كفاية أم كفاءة؟
خلال مجلس معايدة في أيام الأضحى (1432هـ) أثار أحد الفضلاء هذا السؤال، وبعد البحث وصلتُ إلى الآتي:
خَطَّأَ بعضُ المعاصرين استعمالَ الكُتَّابِ والمتحدثين لفظ "كفاءة" في مثل قولهم: (خَبِيرٌ ذُو كَفَاءَةٍ عَالِيَةً). وقولهم: (أثبتَ فلانٌ كَفَاءَةً في عَمَلِهِ). وقولهم: (كَفَاءَةٌ إنْتَاجِيّةٌ). وقولهم: (ينبغي إسنادُ الوظائفِ إلى ذَوِي الكفاءاتِ). لأن الصحيح هنا استعمال لفظ "كفاية". لكن مجمع اللغة العربية بالقاهرة نص على جَوَازِ اسْتِعْمالِ الكَفاءة لمَعْنَى الكِفايَة (16 / 1). والكَفاءةُ والكَفاءُ مصدر بمعنى النظير والمثيل قال حسّان:
وجِبْريلُ أمينُ اللهِ فينا ... ورُوحُ القُدْس ليس له كَفاءُ
ومنها الكفاءة في الزواج بمعنى المقاربة والمساواة، وأما الكفاية فهي بمعنى: القدرة على الشيء، فيقال: هو كافٍ لهذا الأمر وكَفِيٌّ به. أي: ينهض به، والمصدر: الكفاية، وجمع كاف: كُفاة، ولكن المتتبع للسابقين يجد استعمال "كفاءة" بمعنى"كفاية"، ومن ذلك ما قاله صلاح الدين الصفدي (ت:764هـ) في كتاب (أعيان العصر وأعوان النصر ) مادحاً لأحد الوزراء الكُتّاب:
فَأَيْنَ ابْنُ الْعَمِيدِ إذَا رَآهُ ....... يخطُّ بَنَانُهُ وَابْنُ الْعَدِيمِ
وأيْنَ كَفَاءَةُ الوُزَرَاءِ مِنْهُ ... إذَا مَا قَامَ فِي الأَمْرِ الْعَظِيمِ
وقال في نفس الكتاب عند الحديث عن الأمير شهاب الدين الأشرفي الجوكندار: (كان معدوداً في الأبطال...معروفا في الشام ومصر بالكَفَاءَةِ). وقال ابن كثير _رحمه الله_ في البداية والنهاية (1 / 241) عند حديثه عن يوسف _عليه السلام_ لمَّا طلب من الملك أن يجعله على خزائن الأرض: (وفي هذا دليلٌ على جوازِ طلبِ الولايةِ لمن علِمَ منْ نفْسِهِ الأمانةَ والكفاءةَ). وقال أيضاً في البداية (18 / 76) في ترجمة جَمَالِ الدِّينِ يُوسُفَ الْعَجَمِيِّ: (وَكَانَ الْعَجَمِيُّ مَوْصُوفًا بِالْأَمَانَةِ وَالْكَفَاءَةِ). وقال أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط (5 /263) حول تفسير اجعلني على خزائن الأرض: (وصف نفسَهُ بِالْأَمَانَةِ وَالْكَفَاءَةِ). وذكر قبل ذلك في تفسيره (2 /263) لآية المداينة حول صفات الشهود فقال: (واختلفوا في تفسير قوله: {مِمَّن تَرْضَوْنَ} فقال ابنُ عباس: منْ أهلِ الفضلِ والدِّينِ وَالْكَفَاءَةِ). وقال الإمام الذهبي _رحمه الله _ في كتاب العِبَر (2 / 47) في ترجمة أحمد بن عبد الله الخِرَقِي: (ظهرتْ منهُ صرامةٌ وعفةٌ وكفاءةٌ). وقال في كتاب تاريخ الإسلام (32 / 112) في ترجمة حمد بن محمد الأسديّ الزُّبيديّ الآمليّ: (كان من رجالِ الدَّهرِ رأياً وكفاءةً). وقال ابن خلدون في تاريخه (5 /223): (ظهر من عماد الدين زنكي من الْكَفَاءَةِ والغَنَاء في ولاية البصرة وواسط ما ظهر).
قال النويري في نهاية الأرب (23 /167) : ( وفي سنة أربع وأربعين [بعد الخمسمئة] استوزر الخليفةُ أبا المظفر يحيى ابنَ هُبيرة ... فظهرت منه كفاءةٌ عظيمة). وقال أيضاً في المرجع ذاته (26 / 127) عندما تحدث عن طريقة عضد الدولة في تعيين العمّال والولاة: (كان لا يعوَّل في الأمور إلا على الْكَفَاءَةِ). وذكر الشيخ عبد الرزاق البيطار في حلية البشر (1 /401) هذين البيتين في الرثاء:
وإنّا وإنْ كنَّا فقدناه واحداً ... وقد عَزَّ أن يأتي به الدهرُ ثانيا
فأنجاله الأمجاد فيهم كفاءةٌ ... بإحرازها حازوا الثنا والمعاليا
وبعد كل هذه النُّقُول لا بد من معرفة أن لفظ "الكفاية" هو الصحيح الفصيح، وإن استعملوا "كفاءة" مكانه تجوّزاً، وقد قال الجاحظ: ( إنّ أمْثَلَ ما يَقْطَعُ به الفُرَّاغُ نهارَهم وأصحابُ الكفاياتِ ساعاتِ ليلِهِمْ نَظَرٌ فِي كِتَاب). المحاسن والأضداد (ص: 5). والله تعالى أعلم.