سلسلة الوصايا قبل المنايا
للشيخ أبي إسحاق الحويني
الدرس الأول ( وصية نوح )
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعين به ونستغفره ونعوذ بالله من شرر أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهد الله تعالى فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾(آل عمران: 102)
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾( النساء:1).
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾(الأحزاب: 70،71 ) .أما بعد.
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
فهذه الخطبة وما يليها من خطب بعنوان: (الوصايا قبل المنايا) وأعني بالوصية: آخر ما تكلم به المرسلون والأنبياء والصالحون من أهل العلم أي هي الوصية عند الموت.
والوصية معناها: العهد ، فلان أوصى لفلان أي عهد إليه ، وقد علمنا اللهU الوصية وأمرنا بها وعلمناها رسول اللهr وأمرنا بها وأكثر ما تكون الوصاة من الله على الوجوب إما لاجتناب محرم أو لفعل واجب ، قال تعالى:﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا ﴾(النساء:131).وقال تعالى:﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (الأنعام:151-153) .
وقال تعالى:﴿وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا﴾(الأحقاف:15)، ﴿ وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ ﴾(لقمان:14) ،﴿ وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾(العنكبوت:8).
والنبيr يقول في حديث ابن عمر الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما: « ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين » وفي رواية خارج الصحيح « ثلاث ليالي إلا ووصيته مكتوبة عنده »
« ما حق امرؤ مسلم »: أي ما يجمل بالمرء المسلم أن يبيت ليلتين وعنده شيء يريد أن يوصي به فلا يفعل، إن المنية يوشك أن تسبق الوصية إذا لم ينتبه الإنسان، النبي r استعاذ من موت الفجأة وقال:« موت الفجأة أخذة أَ سِف » كم من حسرات في بطون المقابر ألوف الموتى كان لهم أمنيات ، كان يريد أن يقول كلمة أخيرة قبل أن يموت ومع ذلك خرج ولم يعد ، ﴿ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ﴾(يس:50) .
« أخذة أسِف»: أي يموت المرء وعنده أسي وعنده حزن كان يريد أن يقول كلمة وأتته سكتة ، لأجل هذا لا ينبغي للعاقل أن يعيش بلا وصية، عادةً لا يوصي المرء إلا بما كان يعتقده في حياته ، ويعمل له في حياته فيريد أن يقدم خلاصة ما كان يعتقد لأولاده ، ولا يجد أعز من بنيه لكي يضع بينهم الوصية ، والموفق من وفقه الله ، والسعيد من كتب اللهU له السعادة .
بعض الناس يوصي بأشياء عاش لها فعلًا لكنها كانت محرمة ، ممثل مشهور قرأت وصيته في الجرائد أوصي أن تخرج جنازته من المسرح القومي المقدس الذي أفني حياته كلها له ، وموسيقار آخر مشهور أوصي بأن يوضع العود في متحف ، لأن العود هذا الذي أفرز أعذب الألحان ، الذي أسعد به ملايين الناس فأوصي أن يوضع العود في متحف والناس يذهبوا مثل الحجر الأسود هكذا ويأخذوا منه البركات وينظروا إليه ويتذكروا هذا الإنسان .
ورجل آخر مغني مشهور يوم الخميس الكبير ذهب ألوف كل واحد معه تسجيل ومعه شريط وكل واحد معه أغنية وشغلوا الأغاني عند القبر كل إنسان يعاقب بما فعل أو يجازي بما فعل ، السعيد من سَعِد في بطن أمه والشقي كذلك من شقي في بطن أمه ، تنظر إلي خير الناس الأنبياء والمرسلين ، كيف كانت حياتهم ؟ ، وما هو آخر شيء تكلموا به وأوصوا العباد به ؟!
أقدم من علمته أوصي عند موته بالسند الصحيح إليه هو نوح u ونحن نتحرى فيما يتعلق بالأنبياء والمرسلين نتحرى الإسناد الصحيح ، وكذلك الصحابة ، ونتسامح في الأسانيد إذا كان في بعضها كلام عند التابعين وأهل العلم .
أما وصية نوح u فرواها الإمام البخاري في كتاب (الأدب المفرد) ورواها الإمام أحمد في مسنده ، والبزار والطبراني بإسناد صحيح عن عبدالله بن عمرو بن العاص y قال:( كنا جلوسًا عند رسول اللهr فجاء رجل أعرابي من أهل البادية عليه تيجان مزرورة بديباج )
تيجان: نوع من أنواع اللباس الأخضر. مزرورة بديباج: أي لها أزرار من حرير .أو مكفوفة: أي مزينة مطعمة بحرير .فلما رآها النبي r وكان أفرس الناس إذا رأي الرجل عرفه وقيمه ، فلما رآه قال: « هذا يريد أن يُرفع كل راع بن راع ويَضَع كل فارس بن فارس» أي الراعي والفارس بينهما مسافة .
الفارس: كناية عن الرجل النبيل ، رجل فارس: أي رجل نبيل ، لماذا ؟ لأنه لم يكن يركب الفرس ، ولم يكن يقاتل علي الفرس إلا الشجعان والفرس أو الفارس مثل رأس الحربة مثل الذين يركبون الطائرات المقاتلة الطيار وبالأخص المقاتل أرفع من الذي يركب دبابة تجد سلاح الطيران أعلى في المرتبة وفي التقييم وفي المرتب من سلاح المشاة مع إن سلاح الطيران لا ينفع إلا بحماية أرضية ، لكن فيه ناس لهم الشهرة والصيت وناس عليهم العمى ، لكن أشتهر بين الناس أن الفارس كلمة تطلق علي الرجل النبيل ذي النسب .
هذا رجل أتي يلبس طيلسان أخضر مزرور بديباج، ويظهر عليه علامات الكبر، فلما رآه النبيr بهذه الهيئة قال أن هذا الرجل أتي ليَضع أهل الفضل ويرفع الرعاع والسوق هو يريد أن يفعل ذلك « إن هذا يريد أن يرفع كل راع بن راع » ليس له نسب ولا لأبيه نسب ، وليس له كرامة ولا لأبيه كرامة وفي نفس الوقت يضع كل فارس بن فارس، ثم قام إليه فأخذه من جبته مغضبًا وقال له:« ألا أري عليك ثياب من لا يعقل » ثم تركه وجلس ثم قالr:« إن نوحًا لما حضرته الوفاة دعي ابنه » ، وفي رواية للإمام أحمد« دعي ابنيه» هكذا علي التثنية « فقال: إني قاصٌ عليكما الوصية» ، وفي لفظ لأحمد قال:« إني قاصر عليكما الوصية آمركما باثنتين وأنهاكما عن اثنتين» وكان كلامه نذر يسير قليل لأنه في موقف لا يحتاج كثير كلام ، والسعيد من وفق إلي إيجاز ما يريد بأقل الألفاظ .
قال:« إني قاص عليكما الوصية آمركما باثنتين وأنهاكما عن اثنتين: آمركما بلا إله إلا الله » هكذا عاش لها ، ومن أجلها أرسله الله ، وأنزل عليه الكتاب وعالج الناس أشد المعالجة ومضي إلي الله وليس له من الأرض إلا حفنة من المؤمنين به « آمركما بلا إله إلا الله فإن السماوات السبع والأرضيين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة لرجحت بهن لا إله إلا الله ، ولو أن السماوات والأرض كن حلقة مبهمة » ليست مفرغة من الداخل « مبهمة لَقَسَمَتهُنَّ لا إله إلا الله ، وآمركما بسبحان الله وبحمده فهي صلاة كل شيء وبها يرزق الخلق ، وأنهاكما عن اثنتين ، عن الشرك والكبر» .
فقال رجل: يا رسول الله إن الرجل منا يحب أن يكون له نعلان حسنتان أو قال شراكان حسنان أفهذا كبر؟ قال: «لا» ، قال: فإن الرجل منا يحب أن يكون ثوبه حسنًا أهذا كبر؟ قال: «لا» ، قال: فإن الرجل منا يحب أن يكون له دابة حسنة فهذا كبر؟ قال: «لا» ، قال: فإن الرجل منا يحب أن يكون له أناس يجلسون إليه أهذا كبر؟ قال: لا ، قالوا: فما الكبر ؟! قال:« الكبر بطر الحق أو سفه الحق وغمط الناس » .
ثنتان أمر بهما نوح ابنه أو ابنيه لا إله إلا الله ، أي اعملوا بها وقاتلوا لأجلها فهي تستحق ذلك ، إياك أن ترفع عنك شعار الغُربة طمعًا في الأمان تحلق لحيتك لأنك خائف لا تفعلها إنها شعار الغرباء ، والغربة شرف لا يُعَير بأنه غريب إنما يُمدَح بذلك قال النبيr:« إن الإسلام بدأ غريبًا » وليس أهل الإسلام « إن الإسلام » يعطيك دفعة حتى تشعر بالشرف الدين نفسه « بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبي للغرباء» ﴿ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ ﴾(الرعد:29) .
وفي الخبر الصحيح أن النبي r قال:« إن في الجنة شجرة يسير الراكب» الذي يركب الجواد المضمر « في ظلها مائة عام لا يقطعها » قال أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾(الواقعة:30) شجرة واحدة لو ركبت جوادك الذي أعددته للسباق وانطلقت به بأقصى سرعة تظل تجري في ظل شجرة واحدة مائة عام ولا تصل إلي آخر الظل ، أعدها الله U لمن يحملون شعار الغربة لا إله إلا الله تستحق ذلك ، وتستحق أن تضحي بنفسك ومالك وأهلك وأعز ما تملك لأنها أعظم من ذلك وإن فعلت ، ولا تؤدي حقها أبدًا حتى وإن فعلت ذلك .
لو تصورنا أن رجلًا ضحي بكل ما ذكرت فإنه لا يستطيع أن يوفي حق لا إله إلا الله بها قامت السماوات والأرض ، ولها أنزل الله الكتب ، وبعث الرسل ، وكُل كلامه الذي أنزله إلي الأرض وشَرَّفَ الأرض به إنما هو لإقامة هذه الكلمة الجليلة ولجلالتها ولعظمتها لو تلفظ بها إنسان في آخر حياته يكافأ بأن يدخل الجنة .
كيف لا ؟ وهو الذي يعاملنا بالكرم وبالفضل ولو أن رجلًا ملأ الأرض طولًا وعرضًا ووصل إلي عنان السماء وما ترك معصية إلا فعلها ثم رجع إليه قَبِل ولا يعاتبه ، وإن أسقط ذنبه لا يعيد عليه السؤال مرة أخري ، من مثله ؟! له الأسماء الحسنى والصفات العلى ، لماذا تشتد هربًا منه وهو هو في عليائه وكبريائه وأنت أنت ؟
رأي مطرف بن عبدالله بن الشخير المهلب وكان رجلا له شارة حسنة وكان رجل من الأكابر، والأكابر هؤلاء يعلموا أولادهم ويورثوا أولادهم داء العظمة يعلمه كيف يمشي ، وكيف يأكل ، وكيف يتعامل ، فنهاه عن ذلك ، فالتفت إليه المهلب مستنكرًا قال: ألا تعرفني ؟! قال: نعم ، أعرفك أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة وأنت بين ذلك تحمل العذرة العَذِرَة: هي فضلات البطن ،فقل لي: ما هو مسوغ الكبر عندك؟ وقد خلقت عبدًا رغم أنفك فاستحيا المهلب .
ومثل ذلك عمر بن عبد العزيز عندما كان آباؤه يعدوه للخلافة فيعلموه مشية الخليفة ،فنهاه أظن واحد من الصحابة أو واحد من كبار التابعين .فقال له: والله إن كل عضو فيَّ ضُرِب لأتعلم هذه المشية ،.
(لا إله إلا الله): ليست كلمة تقال لأجلها خرج الصحابة ، ولأجلها أوذيَ النبي r تركوا الديار والأموال ، وترك الدار من أعظم المصائب قرنها الله U بالقتل قال تعالي:﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ ﴾(النساء:66) ، فقرن ما بين القتل والخروج من الدار ، خرجوا من الديار وتركوها وطوحوا بها خلف ظهورهم فداءً لله ورسوله ، وما ندموا علي شيء من ذلك .
مِصعَب بن عمير: الشاب المنعم الذي كان فراشه من الحرير الخالص وكان مدللًا غاية التدليل ، خرج سفيرًا لدينه غريبًا ، وذهب إلي المدينة يسبق النبي rداعيًا لما مات لم يجدوا بردة يواروه بها إن غطوا رأسه بدا رجلاه ، وإن غطوا رجليه بدا رأسه ، تذكره عبد الرحمن بن عوف كما في صحيح البخاري، تذكر مصعب بن عمير ، وكان صائمًا وقرب إليه الإفطار ليفطر فتذكر هؤلاء الصحبة الذين ماتوا في سبيل الله فقال:( قُتِل مصعب بن عمير وكان خيرًا مني ، وقتل حمزة وكان خيرًا مني ، ثم بُسِطَت لنا الدنيا ماتوا ولم يأكلوا من أجورهم شيئًا ثم بُسِطَت لنا الدنيا فمازال يذكرهم ويبكي حتى ترك الطعام ) .هؤلاء ما أخرجهم من ديارهم إلا هذه الكلمة المعظمة الشريفة التي قامت بها السموات والأرض .