لحظات قبل الموت

مصطفى قاسم عباس

هي اللحظاتُ التي يُفارق فيها الحبيبُ حبيبَه، والخليلُ خليله، ويفارق فيها الولدُ أمَّه، والوالدُ ولدَه، هي اللحظاتُ التي بعدها تُرَمَّل الزوجةُ، وتثكلُ الأمُّ، ويُيَتَّمُ الولدُ.

هي اللحظات التي تُختَم بها حياة الإنسان في الحياة الدنيا، إما بخاتمة حُسنى، وإما بخاتمة سيِّئة، والعياذُ بالله.

هي لحظاتُ الانتقال من الحياة إلى عالم البَرزخ والآخرة، فمَن مات، فقد قامَتْ قيامته.

هي اللحظات التي يَعرق فيها الجبينُ، ويَكثر فيها الأنين، ويَعجز عندها الطبيب، ويَحار فيها اللبيب، ويَكثر فيها البكاء والنحيبُ، هي اللحظات التي تعبِّر عن عُمر مديد، والإنسان عندها شقيٌّ أو سعيد.

هي اللحظات التي ينقطع بها الأملُ، ولا يَصلح بعدها العملُ، وأُمنيَة الكافر بعدها: ﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99 - 100].

هي لحظاتٌ طالَما انتظَرها المؤمنُ؛ لأنها تقرِّبه إلى الله، وطالَما خاف منها الفاجر لعظيم ما قدَّمت يداه.

منذُ الصغر وأنا أحبُّ أن أقرأ عن المحتضَرين وأحوالهم، وأحوالِ مَن حولهم، وأتذكَّر قوله تعالى: ﴿ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الواقعة: 83 - 87]، فالقراءة عن المحتضرين تُذكِّر بالآخرة، وتُليِّن القلب، وتُدْمِع العين، وتَشحذ هِمَّة المؤمن من جديد.

وبَقِيتُ على هذه الحال، أتتبَّع أخبارَهم في هذا الكتاب وذاك، وكم كانت فرحتي عظيمةً عندما قرأت عنوانًا لكتاب اسمُه: "لحظاتٌ قبل الموت"، وكانت فرحتي أشدَّ عندما عَلِمت أن المؤلفَ هو العلاَّمة محمد خير رمضان يوسف؛ لأن له باعًا طويلاً في هذا المجال، فهو عالم مؤلفٌ بحَّاثةٌ جمَّاعةٌ، فقرأت الكتاب في تسع ساعات، مع أنه 378 صفحة، فالقارئ لا يشعر بالوقت؛ لأنه يعيش تارةً مع الأحياء، وأخرى مع الأموات!

بدأ المؤلف كتابه بمقدمة أدبيَّة تَسيل من حروفها الدموعُ، جاء فيها: "وهذه مجموعةٌ من أقوال ومواقف وحكايات مَن حضَرَهم الموت، فنَطَقوا بما هو عبرة للآخرين، من خير وشرٍّ، ومن مهانة وكِبْر، ومن سلامة إلى مَذَلَّة، ومن شوق إلى خوفٍ، بل ومن إيمانٍ وكفرٍ؛ حيث يغلب على المحتضَر ما كان حاله في الحياة، ويُبعث على ما مات عليه.

وجاء متنوعًا يفيد أهل الإيمان، والعلم والأدب، ممن يتشوَّق إلى لقاء الله الكريم، وقد جاهَد وعبَد، وقاسى وتَعِب، ثم سدَّد وقارَب، وأحكَم الرَّبط لئلا يَغرق، أو ممن يخاف القدوم عليه، وقد فرَّط وأسرَف، وأنساه النعيم قصْفَ الموت، فغَرق في اللذات، وتمرَّغ في الشهوات، وأجَّلَ التوبة؛ حتى لَم يقدر على النطق بكلمة الإخلاص، أو عَمِلَ وهو ينتظر رحمة الله، ويَخشى أن تفوتَه".

وقد ذكَر المؤلِّفُ أنه بدأ بجَمْع هذا الكتاب بعد أن انتهى من تحقيق كتاب "المحتضرين"؛ لابن أبي الدنيا، وطبعًا ما يميِّز هذا الكتابَ عن كتاب ابن أبي الدنيا، أن ابنَ أبي الدنيا من أعلام القرن الثالث الهجري، فقد ذكر أحوال المحتضَرين إلى عصره فقط، أمَّا كتابنا الذي نتحدَّث عنه، فإن مؤلفه معاصرٌ - أطالَ الله في عُمره - وهذا يعني أنه قد ذكَر أحوال المحتضرين، وآخرَ لحظات حياتهم إلى القرن الخامس عشر الهجري.

بعد مقدمة الكتاب المُحزنة المُبكية، أتى المؤلفُ بآيات تتحدث عن الاحتضار؛ منها: قولُه تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99 - 100]، ثم بأحاديثَ في الاحتضار.

وانتقَل إلى الحديث عن المحتضرين، فبدأ بما قبل الإسلام، كسيدنا نوح، وذي القرنين، ولقمان الحكيم، وامرئ القيس، وحاتم الطائي، وزهير بن أبي سلمى، ثم تحدَّث عن القرن الأول، فالثاني، فالثالث......، فالخامس عشر.

وسنكتفي بذِكر مثالٍ على كُلِّ قرنٍ، وقد اخترتُها مختصرةً، وأحيانًا آخُذ موقف الاحتضار فقط، وأحيانًا يكون الموقفُ حُسْنَ خاتمةٍ لصاحبه، وأحيانًا يكون سوءَ خاتمةٍ والعياذ بالله، هذا مع ذِكْر رَقْم الصفحة والعنوان الذي وضعَه المؤلف:

ما قبل الإسلام: حائرٌ، لَم يطمئنَّ قلبُه بالإيمان.

قيل لرجل من الماضين: كيف وجدتَ الأمرَ؟

قال: دخلتُ الدنيا جاهلاً، وعِشت متحيِّرًا، وخرَجت منها كارهًا؛ ص (12).

القرنُ الأول: لا تَبكوا عليَّ:
أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب، أخو رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من الرضاعة، أرْضَعته حليمةُ السعديَّة، لَمَّا حضَرته الوفاةُ، قال لأهله: لا تبكوا علي، فإني لَم أتنطَّق بخطيئة منذ أسْلَمْت؛ ص (38).

القرن الثاني: الحسن البصري:
أُغْمِي عليه عند مَوْته، ثم أفاقَ، فقال: لقد نبَّهتموني من جناتٍ وعيون ومقام كريم؛ ص (83).

القرن الثالث: المنتصر بالله:
أنشدَ الخليفةُ المنتصر العباسي لَمَّا حضَرته الوفاةُ:

وَمَا فَرِحَتْ نَفْسِي بِدُنْيا أَخَذَتُهَا
وَلَكِنْ إِلَى الرَّبِّ الْكَرِيمِ أَصِيرُ؛

ص (146).

القرن الرابع: حارسٌ أمينٌ:
قيل للكناني لَمَّا حضَرَته الوفاةُ: ما كان عملُك؟

فقال: لو لَم يَقترب أجَلي ما خبَّرتكم به! وقَفت على باب قلبي أربعين سنة، فكلما مرَّ فيه غيرُ الله، حَجَبتُه عنه؛ ص (187).

القرن الخامس: جبلان من نار:
احتَضَر رجلٌ، فإذا هو يقول: جبلان من نار، جبلان من نار!

فسُئِل أهلُه عن عمله، فقالوا: كان له مكيالان، يَكيل بأحدهما، ويَكتال بالآخر؛ ص (205).

القرن السادس: العِماد المقدسي:
حُكي عنه أنَّه لَمَّا جاءه الموتُ، جعَل يقول: يا حيُّ يا قيُّوم، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث، واستقبَل القبلة وتشهَّد؛ ص (225).

القرن السابع: الإمام النووي:
رُوِي أنَّ الإمام النوويَّ - رحمه الله - أنشَد أبياتًا عند الوفاة، منها هذان البيتان، وزِيدَ ما بعدهما:

تَبَاشَرَ قَلْبِي فِي قُدُومِي عَلَيْهِمُ
وَبِالسَّيْرِ رُوحِي يَوْمَ تَسْرِي إِلَيْهِمُ


وَفِي رِحْلَتِي يَصْفُو مَقَامِي وَحَبَّذَا
مَقَامٌ بِهِ حَطُّ الرِّحَالِ لَدَيْهِمُ


وَلاَ زَادَ لِي إِلاَّ يَقِينِي بِأَنَّهُمْ
لَهُمْ كَرَمٌ يُغْنِي الوُفُودَ عَلَيْهِمُ؛

ص (234).

القرن الثامن: شحَّاذون وتُجَّار:
قال ابن القَيِّم - رحمه الله:
أخبَرني مَن حضَر بعض الشحَّاذين عند مَوْته، فجعَل يقول: لله فُليس، ولله فُليس، حتى قضى، وكذلك تاجر يقول: هذه القطعة رخيصةٌ؛ ص (142- 143).

القرن التاسع: عبدالرحيم البرعي:
قال - رحمه الله - عندما مَرِض مرَضَ الموت وهو في طريقه إلى الحج:

يَا رَاحِلِينَ إِلَى مِنًى بِقِيَادِي
هَيَّجْتُمُ يَوْمَ الرَّحِيلِ فُؤَادِي


والقصيدة خمسة عشر بيتًا؛ ص (148 - 149).
القرن العاشر: نفسُه رهينة:
عالم مالكي، اسمه زينُ بن أحمد الجيزي، كان يلحُّ في الدعاء أن يختمَ عُمره بحَجَّة، فتوفى منصرفه من الحج والزيارة سنة 977هـ، وكان يُنشد بعد هذه الحَجَّة كثيرًا:

أَصْبَحَتْ نَفْسِي رَهِينَه
بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَهْ؛

ص (161- 162).

القرن الحادي عشر: يُحب ربَّه:
شيخٌ صالح من دمشق اسمُهُ علي بن عمر العقبي، سُمِع يقول وهو في سكرات الموت: يا سيِّدي، يا حبيبي يا ربي: والله إنَّك لتَعْلم أني أحبُّك، ثم مات عشيَّة ذلك اليوم؛ ص (162).

القرن الثاني عشر: شَهِد الله:
الشيخ أحمد بنُ عبداللطيف التونسي، بدأ في قراءة ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ [آل عمران: 18] إلى آخر الآية، ثم سلَّم الرُّوحَ إلى بارئها؛ ص (168).

القرن الثالث عشر: عالِمٌ مسمومٌ:
عالم من مدينة صبياء بالسعودية، وضَع له مَن كان يظنُّه صديقًا سُمًّا في مشروب قدَّمه له، فقال موريًا:

سَأَلْتُ النَّاسَ: هَلْ سُمِّي طَبِيبِي
لِعِلَّتِيَ الَّتِي أَضْنَتْهُ مِمَّا


وَمَا النَّوْعُ الَّذِي أَضْنَى عِظَامِي
وَقَدْ وَهَنَتْ فَقَالَ النَّاسُ: سُمَّا؟

ص (271).

القرن الرابع عشر: مستشرقٌ:
المستشرق الألماني أروين جراف متخصِّصٌ في الفقه الإسلامي، ألقى محاضرةً في جامعة توبنجن بعنوان: "تصوُّرات الموتِ في إطار الأنثروبولوجيا الإسلاميَّة"، وعلى إثرها توفِّي؛ ص (196).

القرن الخامس عشر: أنور الجندي:
مُفَكِّر وكاتبٌ، وداعية إسلامي كبيرٌ، مَرِض مرضًا شديدًا قُبيل وفاته، وكان آخرَ ما قاله: "يا رسولَ الله، أنا أنورُ الجندي قادِم إليك من الصعيد"، وبشهادة طبيبه الخاص مات وهو يصلي مضطجِعًا على شِقِّه الأيمن؛ ص (330).

هذا وقد ختَم المؤلفُ كتابَه بفهرس للأعلام المحتَضَرين، ثم بفهرس للموضوعات.

وختامًا: أسأل الله العليَّ القدير أن يُحسِن خِتامنا جميعًا، وأن نَلقاه وهو عنا راضٍ، إنه سميع قريب مجيب.


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/0/35318#ixzz1QZWLiyR5