التعامل مع اختلاف العلماء" بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد........ قال تعالى : ﴿ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ وقال سبحانه : ﴿وَأَنْزَلْن ا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ إن الاختلاف في مسائل الدين واجتهادات المجتهدين نعمةٌ أذِن الله بها ورحمة رحم الله بها هذه الأمة, قال عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - : ما أحب أن لي باختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حمر النعم . وكينونة هذا الدين عاما للبشرية باختلاف أطيافها وألوانها وأزمانها اقتضت حكمة الله وجود هذا الاختلاف - والله أعلم - ويدل على ذلك من بعض الوجوه قوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين يسر" . ولولا هذا الاختلاف لما تمثل هذا اليسر, ويقول صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد" . فجعل صلى الله عليه وسلم الحق واحدا والأجر في الاجتهاد, فما دام هذا الاختلاف في مسائل يسع فيها الخلاف ولم يورث ذلك عصبية لشخص أو جماعة وما دامت القلوب صافية متقبلة لهذا فهو رحمة والحمد لله , قال تعالى: ﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا فقال بعضهم: نقطع النخيل وامتنع آخرون فلم يثرب عليهم سبحانه, وما قصة بني قريضة إلا دليل على ذلك. أما الاختلاف بعد وضوح الحق وارتسام حدوده لغرض ما من زيغ في القلب أو هوى أو ضرب الكتاب بعضه ببعض ومنه ضرب الفتاوى بعضها ببعض فهذا مذموم ذمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ - أي الكتاب - إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ وقال تعالى ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾ أي تسود وجوه الذين اختلفوا في الكتاب, وهذا في القرآن كثير. أما من السنة فقد أخرج الترمذي وأحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن نفرا كانوا جلوسا بباب النبي صلى الله عليه وسلم, فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان فقال: " أبهذا بعثتم؟ أبهذا أمرتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ إنما ضلت الأمم قبلكم بمثل هذا. انظروا الذي أمرتكم به فاعملوا به والذي نهيتكم عنه فانتهوا عنه". ولْيُعلم أن أهل العلم مبلغون عن شرع الله وهم الواسطة بين الشرع والناس فيما استشكل أو عضل عليهم, وأن العلماء ورثة الأنبياء على علمهم ودينهم. إذا تقرر ذلك فإن ما يفعله البعض من ضرب فتاوى بعض أهل العلم ببعض هو من قبيل ما فعله هؤلاء القوم عند باب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله سبحانه لم يترك الناس دون إبانة المنهج في التعامل مع هذا الاختلاف في أقوال أهل العلم ولله الحمد. فقد قرر جمع من أهل العلم أن عامة الناس الذين ليس نظر في الأدلة ما عليهم إلا تقليد من يثق به من أهل العلم في دينه وأمانته ولا بد من هذين الشرطين. والأصل في ذلك اتباع الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته وليس لهم أن يجتهدوا إذ هو المشرع الأول عليه الصلاة والسلام. أما حين يرد على المرء قولان في مسألة فقهية واحدة فإنه لا يمكن في مسألة واحدة تقليد عالمين ولو أمكنه ذلك لخرج بقول ثالث متوسط بينهما لا قائل به, فعليه أن ينظر إلى مرجحات عنده ترجح أحد القولين إما بأفضلية أحدهما على الآخر أو باختصاصه في هذا المجال أو لكون الأكثرين قائلين به. وليحذر أخي المسلم من زلة القدم فيأخذ بما يرى فيه مصلحته من القولين لهوى في نفسه فيكون ممن تشبه بمن اتخذ إلاهه هواه. فالحذر الحذر. فالمسلم مستسلم لله في كل ما يأخذ ويذر. ولينظر أين يضع دينه كما نظر حين وضع ماله. ولا يتنقل بين فتاوى العلماء فيأخذ من هذا ويأخذ من هذا فإن هذا من أعظم أسباب طمس الدين وموت القلب وتبلد الإحساس. ثم ليحذر مرة أخرى أن يضع حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قوله لوابصة بن معبد حين سأله عن البر والإثم فقال: "استفت قلبك واستفت نفسك" حتى قال " وإن أفتاك الناس وأفتوك" فإن هذا مزلق و مهيعة قلما يُتفطن لها وذلك أنه ربما زينت له نفسه أو الشيطان الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم ويعرف مداخلها و مخارجها ربما زين له ذلك حتى ظن أن هذا ما اطمأنت إليه نفسه فكيف إذا قصر في سؤال الله الهداية والله المستعان. ثم ثانيا: هذا الحديث الذي سأل فيه وابصة بن معبد رضي الله عنه عن البر والإثم فقال صلى الله عليه وسلم: "استفت قلبك واستفت نفسك, البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك" حديث حسن, هذا الذي يتردد في النفس ليس هو الحكم – والله أعلم – ولو كان وابصة سأل عنه لقال له صلى الله عليه وسلم : اسأل أهل العلم مثلا, وإنما سأل عن مناط الحكم وإلحاق الأشياء بأحكامها. وهذا لا يحتاج إلى اجتهاد أو تقليد مجتهد, ذكر هذا الشاطبي في كتابه الاعتصام. مثل ذلك أن أهل العلم مجمعون على تحريم المسكر ولكن إذا اشتبه عليك شيء : هل هو مسكر أم لا؟ فاتركه لأنك لا تدري عن مناط الحكم فيه والله أعلم. إذا علم هذا فليعلم أنه لا طريقة فيما يجهله المرء إلا اتباع أهل العلم الراسخين, ولينتبه المسلم من تنقصهم أو تنقص فتاويهم بسبب أنه يقول بقول عالم آخر وما يدريك لعل الحق معه فالكل مجتهد. أسأل الله أن يهدينا سواء السبيل. أخوكم: سلطان بن عبدالعزيز الخضيري