بسم الله الرحمان الرحيم
القاعدة:"رفض النية ينتهض سببا في إبطال العبادة"
في باب أحكام خطاب الشرع وخصوصا في النوع الاول :الاسباب ,تكلم الامام الشاطبي رحمه الله بصيغة موجزة عن هذه القاعدة بدون تفصيل او تطويل , لكن سأحاول انشاء الله تعالى استقراء كلام ابا اسحاق الشاطبي في ما يتعلق بهذه القاعدة من خلال كتابه الموافقات.
التاصيل:
هذه القاعدة لها علاقة وطيدة بقاعدة "الأعمال بالنيات " و"الأمور بمقاصدها"و أصلها ومستندها تابت بنصوص الشرع من الكتاب و السنة :
قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5].
{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2].
وفي الحديث: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل أمريء ما نوى......" إلى آخره.
شرح القاعدة:
كل الأمور ترجع إلى النيات والمقاصد ، فصلاح المقصد شرط في صلاح الأعمال وقبولها والشرط الثاني لها أن يكون العمل صواباً على وفق ما جاء بالوحي من كتاب وسنة أو على وفق مقاصد الشرع العامة وهذا الأساس العظيم بينه الرسول الكريم فيما رواه عنه عمر بن الخطاب رضى الله عنه في الحديث الذي سلف, فالنية والقصد مهمان في تمييز أفعال المكلفين وكذا في استحقاق الأجر والثواب.
وفي هذا يقول الامام الشاطبي:" إن الأعمال بالنيات، والمقاصد معتبرة في التصرفات من العبادات والعادات، والأدلة على هذا المعنى لا تنحصر,ويكفيك منها أن المقاصد تفرق بين ما هو عادة وما هو عبادة، وفي العبادات بين ما هو واجب وغير واجب، وفي العادات بين الواجب والمندوب، والمباح والمكروه والمحرم، والصحيح والفاسد، وغير ذلك من الأحكام، والعمل الواحد يقصد به أمر فيكون عبادة، ويقصد به شيء آخر، فلا يكون ذلك، بل يقصد به شيء فيكون إيمانا، ويقصد به شيء آخر فيكون كفرا، كالسجود لله أو للصنم وأيضا؛ فالعمل إذا تعلق به القصد تعلقت به الأحكام التكليفية، وإذا عري عن القصد لم يتعلق به شيء منها؛ كفعل النائم والغافل والمجنون"
.يقول الامام ابن القيم رحمه الله:" فالقصد والنية والاعتقاد يجعل الشيء حلالا أو حراما في الأفعال ، وصحيحا أو فاسدا في العقود ، وطاعة أو محرمة في العبادات ، أو صحيحا أو فاسدا"
ويقول:" "النية روح العمل ولبه وقوامه، و هو تابع لها ؛ يصح بصحتها، ويفسد بفسادها"
يتضح من كلام علمائنا رحمهم الله ان النية قوام العمل و رأس ماله ,و شرط قبول العمل وصحته : النية الصالحة ، وموافقة السنة ,فرفض النية او الغاؤها ينتهض سببا في ابطال العبادة ولم اقل في ابطال العادة لانها لا تحتاج في الامتثال بها الى نية ,هذا ما قاله الامام الشاطبي رحمه الله نقلا عن الفقهاء ,قال:" الأعمال ضربان: عادات، وعبادات، فأما العادات؛ فقد قال الفقهاء: إنها لا تحتاج في الامتثال بها إلى نية، بل مجرد وقوعها كاف"
استثناءات:
اما رفض النية من طرف المكلف وكونها سببا في إبطال العبادة فليس على إطلاقه , لأننا نجد جماعة من العلماء لا يشترطون النية في بعض العبادات ,قال الشاطبي:" وأما العبادات؛ فليست النية بمشروطة فيها بإطلاق أيضا، بل فيها تفصيل وخلاف بين أهل العلم في بعض صورها؛ فقد قال جماعة من العلماء بعدم اشتراط النية في الوضوء، وكذلك الصوم والزكاة ، وهي عبادات، وألزموا الهازل العتق والنذر، كما ألزموه النكاح والطلاق والرجعة, وفي الحديث: "ثلاث جدهن وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة" وفي حديث آخر: "من نكح لاعبًا، أو طلق لاعبًا، أو أعتق لاعبًا؛ فقد جاز" وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أربع جائزات إذا تكلم بهن: الطلاق، والعتاق، والنكاح، والنذر"
ومعلوم أن الهازل من حيث هو هازل لا قصد له في إيقاع ما هزل به، وفي مذهب مالك فيمن رفض نية الصوم في أثناء اليوم ولم يفطر أن صومه صحيح، ومن سلم من اثنتين في الظهر مثلا ظانا للتمام؛ فتنفل بعدها بركعتين، ثم تذكر أنه لم يتم أجزأت عنه ركعتا النافلة عن ركعتي الفريضة، وأصل مسألة الرفض مختلف فيها؛ فجميع هذا ظاهر في صحة العبادة مع فقد النية فيها حقيقة.

والمسالة ان بعض العلماء اختلفوا في رفض النية لاختلافهم في كونها ,شرطا في بعض العبادات ام لا, فكما قد سبق وان بينت ان النية في العبادات ليست مشروطة باطلاق.
وتعزيزا لهذا القول ,يقول الامام الشاطبي:" من الأعمال ما لا يمكن فيه قصد الامتثال عقلا، وهو النظر الأول المفضي إلى العلم بوجود الصانع، والعلم بما لا يتم الإيمان إلا به؛ فإن قصد الامتثال فيه محال حسبما قرره العلماء؛ فكيف يقال: إن كل عمل لا يصح بدون نية؟ وإذا ثبت هذا كله دل على نقيض الدعوى، وهو أنه ليس كل عمل بنية ولا أن كل تصرف تعتبر فيه المقاصد هكذا مطلقا.
تطبيقات:
مثال 1 :
اختلف العلماء هل رفض نية الصيام يبطل الصيام أم لا يبطله، فمن العلماء من ذهب إلى رفض الصائم لنية الصيام لا يجعل الصوم باطلا.
وذهب المالكية والحنابلة والشافعية في أحد أقوالهم إلى أن الصوم يبطل برفض نية الصوم ,وإذا أخذت برأي من قال إن رفض نية الصوم تبطل الصوم فإن بعض الفقهاء أوجب على من أفطر في صيام التطوع أن يقضي هذا اليوم ,على أن الجمهور لا يقولون بفساد الصيام برفض نية الصيام.
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية:
ذهب المالكية والحنابلة في المذهب والشافعية في قول : إلى أن رفض نية الصوم يبطل الصوم ولو لم يفعل ما يفسد الصيام . وذهب الحنفية وهو الأصح عند الشافعية وقول عند الحنابلة : إلى أن رفض نية الصوم لا يبطل الصوم إلا بمباشرة ما يفطر . انتهى.
مثال 2 :
وهي رفض الإحرام: وهو نية الخروج منه، والإحلال بدون إتمام باقي أنساك الحج أو العمرة .
وقد حكى بعض أهل العلم الإجماع على عدم صحة رفض الإحرام، وأن نية رفض الإحرام لغو غير ملتفت إليها إلا في حالة الإحصار وستأتي، وذلك لقول الله تعالى : { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ } ومِن معاني الإتمام الإكمال، فيجب أن تُكمل أعمال النسك ولا ينقص منها شيء .
وعلى ذلك فإذا أراد المُحرِم بالحج أو العمرة أن يقطع عملَه ولا يتمه لأي سبب من الأسباب فإن إرادته تلك ونيته غيرُ معتبرة، وتعتبر كأن لم توجد بل يبقى على وصف الإحرام ويُحكم بأنه محرِم، فإن فعل شيئاً من محظورات الإحرام ظناً منه أنه صار حلالاً كلبس الثياب والتطيب والحلق وغيرها وجب عليه بفعلها الفدية لأنه فعل محظوراً من محظورات الإحرام حال إحرامه .