بسم الله الرحمن الرحيم
القاعدة: "قد يكون أصل العمل مشروعاً ولكنه يصير جارياً مجرى البدعة من باب الذرائع"
لقد أدرج الإمام الشاطبي رحمه الله في كتاب" الاعتصام" فصلا عنونه بقوله "قد يكون أصل العمل مشروعاً ولكنه يصير جارياً مجرى البدعة من باب الذرائع"
* شرح مصطلح البدعة:
• البدعة في اللغة والاصطلاح:
لغة:بدَع الشيءَ يَبْدَعُه بَدْعاً وابْتَدَعَه أَنشأَه وبدأَه وبدَع الرَّكِيّة اسْتَنْبَطَها وأَحدَثها ورَكِيٌّ بَدِيعٌ حَدِيثةُ الحَفْر والبَدِيعُ والبِدْعُ الشيء الذي يكون أَوّلاً وفي التنزيل قُل ما كنتُ بِدْعاً من الرُّسُل أَي ما كنت أَوّلَ من أُرْسِلَ قد أُرسل قبلي رُسُلٌ كثير .
اصطلاحا:البِدْع ةُ بالكَسْر : الحَدَثُ في الدِّينِ بَعْدَ الإِكْمَالِ ومنه الحَدِيثُ : إيَّاكُمْ ومُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ . أَوْ هِيَ ما اسْتُحْدِثَ بَعْدَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّم مِنَ الأَهْوَاءِ والأَعْمَالِ وهذا قَوْلُ اللَّيْثِ
* القاعدة وشرحها:
معنى القاعدة أن الشرع الحكيم في تشريعه للأحكام قد يأمرنا بأعمال جائزة شرعا ,الأصل فيها الجواز,لكن يتحول هذا العمل عند خروجه عن نطاقه المحدد له من دائرة الجواز إلى دائرة البدعة والضلال فيسد باب هذه البدعة سدا للذريعة.
الامام الشاطبي في شرحه للقاعدة يقول:" وبيانه أن العمل يكون مندوباً إليه ـ مثلاً ـ فيعمل به العامل في خاصة نفسه على وضعه الأول من الندبية فلو اقتصر العامل على هذا المقدار لم يكن بأس ، ويجري مجراه إذا دام عليه في خاصيته غير مظهر له دائماً ، بل إذا أظهره لم يظهره على حكم الملتزمات من السنن الرواتب والفرائض اللوازم ، فهذا صحيح لا إشكال فيه.... فكل ما واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من النوافل وأظهره في الجماعات فهو سنة ، فالعمل بالنافلة التي ليست بسنة على طريق العمل بالسنة ، إخراج للنافلة عن مكانها المخصوص بها شرعاً . ثم يلزم من ذلك اعتقاد العوام فيها ومن لا علم عنده أنها سنة . وهذا فساد عظيم ، لأن اعتقاد ما ليس بسنة والعمل بها على حد العمل بالسنة نحو من تبدليل الشريعة ، كما لو اعتقد في الفرض أنه ليس بفرض ، أو فيما ليس بفرض أنه فرض ، ثم عمل وفق اعتقاده فإنه فاسد ، فهب العمل في الأصل صحيحاً فإخراجه عن بابه اعتقاداً وعملاً من باب إفساد الأحكام الشرعية ، ومن هنا ظهر عذر السلف الصالح في تركهم سنناً قصداً لئلا يعتقد الجاهل أنها من الفرائض كالأضحية وغيرها"
وقد أجاب رحمه الله عن سبب صيرورة هذه الأشياء بدعة إضافية مع أن الأصل فيها هو الجواز و الندب.
قال:"والظاهر منها أنها بدع حقيقية ! لأن تلك الأشياء إذا عمل بها على اعتقاد أنها سنة فهي حقيقية إذ لم يضعها صاحب السنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الوجه ، فصارت مثل ما إذا صلى الظهر على أنها غير واجبة واعتقدها عبادة فإنها بدعة من غير إشكال،
هذا إذا نظرنا إليها بمآلها ، وإذا نظرنا إليها أولاً فهي مشروعة من غير نسبة إلى بدعة أًصلاً .
فالجواب : أن السؤال صحيح ، إلا أن لوضعها أولاً نظرين :
أحدهما : من حيث هي مشروعة فلا كلام فيها .
والثاني : من حيث صارت كالسبب الموضوع الاعتقاد البدعة أو للعمل بها على غير السنة ، فهي من هذا القبيل غير مشروعة ، لأن وضع الأسباب للشارع لا للمكلف والشارع لم يضع الصلاة في مسجد قباء أو بيت المقدس ـ مثلاًـ سبباً لأن تتخذ سنة فوضع المكلف لها كذلك رأي غير مستند إلى الشرع ، فكان ابتداعاً .
وهذا معنى كونها بدعة إضافية . أما إذا استقر السبب وظهر عنه مسببه الذي هو اعتقاد العمل سنة ، والعمل على وفقه ، فذلك بدعة حقيقية لا إضافية.
* امثلة:
خرج الطحاوي و ابن وضاح وغيرهما عن معرور بن سويد الأسدي قال : وافيت الموسم مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فلما انصرفنا إلى المدينة انصرفت معه فلما صلى لنا صلاة الغداة فقرأ فيها : "ألم تر كيف فعل ربك" و "لإيلاف قريش" ثم رأى ناساً يذهبون مذهباً ، فقال : أين يذهب هؤلاء ؟ قالوا : يأتون مسجداً ها هنا صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم .فقال : إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، يتبعون آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعاً ، من أدركته الصلاة في شيء من هذه المساجد التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فليصل فيها وإلا فلا يتعمدها .
وقال ابن وضاح : سمعت عيسى بن يونس مفتي أهل طرسوس يقول : أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم ، فقطعها لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها فخاف عليهم الفتنة .
قال ابن وضاح : وكان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي صلى الله عليه وسلم ما عدا قباء وحده . وقال : وسمعتهم يذكرون أن سفيان دخل مسجد بيت المقدس فصلى فيه ولم يتبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها ، وكذلك فعل غيره أيضاً ممن يقتدى به ، وقدم وكيع أيضاً مسجد بيت المقدس فلم يعد فعل سفيان .
قال ابن وضاح : فعليكم بالاتباع لأئمة الهدى المعروفين ، فقد قال بعض من مضى : كم من أمر هو اليوم معروف عند كثير من الناس كان منكراً عند من مضى .
وقد كان مالك يكره كل بدعة وإن كانت في خير ,وجميع هذا ذريعة لئلا يتخذ سنة ماليس بسنة ، أو يعد مشروعاً ماليس معروفاً .
وقد كان مالك يكره المجيء إلى بيت المقدس خيفة أن يتخذ ذلك سنة ، وكان يكره مجيء قبور الشهداء ، ويكره مجيء قباء خوفاً من ذلك ، مع ما جاء في الآثار من الترغيب فيه .
وسئل ابن كتانة عن الآثار التي تركوا بالمدينة فقال : أثبت ما في ذلك عندنا قباء . إلا أن مالكاً كان يكره مجيئها خوفاً من أن يتخذ سنة .
وقال سعيد بن حسان : كنت أقرأ على ابن نافع ، فلما مررت بحديث التوسعة ليلة عاشوراء قال لي : حوق عليه قلت : ولم ذلك يا أبا محمد ؟ قال : خوفاً من أن يتخذ سنة .
فهذه امور جائزة أو مندوب إليها ، ولكنهم كرهوا فعلها خوفاً من البدعة لأن اتخاذها سنة إنما هو بأن يواظب الناس عليها مظهرين لها ، وهذا شأن السنة ، وإذا جرت مجرى السنن صارت من البدع بلا شك .
ع.يعكوبي