المناظرة فقهية
نص المناظرة:
_ قال أبو مصعب قال أبو يوسف تؤذنون بالترجيع وليس عندكم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه حديث.
فالتفت مالك إليه وقال يا سبحان الله ما رأيت أمراً أعجب من هذا ينادى على رؤوس الأشهاد في كل يوم خمس مرات يتوارثه الأبناء عن الآباء من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا، أيحتاج فيه إلى فلان عن فلان.
هذا أصح عندنا من الحديث.
_ وسأله عن الصاع فقال خمسة أرطال وثلث .
فقال ومن أين قلتم ذلك؟
فقال مالك لبعض أصحابه: أحضروا ما عندكم من الصاع فأتى أهل المدينة أو عامتهم، من المهاجرين والأنصار وتحت كل واحد منهم صاع.
فقال: هذا صاع ورثته عن أبي جدي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال مالك هذا الخبر الشائع عندنا أثبت من الحديث.
فرجع أبو يوسف إلى قوله.


شرح المصطلحات:
1. الترجيع:
الترجيع في اللغة:
قال ابن فارس :"الراء والجيم والعين أصلٌ كبيرٌ مطّرد مُنْقاس، يدلُّ على رَدّ وتَكرار... وامرأةٌ راجع: ماتَ زوجُها فرجَعت إلى أهلها. والترجيع في الصوت: تردِيدُه.
ورجّع الرجلُ وتَرجَّع رَدَّدَ صوته في قراءة أَو أَذان أَو غِناء أَو زَمْر أَو غير ذلك مما يترنم به ...وتَرْجيعُ الصوت تَرْدِيده في الحَلق كقراءة أَصحاب الأَلحان وفي صفة قراءته صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أَنه كان يُرَجِّع الترجِيعُ ترديد القراءة.
وكلُّ شيءٍ يُرَدَّدُ فهو رَجيعٌ؛ لأنَّ معناه مَرْجوعٌ، أي مردودٌ .الصحاح في اللغة.
ومنَ المَجاز : التَّرجِيعُ في الأَذانِ : وهو تَكريرُ الشَّهادَتيْنِ جَهْراً بعدّ إخفائهما .
قال الجرجاني رحمه الله :"الترجيع في الأذان أن يخفض صوته بالشهادتين ثم يرفع بهما".
وقال صاحب المغرب (التَّرْجِيعُ ) فِي الْأَذَانِ أن يَأْتِي بِالشَّهَادَتَي ْنِ خَافِضًا بِهِمَا صَوْتَهُ ثُمَّ يَرْجِعُهُمَا رَافِعًا بِهِمَا صَوْتَهُ.
الترجيع في الاصطلاح:
_ابن عبد البر :"رجوع المؤذن إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله مرتين أشهد أن محمدا رسول الله مرتين [ رجع ] فمد صوته جهرة بالشهادتين مرتين" .
_وعرفه الإمام الدسوقي على الشرح الكبير :"أَنْ يُرَجِّعَ الشَّهَادَتَيْن ِ بِأَعْلَى مِنْ صَوْتِهِ بِهِمَا أَوَّلًا وَيَكُونَ صَوْتُهُ فِي التَّرْجِيعِ مُسَاوِيًا لِصَوْتِهِ فِي التَّكْبِيرِ".
_ابن جزي :"الترجيع هو إعادة الشهادتين مرتين بأعلى صوت من المرتين أولين"
2.الصاع:
الصاع في اللغة:
قال ابن فارس:" الصاد والواو والعين أصلٌ صحيح، وله بابان: أحدهما يدلُّ على تفرُّقٍ وتصدُّع، والآخر إناء ،فالأوَّل قولُهم: تصوَّعُوا، إِذا تفرَّقوا. قال ذو الرُّمَّة:
* تظَلُّ بها الآجالُ عَنِّي تَصَوَّعُ *
فأمَّا الإناء فالصَّاع والصُّوَاع، وهو إناءٌ يشرب به. وقد يكون مكيالٌ من المكاييل صاعاً.
الفيروز آبادي :"الصاعُ والصُّواعُ بالكسر وبالضم والصَّوْعُ ويضمُّ : الذي يُكالُ به وتَدورُ عليه أحكامُ المُسْلمينَ .
أما صاحب القاموس فقد عرفه بقوله :"الصاعُ الذي يُكال به وهو أربعة أمداد والجمع أصْوُعٌ وإن شئت أبدلت من الواو المضمومة همزة.
وقال الفيومي في المصباح المنير :"الصَّاعُ مِكْيَالٌ وَصَاعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ بِالْبَغْدَادِي ِّ.
الصاع في الإصطلاح:
ابن عبد البر في الاستذكار :"الصاع أربعة أمداد بمده صلى الله عليه وسلم ومده زنة رطل وثلث وزيادة شيء لطيف بالرطل البغدادي وهو رطل الناس في آفاق الإسلام اليوم وعلى هذا جمهور العلماء.
الإمام الدردير:" الصاع أربعة أمداد كل مد رطل وثلث بالبغدادي، وقد حرر الصاع فوجد أربع حفنات متوسطة.
ابن ابي زيد القيرواني:" الصاع بمعنى وزنه "أربعة أمدادٍ بمده عليه الصلاة والسلام" و... المد رطل وثلث، فيكون الصاع خمسة أرطالٍ وثلث، وهذا كله مصداق حديث الصحيحين عن أنسٍ قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمدادٍ".
وفي روضة الطالبين :"قال جماعة من العلماء الصاع أربع حفنات بكفي رجل معتدل الكفين .

3.عمل أهل المدينة:
يصعب إعطاء تعريف محدد لعمل أهل المدينة، نظرا لما يحيطه من غموض ولأن تعريفه يحتاج إلى ضوابط تحكمه حتى لا يخرج عن الأصل الذي حدده الإمام مالك رحمه الله، ومن خلال تصفحي لبعض ما ألف في أصول مالك وجدت عند أحد المعاصرين تعريفا دقيقا يحقق المطلوب وهو تعريف للدكتور عبد الرحمن الشعلان حيث عرفه كالتالي قال "عمل أهل المدينة هو : ما اتفق عليه العلماء والفضلاء بالمدينة كلهم أو أكثرهم في زمن مخصوص سواء أكان سنده نقلا أم اجتهادا".
ومن خلال هذا التعريف يمكن أن استخلص النقاط الأساسية التي يتحدد بها عمل أهل المدينة، وهي كالتالي:
● إن عمل أهل المدينة هو ما نقله أهل العلم والفضل من أهلها ، لأن عمل العامة لا يعتد به، وما يؤكد هذا ما ذكره ابن عبد البر في التمهيد قال:" والذي أقول به أن مالكا رحمه الله إنما يحتج في موطئه وغيره بعمل أهل المدينة ، يريد بذلك عمل العلماء والخيار والفضلاء لا عمل العامة السوداء "
● اتفاق كل العلماء أو أكثرهم يعد من العمل عند مالك، فهو يرى أن العمل ينعقد وإن وجد في المدينة قلة من المخالفين وحجيته قائمة عند مالك سواء أحصل اتفاق جميع أهل العلم بالمدينة أم حصل اتفاق أكثرهم ومخالفة قلة منهم.
● لابد من زمن محدد مخصوص لاعتبار عمل أهل المدينة حجة.
● يدخل في عمل أهل المدينة ، الأفعال والأقوال والإقرارات و التروك.


تحليل المناظرات:
هذه المناظرة تحتوي على مسألتين من أهم المسائل التي جرت على المالكية الحابل والنابل ،فهي من قبيل المسائل التي بناها مالك رحمه الهن على أصل فريد من أصوله وهو عمل أهل المدينة ،هذا الأصل الذي كان ولا يزال من الأصول الغريبة على المذاهب الفقهية الأخرى ،وبالتالي فقد جر ولا يزال يجر على المالكية انتقادات واتهامات من شتى الجهات.
والمناظرة التي بين أيدينا هي من هذا القبيل ،تدور بين قطبين وعلمين من أعلام الفقه وشيخين من مذهبين مختلفين ؛المذهب المالكي من جهة ويتزعمه إمام دار الهجرة مالك ابن أنس رحمه الله والمذهب الحنفي من جهة أخرى وعلى رأسه الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة رحمه الله .
ويمكن أن نقسم هذه المناظرة إلى قسمين أو موضوعين اثنين؛ الأول:حول مسألة الترجيع في الآذان والثاني:مسألة قدر الصاع في الزكاة.
تحليل القسم الأول من المناظرة الفقهية
أ.مسألة الترجيع في الآذان:
قال أبو يوسف: تؤذنون بالترجيع وليس عندكم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه حديث.
افتتح الإمام أبو يوسف رحمه الله هذه المناظرة بمقدمة صغرى ،نقض فيها رحمه الله قضية الترجيع في الآذان عند المالكية.
فوجه سؤالا إلى مالك رضي الله عنه واعترض عليه وطلب منه الدليل على هذه المسألة،فهو لم يكتف بالنقض فقط،بل استدل على هذه الدعوى بأنها دعوى لم يرد فيها دليل أو نص صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالمسألة من قبيل القضايا المختلف فيها بين الفقهاء، فقد اتفق الفقهاء على الصيغة الأصلية للأذان المعروف الوارد بكيفية متواترة من غير زيادة ولا نقصان,وهو مَثْنى مَثْنى،كَمَا اتفقوا على التَّثويب,أي الزيادة في أذان الفجر بعد الفلاح وهي:" الصلاة خير من النوم" مرتين،عملاً بما ثبت في السنة عن بلال رضي الله عنه ،ولقوله-صلى الله عليه وسلم- لأبي محذورة- :"... فإذا كان أذان الفجر، فقل: الصلاة خير من النوم مرتين" .
واختلفوا في الترجيع؛فأثبته المالكيةُ والشَّافعيةُ،وأ نكره الحنفيةُ والحنابلةُ:
فعند الحنفية مكروه لاتفاق الروايات على أن بلالا لم يكن يرجع وما قيل أنه رجع لم يصح ولأنه ليس في أذان الملك النازل جميع طرقه ووافقهم على ذلك الزيدية فقالوا:الترجيع غير مشروع والرواية فيه شاذة .
قال الحنفية والحنابلة على المختار : الأذان خمس عشرة كلمة، لا ترجيع فيه، كما جاء في خبر عبد الله بن زيد ، وهي :" الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله،حي على الصلاة، حي على الصلاة،حي على الفلاح،حي على الفلاح،الله أكبر،الله أكبر،لا إله إلا الله" .
واتفق المالكية والشافعية على أن الترجيع سنة فقال المالكية ويسن للمؤذن أن يرجع الشهادتين بأعلى من صوته بهما أولا ويكون صوته في الترجيع مساويا لصوته في التكبير، ولا يبطل الأذان بترك الترجيع بل لم يكن آتيا بسنة الترجيع ، وقال الشافعية: يسن الترجيع في الأذان للصلاة .
فعند المالكية ألفاظ الأذان مثنى مثنى قال ابن عرفة الأذان مثنى الجمل إلا الأخيرة، وقال في الأخيرة الأذان.. سبع عشرة جملة وذلك بترجيع الشهادتين فالذي عليه مالك وأهل المدينة أن ألفاظ الآذان سبع عشرة كلمة، والإقامة عشر كلمات.
قال رحمه الله:"لم يبلغني في النداء والإقامة إلا ما أدركت الناس عليه،فأما الإقامة فإنها لا تثنى،وذلك الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا" .
قال ذلك ولم يوضح بعدها الألفاظ ولكن جاء في المدونة انه قال-كما نقل عنه ابن القاسم-" الأذان الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله، قال: ثم يرجع بأرفع من صوته بها أول مرة فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله، قال: فهذا قول مالك في رفع الصوت، ثم حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله".
فهذه خلاصة الخلاف الواقع في المسألة، وتلك هي أدلة الحنفية في إنكارهم للترجيع وهو السبب الذي جعل أبو يوسف رحمه الله يطرح على مالك رحمه هذه المسألة.ودليل مالك رحمه الله هو ما نستشفه من رده رضي الله عنه .
فقد إلتفت إلى أبي يوسف وأنكر عليه اعتراضه هذا وقال له يا سبحان الله ما رأيت أمراً أعجب من هذا ينادى على رؤوس الأشهاد في كل يوم خمس مرات يتوارثه الأبناء عن الآباء من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا، أيحتاج فيه إلى فلان عن فلان.
منع مالك رحمه الله مقدمة أبي يوسف وذكر مع منعه لها السند الذي ذهب فيه إلى هذا المذهب.
فتحرير المراد من هذا المذهب الذي بنى عليه مالك رحمه الله قضيته، هو ما علله بقوله أن هذا ما توارثه الأبناء عن الآباء من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمانه رضي الله عنه، وهذا الأصل هو ما يسمى في المذهب بعمل أهل المدينة، فهو أقوى دليلا وحجة من الحديث الذي يحتاج فيه إلى فلان عن فلان.
فعمل المدينة مقدم على خبر الآحاد، وهذا ما تدل عليه عبارة مالك رحمه الله "هذا أصح عندنا من الحديث".
تحليل القسم الثاني من المناظرة الفقهية
ب.مسألة مقدار الصاع في زكاة الفطر:
_ وسأله عن الصاع فقال خمسة أرطال وثلث .
هنا فتح أبو يوسف رحمه الله بابا آخر أو قضية أخرى وهي مسألة الصاع في الزكاة وهذا استفسار من أبي يوسف يسأل فيه مالكا رحمه الله عن مقدار الصاع عند أهل الحجاز،لأن صاع أهل العراق يختلف ،بل يزيد عن صاع أهل المدينة ،فأجابه مالك رحمه الله تعريفا للصاع وهو تعريف بالرسم،فقال :الصاع ؛الخمسة أرطال وثلث".
فهنا اعترض أبو يوسف على هذا الجواب، ومنع دعوى مالك رحمه الله وطالبه بالدليل أو النقل الذي استند إليه، فمالك رضي الله عنه ألقى تصديقا خفيا مجردا عن أي تنبيه ومفتقرا إلى دليل يثبته، فلذلك قال رحمه الله (أي أبو يوسف):"ومن أين قلتم ذالك".
_فقال مالك لبعض أصحابه: أحضروا ما عندكم من الصاع فأتى أهل المدينة أو عامتهم، من المهاجرين والأنصار وتحت كل واحد منهم صاع، فقال: هذا صاع ورثته عن أبي جدي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الجواب على اعتراض السائل كان بالاستدلال على هذه المسألة بعمل أهل المدينة وبما تواتره أهلها وعامتهم من المهاجرين والأنصار وبما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،وهذه القضية هي شبيهة في الاستدلال بمسألة الترجيع التي سبقت في القسم الأول.
_فقال مالك هذا الخبر الشائع عندنا أثبت من الحديث.
وقول مالك رحمه الله :" اصح عندنا" و"هذا الشائع عندنا" هي عبارات قصد بها مالك رحمه الله الأخذ بعمل أهل المدينة وما تناقلوه وتواتر عنهم جيلا عن جيل إلى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد احتج عليه مالك رحمه الله بالصيعان الموجودة في ذلك العهد عند أبناء المهاجرين والأنصار بالمدينة؛ فرجع الإمام أبو يوسف إلى ما قاله الإمام مالك.
وقد استدل بعمل أهل المدينة النقلي في هذه المسألة أبو الوليد الباجي رحمه الله، فقال في المنتقى "وَالدليل على صحة ما ذهب إِلَيْهِ مَالِكٌ نَقْلُ أَهل الْمدينة الْمُتصِل رَوَاهُ خَلَفُهُمْ عَنْ سَلَفِهِمْ وَوَرِثَهُ أَبْنَاؤُهُمْ عَنْ آبَائِهِمْ أَنَّ هَذَا الْمد هُوَ مُدُّ النَّبِي صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم وَبِهَذَا احْتَجَّ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّه عَلَى أَبِي يُوسُفَ بِحَضْرَةِ الرَّشِيدِ ، وَاسْتَدْعَى أَبْنَاءَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَكُلٌّ أَتَى بِمُدٍّ زَعَمَ أَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَبِيهِ أَوْ عَنْ عَمِّهِ أَوْ عَنْ جَارِهِ مَعَ إشَارَةِ الْجُمْهُورِ إِلَيْهِ وَاتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَيَقْطَعُ الْعُذْرَ".
كما نص على نقل أهل المدينة المتصل كل من القاضي عبد الوهاب والقاضي عياض وأيضا ابن القيم.
و في الأخير يتضح لنا الغرض و الهدف الأسمى من المناظرة،وهو الوصول إلى الحقيقة و الصواب لا إلى المنازعة والمجادلة والمكابرة،ولو كان هذا الحق سيظهر على لسان الصاحب أو الخصم .
ورجوع أبي يوسف رحمه الله إلى قول مالك ، تؤكده رواية البيهقي عن الحسين بن الوليد عن أبي يوسف نفسه حيث قال بعد ذكره ما كان من أمره مع أهل المدينة قال:"فرأيت أمرا قويا،فقد تركت قول أبي حنيفة في الصاع، وأخذت بقول أهل المدينة"
وهكذا يظهر لنا الإنصاف الذي تحلى به الإمام أبو يوسف رحمه الله في آخر المناظرة، حيث تخلى عن أقواله السابقة ورجع إلى أقوال هي أقرب إلى الحقيقة و الصواب .
خلاصات واستنتاجات:
من أهم النقاط التي يمكن استخلاصها من هذه المناظرة ثلاث نقاط:
• النقطة الأولى:نوع المناظرة
• النقطة الثانية:أسلوب مالك في التنظير.
• النقطة الثالثة:منهجية مالك في الاستدلال.

• النقطة الأولى:أما عن نوع المناظرة ، فهي من قبيل المناظرات الواقعية دون الافتراضية، وما يشهد على ذلك أن أعلامها معروفين ولا يخفون على احد ونسبة وقوع المناظرة ممكنة ،لان كلا العلمين عاشوا نفس العصر، ولان المناظرة منقولة في كثير من كتب التراجم والفقه، ولا يمكن التكلم عن مسألة قدر الصاع او الترجيع في الآذان إلا وتذكر هذه المناظرة معهما.
• النقطة الثانية:أسلوب مالك في التنظير.
من المعروف على الإمام مالك رحمه الله انه كان يعرض عن الجدال والخوض فيه ، ورويت عنه في ذلك آثار كثيرة تنبئ عن وجهة نظره في هذا الفن.
من ذلك :
_ما قاله ابن وهب سمعت مالكاً يقول : القرآن هو الإمام فأما هذا المراء فما أدري ما هو ! "
_ و قال أيضاً : ليس الجدل من الدين بشيئ .
أما ما نقل إلينا من بعض مناظراته فهي قليلة ومعدودة،وهي من قبيل التناظر والجدال المحمود الذي يحدث في المسائل العلمية في أحكام الطهارة والصلاة والزكاة ونحوها،إذا كانت لطلب الحق ولمن هو أهل لذلك.
وقد عزز هذا المنهج ابن عبد البر بقوله"وأما الفقه فاجمعوا على الجدال فيه والتناظر،لأنه علم يحتاج فيه إلى رد الفروع على الأصول للحاجة إلى ذلك " .
أما عن أسلوبه في مجادلة الخصم ،فقد كان أسولبه رحمه الله أسلوبا راقيا رزينا يليق بمقامه العلمي،يحترم كل آداب المناظرة وقواعدها ،ولم يكن غليظا شديدا في الرد على خصمه،فليس ذاك من شيمه رحمه الله، بل لنا في مناظراته رحمه الله دروسا وعبرا.
• النقطة الثالثة:منهجية مالك في الاستدلال.
من كلا المناظرتين اتضح أن الإمام مالك رحمه الله قد اعتمد على أصل من أصوله الفريدة وهو عمل أهل المدينة، وبالأخص ما طريقه النقل المتصل، ويمكن استخلاص قاعدة جليلة مما سلف، نصها " أن عمل أهل المدينة أمر منقول بالتواتر،لا يعارضه حديث".
الهامش:
ترتيب المدارك:2/124
معجم مقاييس اللغة(رجع).
لسان العرب مادة (رجع)و تاج العروس (رجع)
تاج العروس (رجع).
التعريفات باب التاء:1/78
المغرب في ترتيب المعرب: الراء مع الجيم.
الاستذكار- أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري: 1/368،(باب ما جاء في النداء إلى الصلاة). تحقيق : سالم محمد عطا ، محمد علي معوض، دار الكتب العلمية – بيروت ،الطبعة الأولى ، 1421 - 2000
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير. 1/193
القوانين الفقهية لابن جزي:1/37
مقاييس اللغة_لابن فارس: مادة (صوع)
القاموس المحيط:فصل الصاد(الصاع)
مختار الصحاح باب الصاد(صوع)
المصباح المنير في غريب الشرح الكبير:الصاد مع الواو وما يثلثهما.
الاستذكار باب ما تجب فيه الزكاة:3/132.
ا لشرح الكبير لأبي البركات أحمد بن محمد العدوي ، الشهير بالدردير .1/504
الفواكه الدواني 1/363.
روضة الطالبين:2/302
أصول فقه مالك وأدلته النقلية:1042
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد _لابن عبد البر القرطبي:7/222
- رواه الطبراني وغيره.نقلاً من حاشية الفقه الإسلامي وأدلته (1/543).
- رواه أحمد ( أحاديث أبي محذورة المؤذن رضي الله عنه ) رقمه: 15413 وأبو داود في (كتاب الصلاة _باب كيف الاذان) رقمه:423. وصححه الألباني في تمام المنة رقم(88).
- حاشية ابن عابدين حاشية رد المختار على الدر المختار-ابن عابدين: ج 1 ص 359 ، دار الفكر للطباعة والنشر.، بيروت ،سنة النشر 1421هـ - 2000م.
- البحر الزاخر :ج 1 ص 191 .
- اللباب شرح الكتاب(1/62). وما بعدها، وفتح القدير(1/167). نقلاً من حاشية الفقه الإسلامي وأدلته(1/543).
- وهو حديث آذان الملك النازل من السماء، رواه أبو داود في سننه. (كتاب الصلاة _باب كيف الآذان) رقمه:421.
- الفقه الإسلامي وأدلته- أ.د. وَهْبَة الزُّحَيْلِيّ :(1/618) ،دار الفكر - سوريَّة – دمشق ،ط : الطَّبعة الرَّابعة
الدردير ج 1 ص 86 .
نهاية المحتاج ج 1 ص 391 .
مواهب الجليل لشرح مختصر الخليل- للحطاب: ج 2/72 ،ت : زكريا عميرات ،دار عالم الكتب ،ط: طبعة خاصة 1423هـ - 2003م
- المدونة الكبرى للإمام مالك ج1 ص 57 طبع مطبعة السعادة بمصر سنة 1323 هـ .
موطأ الإمام مالك: 1/71( باب ما جاء للنداء في الصلاة) تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي - مصر
المدونة الكبرى:1/157 ، ت : زكريا عميرات ، دار الكتب العلمية بيروت ـ لبنان
المنتقى _للباجي:2/186 (مكيلة زكاة الفطر)
انظر ترتيب المدارك:1/48،أعلام الموقعين:2/374_372
سنن البيهقي: ( كتاب الزكاة_باب ما دل على أن صاع النبي صلى الله عليه و سلم كان عياره خمسة أرطال وثلث )رقمه:7510
رواه ابن بطة في الإبانة ( 2 / 510 )
ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 8 / 67 ) والقاضي عياض في ترتيب المدارك ( 2 / 39 )
رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله:2/187 (باب ما يكره فيه المناظرة والجدال والمراء ) دراسة وتحقيق: أبو عبد الرحمن فواز أحمد زمرلي، الناشر: مؤسسة الريان - دار ابن حزم،الطبعة الأولى 1424-2003 هـ .