا بالعبودية لغير الله فالتحفوا بالعزم وأضاء لهم سُهيل .

وكلما صَدَفوا عن بِئر برز لهم جبٌ له غيابات ، أو عزفوا عن نسوة المدينة راودتهم امرأة العزيز ، أو قيل لهم : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، زادهم ذلك إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل .

لقد وجدوا أملهم في غربتهم فصارت لهم وطنا ، وربيعهم في نُجعتهم فارتضوها سكنا .
فما أشرقت شمس نهارهم حتى كدّوا كداَّ ودكُوا الجبال دكا فمنهم سلك طريقا يبتغي به علما ففرشت الملائكة أجنحتها رضى بما يصنع ، ومنهم من قال أبغوني السوق أبتاع ، ومنهم من باع روحه لله فلا يسمع هيعة أو فزعة إلا طار شوقا إلى الله ..

فيا لله ما أنقى مشيهم وما أزكى طِيبهم ..

أولائك الرجال الشُمّ ، عصبوا رؤوسهم بالعزيمة وركبوا البحر يبحثون عن الشمس التي تغيب فيه .
ليسوا قساةَ القلوب بل حنينُهم يفتّ الكبد ، وليسوا أعرابا جفاة بل قلوبهم أرق من الماء وألطف من الهواء ، تفيض عبرتهم عند مكابدة الشوق و هَُبوب الصبا ..

وما أشد ريح الخزامى عليهم !! تلك تذَكِّرُهم رياحينَهم وفلذاتِ أكبادِهم .
وما أقسى قطر السحاب إذا هطل !! ذلكم الأهل والوطن والأحباب والصِّحاب .

فيَتلفَّت القلب إلى الوراء إلا أن العين شاخصةٌ قُدُما ، وترجع بهم الذكريات إلا أن الهدف أسمى وأغلى :
فإما حياة تسر الصديق .. وإما ممات يغيظ العدى

وما أسرع كرَّ الليال وفرَّها وإقبالَ الأيام وإدبارها ، فتمضي السنون كأنها ارتدادُ الطرف أو هي أكبر فيقوى بأسهم ويحينُ الحصاد فيقطفون الورد ويُأَدُّون زكاة أموالهم ويرجعون بعيون غمرتها المياه الباردة دموع الفرح فيغني البلبل ويحدو على الفنن وتتجاوب الأطيار بإياب الحبيب .
فحذار أخي من السُهاد وجاف الأرض عن جنبك واركب طير السماء وامض للمجد فما أطيب لعابه ويا لذة الظفر به ..

وكلما كانت بدايتُك شديدةَ الإحراق كانت نهايتُك غايةَ الإشراق.

وانظر في التاريخ واعتبر هل رفع التاريخُ غير هؤلاء فما أكثر سواد الناس ، وما أعلى صياحهم إلا أن الأسودَ أسودٌ والنعاجَ نعاجٌ .

فطول مقام المرئ في الحي مُخلِقٌ .. لديباجتـيه فاغتـرب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيد محبة .. إلى الناس إذ ليست عليهم بسرمد

وما أحسن قول الشافعي :

تغرب عن الأوطان في طلب العلا .. وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج هم واكتساب معيشة .. وعلم وآداب وصحبة ماجد
فإن قيل في الأسفار هم وكربة .. وتشتيت شمل وارتكاب الشدائد
فموت الفتى خير له من حياته . بدار هوان بين واش وحاسد