أعتذر إلى الإخوة الكرام عن هذا التأخير، كما أعتذر عن إنزال هذا الرد في هذا التوقيت الحرج الذي تمر به مصرنا الحبيبة، وأسأل الله أن يقدر الخير لوطننا العزيز وأن يتقبل أرواح الشهداء في عليين.
في البداية أشكر الأخ الفاضل ناصر عبد القوي على البحث الذي أشار إليه، وقد اتصلت بابني في مصر وأعطيته أرقام التليفونات للحصول على نسخة، وقد اتصل بالفعل وجاري الترتيب للحصول على النسخة وإرسالها إلي، وهو بحث لاشك أنه سيساعدنا كثيرا على الانتصار لأم المؤمنين مما نسب إليها.
أخي الكريم / عمرو يس
مادمنا بصدد البحث الجاد وتمحيص الأدلة فيجب أن يكون واضحا أن كل عالم يؤخذ منه ويرد، فالله تعالى لم يجعل العصمة لأحد، وأحاديث الإفك دخلت على أذهان كثير من الصحابة لكثرة الخائضين، فأين العلماء من الصحابة؟؟
لقد أمرنا الله تعالى في كثير من آياته أن نعقل ونتدبر "لعلكم تعقلون" "لقوم يعقلون"، وحكم الله سبحانه بأن الشيطان أضل من أضل لأنهم لم يحسنوا استخدام عقولهم "ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون" لكننا رأينا في هذا الزمان من المنتسبين إلى العلم من يهاجم العقل بجهله وكأن بينه وبين العقل خصومة، وقرأت حوارا طويلا على أحد المنتديات السلفية عن مكانة العقل، وللأسف كانت آخر كلمة قول أحدهم إن كلمة عقل لا أصل لها في كتب الفقه إلا بمعنى الدية، فالعقول هي الديات، ولم يعلق أحد، فبحثت في معاجم اللغة حتى علمت أن العقل هو الحبس وقد سمي العقل عقلا لأنه يحبس المرء عن المهالك والأهواء، وسميت الدية عقلا لأنها كانت إبلا تحبس في فناء المقتول.
لاشك أن القريبين من زمن النبوة أكثر خيرية وأفهم لحدود العقل والنقل ممن جاء بعدهم، لذا فإن الأئمة الأربعة هم فعلا عمالقة الفقه، فهم يدركون مكانة النقل ومكانة العقل، ولا تعارض عندهم بين هذا وذاك فالإمام أحمد الذي ينسب لمدرسة النقل يدرك قيمة العقل، والإمام أبو حنيفة الذي ينسب لمدرسة العقل يدرك قيمة النقل، أما المتأخرين فحظهم في الفقه أقل مع احترامنا لهم. هل تعلم أن الظاهرية كابن حزم وأبي داوود أجازوا إرضاع الكبير مباشرة بالتقام الثدي ومصه وأن ذلك يثبت محرمية أخذا بظاهر الأحاديث؟ فقبل أن يكمل الراضع خمس رضعات ما حكم التقام الثدي ومصه عندهم؟؟؟
إن إجماع الأئمة الأربعة سواء المنسوب إلى النقل أو إلى العقل على أن رضاع الكبير لا يثبت محرمية وأن الرضاع ما كان في الصغر في سن الرضاع يوضح لنا المكانة السامقة لهؤلاء الأئمة في عالم الفقه، فليس كل حامل فقه بفقيه، وليس كل فقيه أهلا للنظر والتأصيل من ظاهر الأحاديث، فيجب ألا نلتفت إلى تأصيلات الأقزام إذا تعارضت مع تأصيلات الأعلام، وخلاف الأقزام مع الأعلام ليس خلافا معتبرا حتى نقول إنه يحق لنا استثمار الخلاف.
هناك تأويلات غريبة تصدر عن علماء أجلاء، ولو دخلت في بعض الأمثلة من نقلك عن العلماء لتمحيصه وتحليله لن ننتهي وسيتشعب بنا الحديث، لذا فإني مصر على أن نحسم النقطتين اللتين بدأنا بهما أولا وأرجو منك ومن المتابعين الصبر.
تقول إنك ذكرت الدخول المشروع للطوافين ومنهم عبد الرحمن بن الأسود لتوضح لنا معنى "إذا أحبت دخول الرجال عليها" فتقول والنص منسوخ من كلامك بأخطائه الإملائية والنحوية:
الم تكن انت معترض على الجملة واخذتها وادعيت ان كل من يقرائها له ان يأخذها على محمل سىء ؟؟ فكل ما فعلته انا انى اتيت لك من افواه الثقات بنفس الجملة
ألا ترى فارقا بين الجملتين يا أخي الكريم ... شتان بين دخول ودخول، فإنا إذا قلنا (كان الرجال أو كان عبد الرحمن بن الأسود يدخل على عائشة) تعبير يحمل على الدخول الشرعي بدون خلوة وبضوابط شرعية للتعلم أو للسؤال عن أمر شرعي، أما إذا قلنا كما قال ابن حجر لإكمال حديث البخاري من البرقاني وأبي داوود (كَانَتْ عَائِشَة تَأْمُر بَنَات إِخْوَتهَا وَبَنَات أَخَوَاتهَا أَنْ يُرْضِعْنَ مَنْ أَحَبَّتْ عَائِشَة أَنْ يَرَاهَا وَيَدْخُل عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا خَمْس رَضَعَات ثُمَّ يَدْخُل عَلَيْهَا) فهو تعبير لا يمكن حمله على الدخول المشروع، ومن البديهيات أن العالم أو الداعية لا يحب دخول شخص معين من الجنس الآخر لتعليمه في خلوة أو بدون خلوة. وقد اعترفت أنت بذلك إذ تقول في نهاية كلمتك:
واجابتى انا بايجاز
نعم اتفقنا ان ما دام اهل العلم تلفظوا بهذه الصيغه اذا فهى تصح وتليق بالحديث عن أم المؤمنين
وان القصد لم يكن لتأويل الدخول عليها للتعلم مع الخلوة بل كان مثلا لمعنى من معانى الدخول وان كنت ارى وجوب رجوعك الى البحث تحديدا فى نقطة " نهاية المبحث الثانى - موقف السيدة عائشة من رضاع الكبير
أي معنى من معاني الدخول يمكن فهمه من هذا السياق، هل يقبل مسلم أن يقال نفس اللفظ بنفس السياق عن زوجته أو أمه، أرجو أن تكون صريحا وتجب: هل تقبل أن يقال عن أمك أو زوجتك إنها إذا أحبت دخول الرجال عليها أمرت أختها بإرضاعهم كي يدخلوا عليها لتعليمهم الفقه وأصول الدين؟؟ أرجو أن نتفق على أن مجرد محبة أم المؤمنين دخول الرجال عليها لا يليق بمكانتها وشرفها وثقة نبينا صلى الله عليه وسلم فيها حيث صعد المنبر بعد حديث الإفك وقال "من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا" وأصحاب الإفك لم يصرحوا باتهام أم المؤمنين بالزنا، ولكنه كان التلميح والتشهير.
أما كون كثير من أهل العلم قبل الرواية وتناقلها، فقد ذكرنا أن كثيرا من الصحابة نقلوا كلام المنافقين في حديث الإفك ولاكته ألسنتهم الشريفة، ولكن الله وفق وعصم أبا أيوب حيث قال لزوجته بدون أن يسأل عن المصدر وصحة الرواية (أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب. قالت: لا والله ما كنت لأفعله. قال: فعائشة والله خير منك) فأنزل الله تعالى "لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين" وكلمة "لولا إذ سمعتموه" تشير إلى ضرورة رفض الكلام بدون التحقق من الرواة كما فعل أبو أيوب. لذا نفخر بأن الله جعل لنا من بين علماء الحديث قدوة، وقد أجمعت الأمة على أن كتابه أصح كتب الحديث بعد كتاب الله، نفخر بالإمام البخاري ونقول لعله اقتدى بأبي أيوب واستفاد من دروس الإفك وهو أهل لذلك، ونقول لعله أخذ بالموعظة الربانية في قوله تعالى "لولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم. يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين"
أما إصرارك على أن الحديث رواه البخاري مختصرا فقد ذكرت لك نص روايتي البخاري ولا أريد التكرار، فإذا قال قائل إن البخاري روى حديث تبني سالم مختصرا فلا بأس، أما أن يقول قائل إن البخاري روى أحاديث إرضاع الكبير مختصرا فهذا جهل أو تدليس، لأن الإمام الجليل لم يذكر لفظة إرضاع في هذه الأحاديث وليس عنده باب في إرضاع الكبير، والاختصار هو ذكر النقاط الرئيسية أو الخلاصة وترك التفاصيل فعلى أي أساس نقول إنه روى أحاديث إرضاع الكبير مختصرا.
أذكرك بأن الموضوع مازال كبيرا، ولكني أردت البدء بهاتين النقطتين، وآمل أن نتفق على أن الله عصم الإمام البخاري من نقل هذا الكلام الذي يسيء إلى أم المؤمنين، كما أرجو ألا نتحاور حوار الخصوم رغبة في الانتصار، بل نتعاون للوصول إلى الحقيقة، فديننا واحد وثوابتنا واحدة وحبنا وثقتنا في أم المؤمنين واحدة.