الأمن من مكر الله
قال الله تعالى " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة " أي أخذهم عذابنا من حيث لا يشعرون قال الحسن : من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له ، و من قتر عليه فلم ير أنه ينظر إليه فلا رأي له ثم قرأ هذه الآية :
" حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون " .
و قال : مكر بالقوم و رب الكعبة أعطوا حاجتهم ثم أخذوا .
و " عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب و هو مقيم على معصيته فإنما ذلك منه استدراج ثم قرأ : " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون " " .
الإبلاس : اليأس من النجاة عند ورود الهلكة ، و قال ابن عباس أيسوا من كل خير . و قال الزجاج : المبلس الشديد الحسرة اليائس الحزين .
و في الأثر : أنه لما مكر بإبليس ـ و كان من الملائكة ـ طفق جبريل و ميكال يبكيان ، فقال الله عز و جل لهما : مالكما تبكيان ؟ قالا : يا رب ما نأمن مكرك فقال الله تعالى : هكذا كونا لا تأمنا مكري . و كان النبي صلى الله عليه و سلم يكثر أن يقول : " يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك " فقيل له يا رسول الله أتخاف علينا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء " .
و في الحديث الصحيح " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه و بينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها " .
و في صحيح البخاري " عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار و إنه من الجنة ، و يعمل الرجل بعمل أهل الجنة و إنه من أهل النار ، و إنما الأعمال بالخواتيم " .
و قد قص الله تعالى في كتابه العزيز قصة بلعام . و إنه سلب الإيمان بعد العلم و المعرفة ، و كذلك برصيصاً العابد مات على الكفر ، و روي أنه كان رجل بمصر ملتزم المسجد لللآذان و الصلاة ، و عليه بهاء العبادة و أنوار الطاعة ، فرقي يوماً المنارة على عادته للآذان ، و كان تحت المنارة دار لنصراني ذمي فاطلع فيها فرأى ابنة صاحب الدار ـ و كانت جميلة ـ فافتتن بها و ترك الآذان و نزل إليها فقالت له : ما شأنك و ما تريد ؟ فقال : أنت أريد . قالت : لا أجيبك إلى ريبة . قال لها أتزوجك ، قالت له : أنت مسلم و أبي لا يزوجني بك ، قال : أتنصر . قالت له : إن فعلت أفعل ، فتنصر ليتزوجها و أقام معهم في الدار ، فلما كان في أثناء ذلك اليوم رقى إلى سطح كان في الدار فسقط فمات ، فلا هو فاز بدينه و لا هو تمتع بها . نعوذ بالله من مكره و سوء العافية و سوء الخاتمة . و " عن سالم عن عبد الله قال : كان كثيراً ما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحلف لا و مقلب القلوب " رواه البخاري ، و معناه يصرفها أسرع من ممر الريح على اختلاف في القبول و الرد و الإرادة و الكراهة و غير ذلك من الأوصاف . و في التنزيل " و اعلموا أن الله يحول بين المرء و قلبه " قال مجاهد : المعنى يحول بين المرء و عقله حتى لا يدري ما تصنع بنانه " إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب " أي عقل ، و اختار الطبري أن يكون ذلك إخباراً من الله تعالى أنه أملك لقلوب العباد منهم و أنه يحول بينهم و بينها إن شاء حتى لا يدرك الإنسان شيئاً إلا بمشيئة الله عز و جل . و " قالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكثر أن يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك . فقلت : يا رسول الله إنك تكثر أن تدعو بهذا فهل تخشى ؟ قال : و ما يؤمنني يا عائشة و قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ، إذا أراد أن يقلب قلب عبد قلبه " . فإذا كانت الهداية معروفة و الإستقامة على مشيئته موقوفة و العاقبة مغيبة و الإرادة غير مغالبة ، فلا تعجب بإيمانك و عملك و صلاتك و صومك و جميع قربك ذلك إن كان من كسبك ، فإنه من خلق ربك و فضله الدار عليك ، فمهما افتخرت بذلك كنت مفتخراً بمتاع غيرك ، ربما سلبه عنك فعاد قلبك من الخير أخلى من جوف العير .
فكم من روضة أمست و زهرها يانع عميم ، أضحت و زهرها يابس هشيم ، إذ هبت عليها الريح العقيم ، كذلك العبد يمسي و قلبه بطاعة الله مشرق سليم . و يصبح و هو بمعصية الله مظلم سقيم ، ذلك تقدير العزيز العظيم .
ابن آدم . الأقلام عليك تجري ، و أنت في غفلة لا تدري ، ابن آدم دع المغاني و الأوتار ، و المنازل و الديار ، و التنافس في هذه الدار ، حتى ترى ما فعلت في أمرك الأقدار ، قال الربيع : سئل الإمام الشافعي رحمه الله
تعالى :
ينادي مناد من قبل العرش : أين فلان أين فلان فلا يسمع أحد ذلك الصوت إلا و تضطرب فرائصه ، قال ، فيقول الله عز و جل لذلك الشخص : أنت المطلوب هلم إلى العرض على خالق السموات و الأرض فيشخص الخلق بأبصارهم اتجاه العرش و يوقف ذلك الشخص بين يدي الله عز و جل ، فيلقي الله عز و جل عليه من نوره يستره عن المخلوقين ثم يقول له : عبدي أما علمت أني كنت أشاهد عملك في دار الدنيا ؟ فيقول : بلى يا رب ، فيقول الله تعالى : عبدي أما سمعت بنقمتي و عذابي لمن عصاني ؟ فيقول : بلى يا رب ، فيقول الله تعالى : أما سمعت بجزائي و ثوابي لمن أطاعني ؟ فيقول : بلى يا رب ، فيقول الله تعالى : يا عبدي عصيتني ؟ فيقول : يا رب قد كان ذلك ، فيقول الله تعالى : عبدي فما ظنك اليوم بي ؟ فيقول يا رب أن تعفو عني ، فيقول الله تعالى : عبدي تحققت أني أعفو عنك ؟ فيقول : نعم يا رب لأنك رأيتني على المعصية و سترتها علي : قال فيقول الله عز و جل : قد عفوت عنك و غفرت لك و حققت ظنك ، خذ كتابك بيمينك فما كان فيه من حسنة فقد قبلتها ، و ما كان من سيئة فقد غفرتها لك و أنا الجواد الكريم .
إلهنا لولا محبتك للغفران ما أمهلت من يبارزك بالعصيان ، و لولا عفوك و كرمك ما سكنت الجنان .
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا .
اللهم انظر إلينا نظر الرضى ، و أثبتنا في ديوان أهل الصفا ، و نجنا من ديوان أهل الجفا .
اللهم حقق بالرجاء آمالنا ، و حسن في جميع الأحوال أعمالنا ، و سهل في بلوغ رضاك سبلنا و خذ إلى الخيرات بنواصينا ، و آتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة و قنا عذاب النار .