تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: منهج التضييق والتشديد في الإفتاء

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jul 2010
    المشاركات
    48

    Lightbulb منهج التضييق والتشديد في الإفتاء

    في ظل الوقائع والأحداث التي يواجهها الإنسان في حياته،وكذا في علاقته مع ربه أو مع غيره و نفسه ، برز لنا علماء و مفتون تصدوا للفتوى ووضعوا لها قواعدها وضوابطها ونهجوا فيها مناهج مختلفة تدور بين التيسير والتشديد ، فاختلفت المناهج باختلاف المفتين.ويعتبر منهج التضييق والتشديد من بين المناهج المعتمدة عند بعضهم.
    منهج التضييق والتشديد:
    من المعلوم علما يقينا أن الشريعة الإسلامية جاءت باليسر والتيسير للعالمين،بما يجلب لهم المصالح ويدرأ عنهم المفاسد ،ويحقق لهم الأمن و الآمان والهناء والاستقرار في حياتهم الدنيوية والأخروية ،وهذا هو المقصد النبيل لهذه الحنيفية السمحاء.
    لذى فمن أهم الميزات التي تميزت بها الشريعة الإسلامية -والفقه جزء منها- السماحة واليسر ورفع الحرج، جعلتها هذه الميزة شريعة مميزة عن باقي الشرائع السماوية السابقة والتي وجد فيها من الأعمال الشاقة ما يتناسب وأحوال وأوضاع تلك الأمم التي جاءت لها تلك الشرائع.
    وقد ذكرت -صفة الرسول بأنه ميسر ومبشر ورافع لتلك الأغلال التي كانت على تلك الأمم السالفة.
    قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ}.
    والأدلة على مبدأ التيسير ورفع الحرج كثيرة، منها قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} فما نافية، والدين يعم كل الأحكام فلا يوجد في ديننا الإسلامي حكم في تطبيقه حرج على المكلفين.
    وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} فهي واضحة الدلالة بينة في معناها من أن الله عز وجل يريد أن ييسر علينا، ولا يعسر علينا، ومن التيسير أن يشرع لنا من الأحكام ما يسهل تطبيقها ولا يشق ذلك على المكلفين مطلقاً.
    وكذلك إذا نظرنا في السُنّة النبوية نجد نبي السماحة والتيسير والرحمة واللين - صلى الله عليه وسلم - يوصي الدعاة من أمته من خلال حديثه مع صحابيين جليلين بعثا للدعوة وهما أبوموسى الأشعري ومعاذ بن جبل قال: (يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا) .
    فالرسول صلى الله عليه وسلم بهذا يضع أسساً راسخة لفقه الدعوة إلى الله عز وجل، بدأ وصيته بالأمر بالتيسير على الناس وعدم التعسير عليهم، أوصى أيضاً كل الدعاة بالتبشير وعدم التنفير، فكل الدعاة لابد أن يتمثلوا روح هذا النص النبوي وتتشرب نفوسهم معاني ذلك الحديث وتلك الوصية الجامعة، فالداعي إلى الله عز وجل عليه أن يتذكر أنه على نهج أول الدعاة إلى الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خير من دعا إلى الله بحكمة وبموعظة حسنة بأن ييسر ولا يعسر، وأن يبشر وألا ينفر.
    قال الشاطبي:" المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يَحمِل الناس على الوسط المعهود فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال. والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة ... بلا إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عنـد العلماء الراسخين ... وقـد رد النبي صلى الله عليه وسلم ( على عثمان بن مظعون رضي اللّه عنه ) التبتل.وقال لمعاذ رضي اللّه عنه لما أطال بالناس الصلاة: أفتّان أنت يا معاذ؟ .
    فالمفتي إن كان في موطن يقتضي التيسير وعسر على الناس فهو مخالف لسنة أول الدعاة إلى الله وإن نفر في موطن يحتاج إلى تبشير فهو مخالف لسنة رسول الله.
    و قال ايضا الشاطبي : "إن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه والدليل على ذلك أمور :
    أحدها: النصوص الدالة على ذلك كقوله تعالى: "وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأَْغْلَـٰلَ ٱلَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ " وقوله: "رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا" . وفي الحديث : " قال الله تعالى قد فعلت " وفي الحديث:" بُعِثتُ بالحَنِيفية السمحة" ، وحديث : " ما خُيِّرَ رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُما أَيْسَرُ من الآخَرِ إلاّ اخْتَار أَيْسَرَهُما مَا لَمْ يُكنْ إِثْماً فَإنْ كَانَ إِثْماً كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ".
    ولو كان قاصداً للمشقة لما كان مريداً لليسر ولا التخفيف ولكان مريداً للحرج والعسر وذلك باطل.
    والثاني : ما ثبت أيضاً من مشروعية الرخص وهو أمر مقطوع به ومما علم من دين الأمة ضرورة كرخص القصر والفطر والجمع وتناول المحرمات في الاضطرار ، فإن هذا نمط يدل قطعاً على مطلق رفع الحرج والمشقّة ، وكذلك ماجاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال.
    ولو كان الشارع قاصداً للمشقة في التكلف لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف" .

    لكن وفي ظل مقصد الشريعة الشريف، ظهر في الناس من يدعون أنفسهم أهل العلم والفهم، فأحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحل الله وقالوا هذا حلال وهذا حرام ظانين بذلك أنهم أصابوا الحق واجتنبوا الباطل، ولكنهم بألسنتهم الحداد فتنوا الناس وضيعوا عليهم دينهم ودنياهم بسبب فتاوى رأوا فيها الصلاح والرشاد اعتمدوا فيها أسلوب التضييق والتشديد في بعد عن جوهر الشريعة" إن هذا الدين يسر"فأسرفوا في القول بالتحريم وتوسيع دائرة المحرمات، مع تحذير القرآن والسنة والسلف من ذلك.
    وحسبنا قوله تعالى "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم هذا حلال وهذا حرام، لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون".

    ويمكن إبراز بعض ملامح منهج التضييق والتشديد في أمر الإفتاء بما يلي:
    1.التعصب المذهبي أو التقليد المذموم :
    تكمن حقيقة التعصب المذموم في أن يعتقد صاحبه أن المذهب الذي سلكه هو المذهب الحق، وأن المذاهب الأخرى باطلة، وهذا التعصب هو الذي ذمه العلماء من المذاهب الأربعة كلها.
    يقول الدكتور مسفر بن على القحطاني "فيؤدي_ هذا التعصب_ إلى انغلاق النظر وحسن ظن بالنفس وتشنيع على المخالف والمنافس مما يولد منهجا متشددا يتبعه الفقيه أو المفتي بإلزام الناس بمذهبه في النظر وحرمة غيره من الآراء والمذاهب ؛مما يوقعه وإياهم في الضيق والعنت بالانغلاق على هذا القول أو ذاك المذهب دون غيره من الآراء والمذاهب الراجحة".
    وفي هذا يقول الإمام أحمد_رحمه الله_:"من أفتى الناس ليس ينبغي أن يحمل الناس على مذهبه ويشدد عليهم".
    وقد كان السلف الصالح رحمت الله عليهم ينهون عن التعصب لأقوالهم و مذاهبهم وكانوا رحمهم الله يتبعون بعضهم البعض إذا ظهر الحق مع أحدهم، وكانوا يتبرؤون من الخطأ ويقولون لتلامذتهم: إذا اتضح لكم الخطأ في قولنا فلا تتبعوه، اتبعوا الحق وخذوا به.
    وهذا قول_إمام دار الهجرة _مالك رحمه الله يشهد عليه، قال:" كلُّ أحَدٍ يؤخذ من قوله ويُترك إلا صاحب هذا القبر" ، يعترف على نفسه بأن أقواله عرضة للخطأ وعرضة للترك، وأنه إذا اتضح فيها خطأ تُترك.
    وهذا إمام السنة أحمد بن حنبل رحمه الله، يقلِّدُ الشافعيَ رحمه الله، أورد ذلك الإمام ابن عساكر في تاريخ دمشق ، والحافظ ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب عن حميد بن أحمد البصري، قال: "كنت عند أحمد بن حنبل نتذاكر في مسألة. فقال رجل لأحمد: يا أبا عبد الله لا يصح فيه حديث، فقال: إن لم يصح فيه حديث، ففيه قول الشافعي، وحجته أثبت شيء فيه".
    وهذا إمام الشافعية في القرن العاشر العلامة ابن حجر الهيتمي رحمه الله يقول كما في الفتوى الفقهية الكبرى :" الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأحمد وسائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم، فجزاهم الله تعالى عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأكمله، وحشرنا في زمرتهم. وإذا كانوا كلهم على هدى من الله سبحانه وتعالى، فلا حرج على من أرشد غيره إلى التمسك بأي مذهب من المذاهب الأربعة وإن خالف مذهبه واعتقاده، لأنه أرشده إلى حق وهدى.اهـ"
    وعلى هذا المنوال سار العلماء قاطبة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة رحمت الله عليهم أجمعين.
    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وإذا نزلت بالمسلم نازلة يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان، ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقول، ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يوجبه ويخبر به، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم»
    فقد نص الإمام ابن تيمية رحمه تصريح منه على عدم لزوم رأي واحد بعينه أو التعصب لمذهب وترك الحق في غيره، بل على المسلم أن يتحرى في استفتائه وعليه أن يستفتي من يعتقد انه من أهل الصلاح ومن يفتي بشرع الله وسنة رسوله الكريم دون النظر إلى مذهبه.
    غير أنه يجب التنبيه إلى مسألة وهي أن التعصب للقول الحق وبمنطق العقل دون إتباع لهوى أو غيره هو من الأمور التي لابأس بها، وأما التعصب لهم – أئمة الاجتهاد – أو لمذاهبهم فنقول فيه:
    التعصب المذهبي إن كان كأثر عن قناعة مطلقة في قضية بأنها الحق، وبالتالي أن يتمسك بها صاحبها قولاً وعملاً، ويدافع عنها بمنطق الحق والعدل، لا بمنطق الهوى، وبمنطق الإخلاص لا بدافع دنيوي، وبروح الأخوة الإسلامية لا بروح الفرقة الكافرة، فذلك لا حرج فيه، بل ذلك الذي عليه الصحابة، ولكن أن يضيِّق الإنسان واسعاً؛ بأن يسفه من ليس على رأيه، ويضللهم ، ويجهلهم في قضيةٍ للاجتهاد فيها محل، فذلك الخطأ كل الخطأ، فإن الشافعي قال: أجمع العلماء على أن الله لا يعذب فيما اختلف فيه العلماء".
    غير أن إلزام الناس بما لا يطيقون و المشقة عليهم بحجة التحوط بمسالك التيسير في الفتوى يعتبر سببا في تنفير الناس من دين الله بإحراجهم بشيء أوجد الشارع لهم فيه فسحه ويكون مخالفا للسنة "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا" .

    2.التأويل الخاطئ للنصوص(التمسك بظواهر النصوص):
    إن الاتجاه الظاهري في تفسير النصوص مذهب قديم، يأخذ بظواهر النصوص، ويجمد عليها، ولا يحفل بالآراء والأقيسة، ولهذا المذهب شذوذات فقهية نتجت عن جموده على ظواهر النصوص، نبه عليها أهل العلم في مظانها.
    فعمدته؛ التمسك بالنصوص، والأخذ بظواهرها، ومما لا شك فيه أن تعظيم النصوص وتقديمها ـ كما يقول الدكتور مسفر القحطاني في بحثه الموسوم بضوابط الفُتيا في النوازل المعاصرة ـ أصل ديني، ومطلب شرعي لا يصح للمجتهد نظر إذا لم يأخذ بالنصوص ويعمل بها، ولكن الانحراف يحصل من التمسك بظواهر النصوص فقط دون فقهها ومعرفة مقصد الشارع منها.
    في كتابه "الاجتهاد المعاصر" يُطلق على "المدرسة النصية الحرفية" اسم "الظاهرية الجدد"، حيث يقول في وصفهم بأن جلهم ممن اشتغلوا بالحديث، ولم يتمرسوا في الفقه وأصوله، ولم يطلعوا على اختلاف الفقهاء، ومداركهم في الاستنباط ولا يكادون يهتمون بمقاصد الشريعة، وتعليل الأحكام بتغير الزمان والمكان والحال".
    "الظاهرية الجدد" وفق توصيف ـ مع ضرورة إثبات الفوارق الجوهرية بين الظاهرية القديمة بمنهجيتها الأصولية المقررة، وغزارتها العلمية الواسعة، والظاهرية الجديدة بإهمالها للقواعد الأصولية، وضحالتها العلمية الظاهرة .
    فالإشكالية إذا تكمن في التأويل الحرفي للنصوص وفي الاقتصار على ما تفيده ظواهر الألفاظ الواردة في النصوص الشرعية وهذا مما لاشك فيه، له أثر سلبي في فهم النصوص واستنباط المعاني، وبالتالي فآثاره ستكون سلبا على السائل أو المستفتي .
    وقد أدى التمادي في هذا الاتجاه إلى بعد كثير من الفتاوى والاجتهادات عن مقتضيات النصوص وتولد منهج امتاز بالتضييق والتشديد، وبتغليب جانب المنع والتحريم، وبالتوسع كثيراً والمغالاة في العمل بسد الذرائع عند الخلاف، يقول الدكتور مسفر القحطاني ناقداً أصحاب هذا مسلك :" فكم من المعاملات المباحة حُرمت وكثير من أبواب العلم والمعرفة أُوصدت وأخرج أقوام من الملة زاعمين في ذلك حكم مخالفة القطعي من النصوص والثابت من ظاهر الأدلة وليس الأمر كذلك عند العلماء الراسخين".
    وقد حذر الإمام ابن القيم رحمه الله من القول على الله ورسوله بما لا نص فيه من كتاب أو سنة، وذاك بتحريم الحلال أوتحليل الحرام والوقوع في الافتراء على الله ورسوله والخروج عما هو منصوص ومقصود من نصوص كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام.
    ويقول في ذلك الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ : "لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله بأنه أحل كذا أو حرمه أو أوجبه أو كرهه إلا لما يعلم أن الأمر فيه كذلك مما نص الله ورسوله على إباحته أو تحريمه أو إيجابه أو كراهيته ..قال غير واحد من السلف : ليحذر أحدكم أن يقول : أحل الله كذا أو حرّم كذا ، فيقول الله له كذبت لم أحل كذا ، ولم أحرمه " .

    3.الغلو في سد الذرائع والمبالغة في الأخذ بالاحتياط عند كل خلاف .
    دلت النصوص الكثيرة على اعتبار سد الذرائع والأخذ به حماية لمقاصد الشريعة وتوثيقاً للأصل العام الذي قامت عليه الشريعة من جلب المصالح ودرء المفاسد . ولله در ابن القيم ـ رحمه الله ـ إذ يقول :
    (( فإذا حرّم الرب تعالى شيئاً وله طرق ووسائل تفضي إليه ، فإنه يحرمها ويمنع منها، تحقيقاً لتحريمه ، وتثبيتاً له ، ومنعاً من أن يقرب حماه ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقصاً للتحريم وإغراءً للنفوس به )) .
    ويحدث الإشكال في اعتبار قاعدة سد الذرائع عندما تؤول المبالغة في الأخذ بها إلى تعطيل مصالح راجحة مقابل مصلحة أو مفسدة متوهمة يظنها الفقيه ؛ فيغلق الباب إساءةً للشرع من حيث لا يشعر كمن ذهب إلى منع زراعة العنب خشية اتخاذه خمراً،والمنع من المجاورة في البيوت خشية الزنا ، فهذه الأمثلة وغيرها اتفقت الأمة على عدم سده،لأن مصلحته راجحة فلا تترك لمفسدة مرجوحة متوهمة.
    ويقول ابن حزم فيمن يبالغ في الأخذ بالاحتياط دون الاستيقان منه: «... فكل من حكم بتهمة، أو احتياط لــم يستيقن أمـره، أو بشيء؛ خوفَ ذريعة إلى ما لم يكن بعد، فقد حكم بالظــن، وإذا حـكم بالظـن فـقد حكـم بالكذب والباطل، وهذا لا يحـل" .
    ومن ملامح التضييق والتشديد في الفتوى في النوازل:
    المبالغة في الاحتياط، ومن أجود تعاريفه؛ تعريف الإمام القرافي قال: (ترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس) ، وأقرّه عليه ابن القيم في (بدائع الفوائد)
    والاحتياط حجّة عند الجمهور من الحنفية ، والمالكية ، والشافعية ، والحنابلة ، إلا أن أكثر المذاهب إعمالاً للاحتياط المذهب المالكي؛ لأن من أصوله الاجتهادية التوسّع في سدّ الذرائع ومراعاة الخلاف، وكلاهما ضـرب مــن الاحتيـاط تُـدفــع به المفاسد المتوقعة أو الواقعة، وتُراعى المآلات بما يستوفي مصلحة الإنسان في العاجل والآجل.
    وقد أنكر ابن حزم الغلو في الاحتياط إلى حد الإفتاء به على وجه الإلزام؛ لأنه مسلك حسن في الدين، محمول على الورع واجتناب ما حاك في الصدر، لكنه لا يرقى إلى الواجب الذي يُقضى به على الناس، يقول: «ليس الاحتياط واجباً في الدين، لكنه حسن، ولا يحل لأحد أن يقضيَ به على أحد، ولا أن يلزم به أحـداً، لكـن يندب إليه؛ لأن الله ـ تعالى ـ لم يوجب الحكم به» .
    فإذا كان الاحتياط أصلاً ثابتاً، ومسلكاً مشروعاً، يستدل عليه بالنصوص القاطعة من الكتاب والسُّنَّة، ويستأنس له بعمل السلف الصالح وفتاوى الأئمة الأربعة، فإن التوسط فيه منزع محمود يليق بمحاسن الشريعة ومقاصدها في التكليف، فلا نغالي فيه إلى حد التنطع والتعمق وإيجاب ما لم يجب، ولا نجفو عنه إلى حد تقحّم الشبهات ومظانِّ الرِّيَب، وقد قيل: إن كل شيء تجاوز حده انقلب إلى ضده.
    ولعل من الغلو في الاحتياط ـ سواء كان أخــذاً بأكثــر ما قيل أو بأثقل ما قيل ـ أن نلزم الناس به على سبيل الوجوب، مع أنه تنزه وتورّع، يقول الدهلوي: «أصل التعمق أن يؤخذ موضع الاحتياط لازماً» ، فمن المرغوب فيه أن يُندب العالم إلى الورع، ويشير باجتناب ما حاك في النفس، إلاَّ أنه لا يقضي بذلك على أحد، ولا يفتي به فتوى إلزام، وإن شاء أن يكون شديد الأزر على نفسه فيأخذها بالتحوط فله ذلك، ما لم يُخشَ عليه التنطع في الــدين، وهـو مهلكة ما بعدها مهلكة.
    وليس كل احتياط يشرع ويستحب من باب الورع والتنزه عن الشبهات! ذلك أن منه ضرباً مذموماً لا يلتفت إليه، وهو ما كان مفضياً إلى محظور شرعي، أو كان من قبيل الوساوس التي تتخذ ديناً وهي إملاء من الشيطان الرجيم، ومن صوره الشائعة: سد الذرائع التي تفضي نادراً إلى المفسدة، والتنزّه عن الرخص المشروعة، والزيادة في المشروع على سبيل الوسوسة.
    كما تجدر الاشارة هنا الى قاعدة جليلة القدر قررها العلماء رحمهم الله تعالى وهي : قاعدة: "الخروج من الخلاف احتياطا للدين" أو كما سماها بعضهم قاعدة: "مراعاة الخلاف".
    فهذه الأخيرة بدورها فهمت على غير المقصود منها عند المحققين من أهل العلم فوسع البعض دائرتها حتى خرجوا من اليسر إلى الشدة والوسوسة, ومن السنة إلى البدعة, على أنه إذا "كان مذهب المخالف في غاية الضعف والبعد عن الصواب فلا نظر إليه ولا التفات عليه" .
    وخير كلام في هذا الصدد ما قرره ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان حيث قال: "وينبغي أن يعلم أن الاحتياط الذي ينفع صاحبه ويثيبه الله عليه: الاحتياط في موافقة السنة وترك مخالفتها, فالاحتياط كل الاحتياط في ذلك, وإلا فما احتاط لنفسه من خرج عن السنة, بل ترك حقيقة الاحتياط في ذلك" .
    فقد أعطانا رحمه الله الضابط الذي بفضله يستطيع المفتي أن يضبط به مسائله و يلتزم به حدود الاحتياط، فجعله في موافقة السنة وترك مخالفتها، فهذا هو النهج القويم لدرء الوقوع في التضييق والتشديد وسلوك طريق التيسير دون إفراط أو تفريط.
    ع.يعكوبي

    أسالكم الدعاء

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jul 2010
    المشاركات
    48

    Lightbulb رد: منهج التضييق والتشديد في الإفتاء

    اهم المصادر والمراجع المعتمدة في هذا الموضوع
    الأعراف_الآية:157
    الحج_الآية:78
    البقرة_الآية:185
    أخرجه مسلم في صحيحه:كتاب الطهارة،باب السواك :رقمه1732
    أبي إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، 5/276. ت : أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان،الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م.
    الأعراف_الآية: 157
    البقرة_الآية: 186
    الموافقات_الإما الشاطبي : 210/2
    مسند الإمام احمد:حديث أبي أمامة الباهلي، رقمه: 22951
    أخرجه مسلم في صحيحه:كتاب الفضائل"باب مباعدته للآثام واختياره من المباح"رقمه:6193
    الموافقات_للإما الشاطبي : 2/212) .
    النحل_الآية:116
    منهج استخراج الأحكام الفقهية للنوازل المعاصرة_ للدكتور مسفر بن على بن محمد القحطاني:ج1/309_310
    الآداب الشرعية لابن مفلح:2/45
    المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة- السَّخاوي، عبد الرحمن : 1/ص513 رقم : 815 ،دار الكتاب العربي.
    قال احد النظام:
    ومالك إمام دار الهجرتي ......... قال وقد أشار نحو الحجرتي
    كل كلام منه ذو قبولي .......... ومنه مردود سوى الرسولي
    والشافعي قال إن رأيتموا ....... قولي مخالف لما رويتموا
    من الحديث فاضربوا الجدار ..... بقولي المخالف الأخبار
    تاريخ دمشق_ ابن عساكر: (51/351) وينظر تهذيب التهذيب_ الحافظ ابن حجر العسقلاني: (9/25)
    الفتوى الفقهية الكبرى_أبو العباس أحمد بن حجر الهيثمي: (4/326) ضبطه:عبد اللطيف عبد الرحمن،الطبعة الأولى ، دار الكتب العلمية،سنة النشر: 1997.
    مجموع الفتاوى_ابن تيمية (20/208، 209).
    جولات في الفقهين الكبير والأكبر وأصولهما (ص119) ، مطبعة دار التراث العربي ،ط:الثانية_القاه رة
    منهج استخراج الأحكام الفقهية للنوازل المعاصرة_ للدكتور مسفر بن على بن محمد القحطاني:ج1/313
    الاجتهاد المعاصر_:ص88
    منهج استخراج الأحكام الفقهية للنوازل المعاصرة_ للدكتور مسفر بن على بن محمد القحطاني:ج1/309
    إعلام الموقعين عن رب العالمين_ ابن القيم الجوزية: 4 / 175 ، تحقيق : طه عبد الرءوف سعد، دار الجيل - بيروت ، 1973

    الغلو في الدين د . عبد الرحمن اللويحق ص 273 ، مؤسسة الرسالة الطبعة الثانية 1413هـ .
    إعلام الموقعين 3 / 135
    الإحكام في أصول الأحكام_ لعلي بن أحمد بن حزم الأندلسي أبو محمد: 6/189.، دار الحديث – القاهرة ،الطبعة الأولى ، 1404
    الفروق للقرافي، 4/368. تحقيق خليل المنصور، دار الكتب العلمية ، بيروت ،سنة النشر 1418هـ - 1998م
    بدائع الفوائد لابن القيم، 3/257.
    أصول السرخسي، 1/345، والتحرير مع تيسير التحرير لابن الهمام، 3/151.
    منتهى الوصول والأمل لابن الحاجب، ص 223 ـ 225، ونفائس الأصول للقرافي، 3/334، ومفتاح الوصول للتلمساني، ص 646.
    المستصفى للغزالي، 2/447، والبرهان للجويني، 1/402، والمحصول للرازي، 5/349.
    العدة لأبي يعلى، 4/1244، والتمهيد للكلوذاني، 1/87، 211، والمسودة لآل تيمية، ص 308، 531
    الإحكام في أصول الأحكام، ، 1/50.
    حجة الله البالغة للدهلوي، 2/134. ت:السيد السابق،دارالجيل .ط:الأولى 1426هـ/2005م
    قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1/216 بتصرف، المحقق : محمود بن التلاميد الشنقيطي، دار المعارف بيروت - لبنان
    إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان_ابن القيم:1/162، تحقيق : محمد حامد الفقي، دار المعرفة – بيروت ،الطبعة الثانية ، 1395 - 1975

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Mar 2011
    المشاركات
    178

    افتراضي رد: منهج التضييق والتشديد في الإفتاء

    أود أن أسأل الأخ نور عن معنى الظاهر عند الظاهريه ثانيا هذا الجمود الذي جمدوه أهو جمود بحق أم بباطل فإن كان بباطل وهو ما يدل عليه السياق فبين لنا وجه بطلانه وإضرب أمثلة على ذلك ثالثا هل رأيت مذهبا على وجه الأرض ليس فيه شذوذات ولعل الظاهرية من أقل المذاهب شذوذا وغرائب ووالله لقد مللنا هذه الدعاوي والمجازفات فنحن في مجلس علم فيا ليت من يرص الكلام ويصفه أن يرصه بعلم و عدل أقول هذا الكلام لنفسي قبل غيري والله الهادي إلى سواء السبيل

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Mar 2011
    المشاركات
    178

    افتراضي رد: منهج التضييق والتشديد في الإفتاء

    وما أدري هذا الطعن في حملة الحديث ونبزهم بالظاهرية ووصمهم بقلة الفقه ومعرفة أصوله كأنهم يتكلمون عن الفيزياء النووية التي لا يفهمها إلا أذكى أذكياء الدنيا ووالله ما رأيت فقيها ليس بمحدث ولست أدري كذلك هذه المقاصد التي لا يعلمها أهل الحديث ولا أدري كذلك كيف يغير الزمان والمكان في الفتوى إلا ما كان منصوصا وعلق تغير الحكم بمكان دون مكان وزمان دون زمان أكيد أنهم لا يقصدون هذا النوع فأهل الحديث أعلم به منهم إنهم يقصدون ما عمت به البلوى وأمثاله حتى يحلوا ما حرم الله وما حكاية شرعنة بعض المعاملات الربوية بإسم الضرورة عنكم ببعيد قد والله سئمت الثرثرة والتكلف وصدق الفاروق حيث قال العلم قال الله قال رسوله ولا أدري ولا أدري نصف العلم رحم الله أهل الحديث ورثة النبي صدقا والمتبعين سنته حقا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Mar 2013
    المشاركات
    29

    افتراضي رد: منهج التضييق والتشديد في الإفتاء

    السلام عليكم
    أخي نور اسلام , هل بالامكان توثيق هذه العبارة من قولكم ,: " فإن الشافعي قال: أجمع العلماء على أن الله لا يعذب فيما اختلف فيه العلماء"., وهل تثبت عنه ؟



الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •