تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: مقال في بدعة الوسطية

  1. افتراضي مقال في بدعة الوسطية

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله وحدهُ ، الآمرُ بالاتباع وترك الابتداع ، فقال عزَّ ذكره : {ثمَّ جعلناك على شريعةٍ مِن الأمر فاتَّبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} [سورة الجاثية 18] ، والصلاةُ والسلام على نبيهِ محمد البشير النذير القائل {إن أتَّبعُ إلاَّ ما يُوحى إلي} وآله وصحبه أجمعين ، وبعد :
    فهذا مقالٌ مختصرٌ وجيز ، في فضحِ أقوامٍ زعموا بأنَّهم على طريقٍ مستقيم ، فقالوا لو نحن بأوساط الأمور لكنَّا مِن جملة المهتدين فبالأوساط نحنُ مستمسكين ، وأوساطُ الأمور هي السلامةُ مِن كل لسان ، والبقاءُ عليها قطعٌ على المفاسد وجلبٌ للمصالح .
    قلتُ : واتِّخاذها منهجًا هو بابٌ لكل آفة ، ومفتاحٌ للشرور مِن تعطيلٍ لأحكام الله والجرأةِ على تقييمها والانتقاص مِنها . وقد اغترَّ بهؤلاء الوسطيين بعضٌ مِن المخذولين المغفلين ، واستجابوا لدعوتهم الشيطانية ، ثم رأيتُ أنَّ علماءنا الصادقين قد كتبوا في الرد عليهم ، وجاوزوا حدَّ القدح فيهم حتى كادوا أن يخرجوهم مِن ملة الإسلام ، كيف لا وهم جهميَّة زماننا ؟ فقلتُ : لعلي أسير في ركب هؤلاء الصادقين ، وأكتبُ مقالاً مختصرًا وجيزًا أنالُ به الأجر والثواب وشرف الانتساب إلى مذهب السلف الصالح .
    ومِن خلال مقالي هذا أرغبُ في نقد شيوخنا الصادقين ، وإرشادهم لي على مواضع الخطأ مع تصحيح الخطأ وبيان الصواب مِن القول ، والله المستعان .

    المسألةُ الأولى : في بيان منهج السلف الصالح ، وهو مطلق الاتباع وترك الابتداع والرضا والتسليم لأحكام الله وإن لم تتبين لهم المصلحة أو العلة مِن الحكم :

    أولاً : الأدلةُ مِن القرآنِ والسنَّة على وجوب الاتباع والتسليم لأحكام الله وشرائعه دون مراعاة المصلحة فيها ، وهي أدلة كثيرة جدًا أذكر شيئًا مِنها :
    * فمِنها قول الله تعالى : {وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرةُ مِن أمرهم ومَن يعص الله ورسوله فقد ضلَّ ضلالاً مبينًا} [سورة الأحزاب 36] ، وقد رُويَ مِن الأثرِ في نزول هذه الآيةِ روايتان : الأولى : أنَّها نزلت في زينب بنت جحش حين خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتاهُ زيد بن حارثة ، فامتنعَت لكونه عبدًا وأنَّها خيرٌ مِنه حسبًا . والروايةُ الثانيةُ : أنَّها نزلت أُمِّ كلثوم بنتِ عقبة بن أبي معيط ، وذلك أنَّها وهَبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فزوَّجها فتاهُ زيد بن حارثةَ ، فسخطَت لنَسَبِهِ .
    * ومِنها قول الله تعالى : {فليحذر الذين يخالفون عن أمرهِ أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذابٌ أليم} [سورة النور 63] .
    * ومِنها قول الله تعالى : {لا يُسألُ عمَّا يفعلُ وهم يُسألون} [سورة الأنبياء 23] . قال ابن جريج رحمه الله في هذه الآية : (لا يُسألُ الخالقُ عن قضائهِ في خلقهِ ، وهوَ يَسألُ الخلقَ عن عملهم) ، وقال الضحَّاك في هذه الآية : (لا يُسألُ الخالقُ عمَّا يقضي في خلقهِ ، والخلقُ مسئولون عن أعمالهم) [انظر تفسير الطبري ج16/ص247] .
    * ومِنها قول الله تعالى : {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيتَ ويسلموا تسليمًا} [سورة النساء 65] .
    * ومِنها ما رُويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم في خبر وفد ثقيف ، لما جاءوه ليسلموا ويُبايعوا [رواها البيهقي ج5/ص299] ، فإنَّهم طلبوا مِنه السماح لهم بالزنا لحاجتهم إليه في الغُربة فأبى ذلك ، وطلبوا مِنه السماح لهم بالربا لأنَّها أموالهم كلها فأبى ذلك ، وطلبوا مِنهُ السماح لهم بالخمر فأبى ذلك ، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم آخذًا بالمصالح لتَدَرَّج بالقومِ وأعطاهم شيئًا مِن ذلك ولو يسيرًا ليتألف قلوبهم ، ولكنَّه لم يعتبر بهذه المصالح ، وأبى إلاَّ تنفيذ أوامر الله .
    ثانيًا : ذكر شيءٍ مِن آثار السلف في الاتباع والامتثال المطلق :
    * مِنها ما رُويَ عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه في إقدامهِ على بعث جيش أسامة بن زيد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو الجيش الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام قد قضى بمسيرهِ إلى الشام [رواها الطبري في تاريخه ج2/ص245] ، فلمَّا مات النبي صلى الله عليه وسلم نجمَ النفاق في المدينة وعظم وارتدَّ مَن ارتدَّ مِن العرب حول المدينة ، ولم يبق للجمعة مُقامٌ في بلدٍ سوى مكة والمدينة ، ومع ذلك أرسل الصديق جيش أسامة إلى الشام ، وكان قد أشار عليه كثيرٌ مِن الناس بأن لا ينفذه لاحتياجه إليهم ، فأبى وقال مقولته الشهيرة : (والذي نــفـسُ أبي بكر بــيـدهِ ، لو ظـنــنــتُ أنَّ السِّـــباع تخطفني لأنــفـذتُ بــعــثَ أُسامة كما أَمَر بهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولوْ لم يَـــبْقَ في القُرَى غيري لأنفذتهُ) ، ولو كان رضي الله عنهُ عاملاً بالمصلحةِ ومُفضِّلاً ما رأى الناسُ مِن مصالح قطعيَّة على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما صنعَ صنيعهُ هذا ولما قال مقولتهُ هذه ، فلمَّا رجعوا سالمين غانمين تبيَّن للناس بأنَّ المصلحة الكبرى في فعله رضي الله عنه ، وهابتهم العرب بسبب ذلك .
    * ومِــنــهُ قــول عــبد الله بن مــســعـــود رضي الله عــنــه : (إنَّــا نـــقـــتـــدي ولا نـــبـــتـــدي ، ونـــتـــبـعُ ولا نـــبـــتـــدع ، ولن نـــضـــلَّ ما تـمســكــنــا بالأثــر) انــتـهى [رواه اللالكائيُّ ج1/ص96] .
    * ومِنهُ قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله : (سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاةُ الأمر بعدهُ سُنَنًا ، الأخذُ بها تصديقٌ لكتابِ الله عز وجل ، واستكمالٌ لطاعتهِ ، وقوةٌ على دين الله ، وليس لأحدٍ تغييرها ولا تبديلها ولا النظرُ في رأي مَن خالفها ، فمَن اقتدى بما سنُّوا اهتدى ومَن استبصرَ بها أبصرَ ، ومَن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاَّهُ الله عزَّ وجل ما تولاَّهُ وأصلاهُ جهنَّم وساءت مصيرًا) انتهى [رواه اللالكائيُّ ج1/ص106] .

    المسألةُ الثانية : في بيان معنى الوسطية :

    الوسطُ في اللغة يأتي على معنيين :
    (1) المعنى الأوَّل : وسط الشيء خيارُهُ وأعدلهُ ، ومِنهُ قول أبي سفيان لهِرَقل ملك الروم : "هو أوسطنا حسبًا" أي : مِن أشرفنا وأحسبنا . قال ابن الأثير رحمهُ الله : (ومِنهُ سُمِّيَت الصلاة الوسطى ، لأنَّها أفضلُ الصلاة وأعظمها أجرًا ، ولذلك خُصَّت بالمحافظة عليها) انتهى [النهاية في غريب الحديث ج5/ص160] .
    (2) المعنى الثاني : الوسطُ هو الجزء الذي بين شيئين ، وهذا المعنى هو أصلُ مفهوم منهج الوسطية المزعوم في دين الله .
    أمَّا معنى الوسطية في الاصطلاح : فهي الطريق الوسط في دين الله ، فالوسطيَّة منهجًا : العملُ بما بين الغلو والتقصير والتشديد والتخفيف . ولتحديد هذا المنهج عند الوسطيين ، فإنَّه لابد لهم مِن معرفة مقادير المصالح والمفاسد في الأحكام الشرعيَّة حتى يخلصوا إلى الوسط مِنها .

    المسألةُ الثالثة : في بيان حقيقة التوسط في الدين :
    لـمَّا بيَّنا معنى المنهج الوسطي في دين الله ، ساغ لنا أن نقول : إن دين الإسلام ليس كله وسطًا بين أمرين ، وإذا كنا نتكلم عن سلوك الوسط في دين الله فإنَّنا نقف أمام نوعين مِن الأحكام :
    [1] النوع الأول : أحكامٌ نصَّ الشارع الحكيم على أنَّها وسط ، وهذه وإن كان الشارع الحكيم قد نصَّ على أنَّها هي الوسط ، فإنَّ علةَ الأخذ أو العمل بها عند المسلمين ليس لما فيها مِن وسطيَّة ، بل لأنَّها مِن عند الله وشرع مِن الله ، فالمسلم أمرهُ الانقيادُ والتسليمُ ولو لم تتبيَّن له المصلحة مِن الحكم .
    [2] النوع الثاني : أحكامٌ نصَّ الله عليها ولم تكن وسطية ، أو ليست بوسطيَّة عند كل ناظر ، بل فيها الكلفة والشدة والمشقة ، وربما كان فيها الهلاك ، فالتوسط في الأخذ بهذه الأحكام ، خلافٌ للمنصوص عليه ، لأنَّ المنصوص عليه إنَّما هو مقدرٌ مِن الله ، حتى وإن لم يكن وسطًا ، فهو بلا ريبٍ حَسَنٌ ، فكل أحكامِ الله حسنة حتى وإن لم يتبين للمكلف حُسْنُها ، كما قال تعالى : {أليس الله بأحكم الحاكمين} [سورة التين 8] ، وقال تعالى : {أفحكم الجاهلية يبغون ومَن أحسنُ مِن الله حكمًا} [سورة المائدة 50] .
    وفرقٌ كبيرٌ بين سلوك الأحسن وسلوك الأوسط ، ولو خُيِّر العاقلُ بين سلوك الأحسنِ وسلوك الأوسط لاختار سلوك الأحسن .
    ومِن الأمثلة على الأحكام المتضمنة للمشقة والكلفة واحتمال الهلاك : تبليغ الدين وحماية جنابهِ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكرات وتغييرها وإزالتها ، فإنَّ الحاصل مِن هذه الأمور في الغالب هو الإعراض والأذى والتعذيب ، والأنبياء عليهم السلام كانوا يُعذَّبون ويُضرَبون ويداسون بالأقدام ويذوقون أصناف العذاب في سبيل الله ، ولم يكن لدعوتهم كبيرُ أثر ، ولم يَــستَجِب لهم إلاَّ القليل ، وهذا لأنَّ الغاية التي تفوق كل الغايات في دعوتهم هي الامتثال لأوامر الله جل وعزَّ ، وقد كان بأيديهم الكثيرُ مِن الحلول الوسطية ولم يسلكوها ، بل سلكوا طريق المكاره ، لأنَّه هو المأمور بهِ ، وكلُّ ما أمر الله به فهو الأحسنُ ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "حفت الجنة بالمكاره" رواه البخاري ومسلم . وكذلك الحال في مشروعيَّة الجهاد في سبيل الله ، فهو إنَّما يتضمن هلاك الأرواح والأموال .
    والخلاصة : أنَّهُ إذا تبيَّن لنا أنَّ كثيرًا مِن أحكام الله لا تكون وسطية ، فإنَّ اتخاذَ الوسطيَّة منهجًا عامًا في الدين بدعةٌ لا يجوز القول بهِ ، وسأذكر البراهين على بدعيَّتهِ بشيء مِن التفصيل إن شاء الله تعالى .

    المسألة الرابعة : في ذكر حجج الوسطيين في تسويغ منهج الوسطية في الدين :
    قد احتجَّ الوسطيون بآيةٍ في كتاب الله وحديثٍ مِن سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لينقضوا بهما التأصيل السابق ، وسأذكر أبرز ما احتجوا به مع نقض الوجه الذي استدلوا بهِ :
    (1) أولاً : استدلوا بقولهِ تعالى : {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وسطًا} [سورة البقرة 143] . فقالوا : تميَّزت هذه الأمَّةُ بأنَّها أمةٌ وسطية بنصِّ الله على ذلك ، فعلينا سلوك الطريق الأوسط في ديننا .
    والرد على هذا مِن وجهين :
    الوجهُ الأوَّل : أنَّ السنَّة جاءت مفسِّرةً للوسط في هذه الآية بأنَّ معناها العدل والخير . فعن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يجيءُ نوحٌ وأُمَّتَه فيقول الله تعالى : هل بلَّغتَ ؟ فيقول : نعم أي ربِّ ، فيقول لأُمَّتهِ : هل بلَّغكم ؟ فيقولون : لا ، ما جاءنا مِن نبي ، فيقول لنوح : مَن يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأُمَّتهُ ، فتشهدُ أنَّه قد بلَّغ ، وهو قولهُ جل ذكرهُ : {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وسطًا لتكونوا شهداء على الناس} والوسطُ العدل" . أخرجهُ البخاري والترمذي والنسائي وأحمد . قلتُ : فالأُمَّةُ الوسط بنصِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح هم "العدول الأخيار" .
    وقد اتفقَ السلف مِن المفسرين على أنَّ الوسط في هذه الآية هو بمعنى العدلُ ، والأمَّة الوسط هم العدول ، فقد روى ابن جريرٍ الطبري رحمه الله عن أبي سعــيد الخدري ، وابن عباس ، وسعــيد بن جــبــير ، ومجاهد ، وقــتـادة ، والربـــيع بن أنس ، وعطاء ، وعبد الله بن كثير ، أنَّهم قالوا : الأمَّة الوسط هم العدول [انظر تفسير الطبري ج2/ص629] ، ولا أعلم لأحدٍ مِن مفسري السلف قولاً بأنَّ الوسط في هذه الآية هو بمعنى الجزء الذي بين شيئين ، إذ سياقُ الآية يشهد بخطأ هذا التفسير ، فأُمَّةُ محمد صلى الله عليه وسلم وسطٌ بالجعْلِ ، أي بجعل الله لهم ، لأنَّهم شهداء على الناس يوم القيامة فهم عدول أخيارٌ ذوو شهادة ، لا أنَّهم بين الناس متوسطين ، فسياق الآية لا يدل على ذلك .
    الوجهُ الثاني : أنَّه لو قيل بأنَّ معنى الوسط في الآية هو الجزء الذي بين شيئين ، فهو ومع كونه تأويلاً ضعيفًا ، إلاَّ أنَّه لا يتعارضُ مع ما قدَّمتُ مِن التأصيل ، فالجاعلُ في هذه الآيةِ هو الله ، فقال : {جعلناكم} فليس للمكلف تحديد التوسط وقد حدَّدهُ الله وقدَّره ، ولم يقل في الآيةِ : "كونوا" ، وكما قدَّمتُ في التأصيل السابق فإنَّ تطبيقَ الوسطية كمنهجٍ عامٍ على أحكامِ الشريعة ممتنع ، فمن الأحكام ما فيه مشقةٌ وكلفة وهلاك ولا يصح القول عنها بأنَّها وسطيَّة ، وعلى هذا فالوسطية ليست منهجًا عامًا في الدين ، بل جاءت بعض الأحكام موافقةً للقول الأوسط مِن الأقوال وجاءت كثيرٌ مِنها بغير التوسط .
    (2) ثانيًا : استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم : "خيرُ الأمورِ أوساطها" . وهذا رواه البيهقي في السنن وقال : (منقطع) ، وهذا يعني أنَّه في درجة الضعيف ، وقد لا يكون مِن كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، فــقـد رواه ابن أبي شيبة في مصــنــفهِ مِن كلام مطرف بن عبد الله ، فقال : (حدَّثــنـا عفان ، قال : حدثــنــا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن مطرف قال : خير الأمور أوساطها) انتهى .
    والرد على استدلالهم بهذا الحديث أن يُقال : إن صَحَّت نسبةُ الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحَّ إسنادهُ ، فهو ليس بدليلٍ على أنَّ للعبد أن يسلك منهج التوسط في أحكام الله ، فقد قدمنا بأنَّ المنهج المأمور به هو الامتثالُ المطلق وتركُ الابتداع .
    وهذا الحديث محمولٌ على أمور الدنيا المباحة التي لم يرد النص فيها بتقديرٍ معين ، كالمطاعم والمشارب والملابس ونحو ذلك ، فهنا يختار المرء الأوسط مِن الأمور استحبابًا ، فلو لبس أحسن الثياب دون أوسطها لما كان عاصيًا بذلك إجماعًا لقول الله : {قل مَن حرَّمَ زينةَ الله التي أخرج لعبادهِ والطيباتِ مِن الرزق} [سورة الأعراف 32] .
    (3) ثالثًا : استدلوا بأمورٍ في باب العقائد قد اتَّفق أهل السنَّة على سلوك الوسط فيها ، فقالوا : قد وجدنا مذهب السلف في مسألة القَدَر هو بين الجبريَّة والقَدَريَّة ، وهكذا الحال في أمورٍ كثيرة ، وهذا دليلٌ على أنَّ منهج التوسط هو منهجهم .
    والرد على هذا بأن نقول : إنَّهُ وإن وافق كونُ مقالتهم في بعض هذه الأمــور وسطًا بين أمرين ، فإنَّ هذا لا يــعــني أنَّهم قـالوا بــتـلك الأقـوال لأنَّها هي الوسط ، بل السلف قالوا بتلك الأقوال لأنَّها الحق الذي دلت عليه النصوص ، ووافقَ كون هذه الأمور التي دلت عليها النصوص وسطًا بين أمرين . فهذا الدليل إذًا لا يدل على تسويغ الوسطية وجعلها منهجًا .
    ثمَّ وجدنا مِن مقالات أهل السنَّة في باب العقائد ما ليس بوسطٍ بين بدعتين ، كمقالتهم في الإيمان ، فإنَّ الجهميَّة قالوا بأنَّ الإيمان هو المعرفة ، وصنفٌ مِن المرجئة قالوا بأنَّ الإيمان هو القول فقط ، وصنفٌ مِن المرجئة قالوا بأنَّ الإيمان هو التصديق ، وأهل السنَّة يقولون بأنَّ الإيمان قولٌ وعمل ، فقول أهل السنَّة هنا هو الإيمان بمعناه الشامل ، وقول الجهميَّة هنا هو أقلُّ شيءٍ يمكن أن يقال في معنى الإيمان ، وبين قولِ أهل السنَّة وقولِ الجهميَّة بدعٌ متقاربةٌ مِن القولين ، فقول أهل السنَّة هنا ليس بالوسط .
    وكمقالتهم في القرآن ، فإنَّ الجهميَّة قالوا بأنَّ القرآن مخلوقٌ ، وأهل السنَّة قالوا بأنَّ القرآن كلام الله ليس بمخلوق ، وصنفٌ مِن الجهميَّة قالوا : نتوقف ولا نقول هو مخلوق أو غير مخلوق ، وصنفٌ مِن الجهميَّة قالوا : القرآن كلامُ الله لكنَّ لفظنا بهِ مخلوق وسُموا باللفظية . فهنا قول أهل السنَّة هو كمالُ الإثبات ، وقول الجهميَّة هو كمالُ النفي ، وبين القولين أقوال ، وعلى هذا فقول أهل السنَّة هنا ليس بالوسط .

    المسألةُ الخامسة : في بيان البراهين على بدعيَّة منهج الوسطيَّة :
    وفي بيان بطلان منهج الوسطية وبدعيَّتهِ براهينٌ واضحة ، أذكر أهمها :
    (1) البرهان الأول : أنَّ منهج الوسطيَّة بدعيٌ لاشتمالهِ على معارضة بعضٍ مِن أحكامِ الشريعة التي لم يتبيَّن للمكلف مِنها مصلحة راجحة ، أو لاشتمالهِ على معارضة الأحكام التي لم يَــقبَل العقلُ إطلاق التوسط عليها ، وهذا اعتراضٌ على شرعِ الله بما أرشدت إليه العقول ، وهو ليس إلاَّ الهوى الشيطاني .
    قال الإمامُ أبو القاسمُ الأصبهاني رحمه الله : (إنَّ الله أسَّسَ دينهُ وبناهُ على الاتباع ، وجعلَ إدراكهُ وقبولهُ بالعقل ، فمِنَ الدين معقولٌ وغيرُ معقول ، والاتِّباعُ في جميعهِ واجب) انتهى [كتاب الحجة في بيان المحجة ج1/ص344] .
    ومن الأمثلةِ على الأحكام والشرائع المشدَّد فيها ، والتي لم تأتِ وسطيَّة : حديث الأعمى الذي لم يكن له مَن يقوده للمسجد فجاء يستأذنُ النبي صلى الله عليه وسلم للصلاةِ في بيتهِ فلم يأذن له عليه الصلاة والسلام لـمَّا علم أنَّه يسمع النداء ، وهذا الحديث يدل على أنَّ الحكم قد لا يكون وسطًا ، وقد يرى الناس أنَّ التوسط هاهنا هو صلاته في بيته تارة وفي المسجد تارةً أُخرى بحسب استطاعته ، إذ الصلاة في المسجد مطلقًا فيها مشقةٌ على هذا الأعمى ، وتركه الصلاة في المسجد مطلقًا تفريطٌ ، فالحل الأوسط أن يصلي في المسجد متى تيسر له الحضور ، ويصلي في بيته متى ما لم يقدر على الحضور ، وهذا باطل بلا ريب .
    ومِن أمثلتهِ كذلك : مشروعيَّةُ صلاة الخوف ، فعند الخوف مِن العدو في القتال يصلي المسلمون صلاةَ الخوف ، وصلاة الخوف ليست حلاً وسطًا في عقول الناس ، فلو ترك الصلاة مطلقًا لكان مُفرِّطًا ، ولو اشتغل بأدائها لأهلكهُ عدوُّه ، فتأخيرها إلى انتهاء الخوف أو حصول الأمن هو الوسط بين الأمرين ، وهذا باطلٌ ، ففي شريعتنا لا تسقط الصلاة بحالٍ ولو في الخوف ، يقول ابن قدامة (لأنَّه مكلفٌ تصحُّ طهارتهُ فلم يجُز له إخلاءُ وقت الصلاةِ عن فعلها كالمريض) [المغني ج3/ص317] ، ولأنَّها هي المشروعة المنصوص عليها في هذه الحالة ، فلا يجوز معارضةُ الأحكام المنصوص عليها بالعقل . وهي الحسنةُ وإن لم يتبيَّن حُسنُها ، بل الصلاة لا تسقط وإن اشتدَّ الخوف والتحم الناس مع بعضهم بالقتال ، ففي هذه الحالة يقول تعالى : {فإن خفتم فرجالاً أو ركبانًا} [سورة البقرة 239] ، يعني على أقدامكم أو ركوبًا تصلون بالإيماء أو الإشارة ، فلا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها ولو في هذه الحالة ، وهذا كله ليس بوسطٍ عند الناس .
    (2) البرهانُ الثاني : عدم انتساب السلف مِن الصحابة والتابعين للوسطية مع حدوث البدع في زمانهم واستفحالها ، سواء كانت بدع الغلو أو بدع التفريط والتقصير ، فقد ظهرت في زمان السلف بدع الخوارج وبدعُ الإرجاء ، ولم يُنادِ السلف بالوسطيَّة ، بل نادوا بالاتباع وترك الابتداع ، وصنيع الأئمة المتقدمين في كتب العقائد يشهد بهذا ، فهم غالبًا ما يعقدون بابًا في وجوب الاتباع وترك الابتداع ، لأنَّ المبتدعة في الغالب لابدَّ وأن يردوا نصًّا مِن كتابٍ أو سنَّة .
    (3) البرهان الثالث : أنَّ حقيقة الحكمِ على الأمورِ في شريعتنا إمَّا الحكم عليها بالحق أو الحكمُ عليها بالباطل ، والحق مِن الأقوال واحد كما يقول جمهور أهل السنَّة ، وأمَّا اختيار الوسط فهو أخذُ جزءٍ مِن الحق وجزءٍ مِن الباطل ، وهذا باطل ، فليس للمسلم أن يختار إلاَّ الحق ، وليس له أن يخلط الحق بالباطل ، أو يتخذ بين الحق والباطل سبيلاً .
    ويشهدُ لهذا قوله صلى الله عليه وسلم : "إنَّ الحلالَ بيِّنٌ وإنَّ الحرام بيِّنٌ ، وبينهما مشتبهاتٌ لا يعلمهنَّ كثيرٌ مِن الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينهِ وعرضهِ ، ومَن وقعَ في الشبهات وقعَ في الحرام" أخرجهُ البخاري ومسلم .
    واختيار ما بين الحق والباطل هو مِن صنيع اليهود والنصارى ، كما قال الله تعالى عن اليهود : {إنَّ الذين يكفرون بالله ورسلهِ ويريدون أن يُفرِّقوا بين الله ورسلهِ ويقولون نؤمنُ ببعضٍ ونكفر ببعضٍ ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً * أولئك هم الكافرون حقًا} [سورة النساء 150-151] .
    وقد بيَّن الله أنَّ مِن صفات المنافقين الحلول بين الإسلام والكفر ، فمتى ما وجدوا المصلحة في أحدهما أخذوا بها ، فقال جلَّ شأنه عنهم : {مذبذبينَ بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء} [سورة النساء 143] .
    وقد رُويَ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنَّ مِن صفات المنافقين كذلك رغبتهم في الإصلاح بين المسلمين وأهل الكتاب ، وإيجاد الحل الوسط لهم ، قال الله تعالى : {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحنُ مصلحون} [سورة البقرة 11] ، فروى ابن جريرٍ الطبري رحمه الله عن ابن عباسٍ قولهُ هذا في تأويل هذه الآية ، فقال : (حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباسٍ قوله : {إنَّما نحنُ مصلحون} أي قالوا : إنَّما نُريدُ الإصلاح بين الفريقين مِن المؤمنين وأهل الكتاب) انتهى [تفسير الطبري ج1/ص300] .

    المسألةُ السادسة : في بــيـانِ الفرق مِن حيث زيادة الإيمان ونقصانهِ بين الـمُــتَّــبع الـمُــســلــِّ م لأحكام الله وبين الآخذ بالأحكام لوسطيتها :
    فالأوَّل : لا يُعلِّق على المصالحِ مِن الأحكام عمله بهذه الأحكام ، فلو تبيَّنت له تلك المصالح فإنَّها ستزيدهُ إيمانًا ، وإن لم تتبيَّن له تلك المصالح فهو لم يزل مؤمنًا بما جاء مِن عند الله لا يُنقِص جهله بالمصلحة إيمانَهُ ، لأنَّ منهجهُ التسليم والانقياد والامتثالُ المطلق .
    وأمَّا الثاني : فإنَّه قد علَّق على فهم المصلحة مِن الحكم عملهُ أو أداءهُ ، فلو تبيَّنت له المصلحة فإنَّه يزدادُ إيمانًا ، وإن لم تتبيَّن له المصلحة فهو إمَّا سالكٌ طريق الإعراض عن شرع الله إلى ما دلَّ عليه عقله مِن المصالح ، أو داخلٌ في تيارات الشكِّ والريبةِ مِن أحكام الله مع التزامهِ بأداءِ ما افترض عليه ، وهذا أمرٌ خطيرٌ ، فإنَّ القلب مضغةٌ في الجسد إذا صلحت صلحَ سائرُ الجسد وإذا فسدت فسد سائر الجسد كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يُـــؤمَن على هذا الشاك والمرتاب مِن أحكام الله التمرد عليها بنبذها واستبدالها بما يمليه عليه عقله وهواه ، لأنَّ هذا هو الغالبُ على حال المنتسبين للوسطية ، وسأذكر مثالين مِن الواقع على نبذهم لأحكام الله وتحكيمهم أهواءهم ، ولن أُطيل في الرد عليها ، فالعبرةُ بــتــنــبــيــ هِ المسلم عنها ، وليس الغرضُ استعراض أباطيلهم ومناقشتها ، فإنَّ كل بدعةٍ تفرَّعت مِن بدعتهم الخبيثة تحتاجُ إلى سِفْرٍ مستقل :
    (1) فالمثالُ الأوَّل : إسقاطهم فريضة الجهاد في سبيل الله ، وزعمهم بأنَّ الجهاد إنَّما يكون في الدفاع عن النفس إذا ما قام العدو بالحرب ، فأسقطوا جهادَ الطلب ، وزعموا أنَّ الوسطيَّة هي الدعوة إلى دين الله سِلمًا ، وزعموا أنَّ الله حثَّ على السِّلم ونبذَ العنف .
    والرَّد على هذا مِن أوجه ، مِنها :
    الوجهُ الأوَّل : أنَّ قولَـهم هذا كفرٌ بواحٌ ، إذ هو عينُ جحد فريضة الجهاد ! ومعلومٌ أنَّ الغالب في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم كونها طلبيَّة ابتدائيَّة ، وقليلٌ مِنها دفاعيَّة ، وهذا يعرفهُ حتى الصغارُ الناشئة . هذا وإنَّ التفريق بين جهاد الطلب وجهاد الدفعِ تفريقٌ محدثٌ أحدثهُ المتأخرون ، بل ربما لم يوجد إلاَّ في كلام المعاصرين في هذا القرن أو القرن الذي قبله .
    الوجهُ الثاني : أنَّ قولهم إنَّ الوسطيَّة هي الدعوة إلى الله سلمًا ، هو قولٌ يُفضي إلى جحد آياتِ القتال في كتاب الله العزيز ، نحو قوله تعالى : {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} [سورة براءة 36] ، وجحد الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم : "أُمرتُ أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله" متفقٌ عليه ، وقول هؤلاء هو عينُ قول المنافقين ، ونحنُ نعلمُ بأنَّ الدعوة واجبةٌ ، كما نعلمُ بأنَّ القتال واجبٌ ، وقد جُمِعَ هذا في شريعتنا ، فيُدعى الكفار إلى الإسلام ، فإن أبوا فيُخيَّرون بين الجزية أو السيف ، فإن كان الكافرُ هو الغازي فيتأكدُ وجوب القتالِ ويتوسَّعُ ، ومَن كان بيننا وبينهُ عهدٌ فيُدعى إلى الإسلام سِلمًا ، وهكذا كانت أحكامُ الجهاد ، وهؤلاء الوسطيون قد نبذوا هذا كله وتمسكوا بما رأوهُ وسطًا ، فلا تبتــئس أيها المسلم مِن قولهم ، بل صعِّــر لهم خَدَّك .
    (2) المثالُ الثاني : تمييعهم لمعالِــمِ الولاء والبراء في الإسلام ، فزعموا أنَّ الوسطيَّة هي التعايشُ مع الكفار ونبذ الكراهيَّة ، وزعموا أنَّ الإسلام قد حثَّ على التواد والتراحم ، وقد تجاهل هؤلاء الأبالِسَةُ قوله تعالى : {لا تجِدُ قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يُوادُّون مَن حادَّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} [سورة المجادلة 22] .

    وأختمُ مقالي هذا بما قالهُ الشاعرُ في أمثال هؤلاء المبتدعة :
    وما انتسبوا إلى الإسلامِ إلاَّ * * * لصونِ دمائهم ألاَّ تُسَالا
    فيأتون المناكرَ في نشاطٍ * * * ويأتون الصلاة وهم كُسَالى
    أسأل الله أن يرزقني والقارئ الكريم العلم النافع وينفعني وإياهُ بالعلم ، وأن يهدينا ويسددنا ويثبت قلوبنا على ملة الإسلام ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
    كتبهُ : صالح الجبرين .

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Dec 2010
    الدولة
    ذُمّ المنازلَ بعد منزلةِ اللّوى ..والعيشَ بعدَ أولئِك الأيّام
    المشاركات
    563

    افتراضي رد: مقال في بدعة الوسطية

    جزاك الله خيرا وبارك فيك على مجهوداتك أخي الموفق الكريم ( صالح الجبرين ) ...
    صفحتي على ( الفيس بوك )
    https://www.facebook.com/rabia.yamani




  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Dec 2010
    الدولة
    ذُمّ المنازلَ بعد منزلةِ اللّوى ..والعيشَ بعدَ أولئِك الأيّام
    المشاركات
    563

    افتراضي رد: مقال في بدعة الوسطية

    للرفع
    صفحتي على ( الفيس بوك )
    https://www.facebook.com/rabia.yamani




الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •