تجريد النية لله سبحانه وتعالى مع المحافظة على سلامة هذه النية من أول العمل إلى منتهاه
هو أشقّ ما يجاهد به المرء قلبه في فكّ أسره من قيود حظوظ النفس كيما يحلّق في فضاء التوحيد
فيشهد مقامات العبودية في أبهى صورها..
وبذلك تسلم أعماله من كلاليب الأرض التي تجذبه سفولا نحو الأرض..وحتى سابع أرض
فمخدوش ناج..ومكدوس في غيابات الآفات..التي تحرق أعماله حرقا "فأصابها إعصار فيه نارٌ فاحترقت"
وقلّ من يسلم..!
وفي ميدان التنافس تزداد حدة الضراوة..مع ما يوقده الشيطان من أزّه المعروف
فيوحي بعشرات المسوّغات موهما إياك أنّ
عملك خالص..بل خالصٌ جدا..بدليل كذا وكذا..وكيت وكيت
ولمّا كان طالب العلم..ممدوحا في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلّم
ومحمودا في أعين الناس بما يقدّمه من فوائد
ثم هو -مع ذلك-يشعر بتميّزه لما بذله من جهدٍ في التحصيل وتعنٍّ في الطلب
وكان فوق ذلك مجبولا على حبّ المدح لما يورثه ذلك من شعور بأنّ له شأنا وتميّزا
وقد كان أيضا يطالع التراجم..فيجد المدائح تكال لأهل العلم بألفاظٍ هي من أبلغ ما أنت سامع من عيون كلام العرب
فتراه يستبق محاكاتهم لا بتجريد النية والعلم والعمل والجهاد فيه
بل بالطرب على سماع الثناء الحسن والتبجيل الغالي
فإن قيل:هذا الداء..فأين الدواء؟
الجواب تكفّل به الإمام المبارك ابن القيم رحمه الله تعالى فتأمّل كلامه..وكن أذنا واعية:-
يقول:"لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار ، والضب والحوت ، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولا فاذبحه بسكين اليأس ، وأقبل على المدح والثناء ، فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة ، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخـلاص "
هذه وصفة طبيب قد دلّتنا كتبه وسيرته
أنه كان ساميا في شهود مقامات التوحيد
حتى إنّ نبض قلبه الحيّ ليكاد يقرع سمعك وأنت تقرأ له في المدارج أو غيره
وإليك بيان ما قال..ولا يفتي في أمراض القلوب إلا حذّاق الإخلاص..
فإنّهم جمعوا بين علم الكتاب..وذاقوا حلاوة ما عملوا به ..
فرزقهم الله علم مالم يعلموا ابتداء
فكانوا الطبيب والمجرّب معاً
أولا-لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار ، والضب والحوت
هذه الحقيقة المسلّمة..خذها بقوّة..فهي أول جرعة للشفاء
وهي أشبه بقول طبيب الأبدان لمريضه :لا يتأتى لك البُرء وأنت تأكل كذا وكذا..فأقلع أولا ثم تطلّب العلاج
ثانيا-فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولا فاذبحه بسكين اليأس
ومن عجب أن تكون سكّين اليأس حادّة إذا تعلّق الأمر بما عند الله..أعني اليأس بما عند الله..لضعف اليقين
فإن قيل كيف السبيل إلى قطع الطمع المذكور؟
تأمّل الجواب عمليّا من فعل الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى:
يقول الحافظ ابن عبد الهادي عن البعلي قال:ذكر
لنا مرة الشيخ ابن رجب مسألة فأطنب فيها ، فعجبتُ من ذلك ، ومن إتقانه لها ، فوقعتْ بعد ذلك في محضر من أرباب المذاهب ، وغيرهم ؛ فلم يتكلم فيها الكلمة الواحدة !
فلما قام قلتُ له: أليس قد تكلمتَ فيها بذلك الكلام ؟!
قال : إنما أتكلمُ بما أرجو ثوابه ، وقد خفتُ من الكلام في هذا المجلس
فإن قلت..لخّص الجواب في كلمة!
قلت:عظّم الربّ في قلبك..يحقر عندك ما في أيدي الناس..
وتعظيم الرب وخشيته وإقداره قدره له وسائل..تجدها منثورة في كتاب الله والسنة وسير الصالحين
فإن ثقل عليك ذلك..فحسبك أن تتعرّف على الله بأسمائه وصفاته..ثم تقرن ذلك بحقارة المخلوق الفقير..ولا تنس أيضا
أنك من هذا الجنس الأخير
ثالثا-وأقبل على المدح والثناء ، فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة ، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخـلاص
هذا الكلام النفيس..ليس غير شرح لما هو أنفس منه أعني كلام رسول الله
فعن سهل بن سعد الساعدي قال: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس))
فتدبر هذه القاعدة النبوية..تنفتح لك أسرار كثيرة..من أسرار الإخلاص وحسن العمل
وأما قوله"زهد عشاق الدنيا في الآخرة"
ففيه من المعاني ما تعلم به يقينا أن نور العلم الذي يؤتاه العلماء الربانيون
ما تفهم به معنى وراثة النبوة
ولذلك تجد من أقوالهم البليغة السديدة
ما لا يمنعك من نسبته لرسول الله إلا الإسناد..والإسنا د وحده
وهنا طالب الإمام من ابتغى وجه الله حقا بأن يجعل زهده فيما عند الناس كزهد عشاق الدنيا فيما عند الله..ولم يزد على ذلك..كأن يقول:اجعله أعظم
لأن عاشق الدنيا..مأطور بها..فلما احتجبت عنه الآخرة..وأمده في معشوقته قصير جدا
كان فيها لاهثا يركض فيها ركض الوحوش في البريّة..ليحصّل منها قدر وسعه قبل مفارقتها
فإنه ما من يقين أشبه بالشك من الموت كما قال علي رضي الله عنه..
هذا واعلم أنه لا يبعد أن يكون كاتب هذا
لم يسلم مما يعظ به أثناء كتابته!
ولذلك قال سفيان:ما عالجت شيئا أشدّ عليّ من نيّتي
ومن الدربة على كل ما سبق..المبالغة في تكثير أسرارك مع الله
أعني تلك التي لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى..من أعمال صالحة
وصل اللهم على سيدنا محمد