ومن مظاهر الجهل في الأمة :
أن ينسى –أحيانا- بعض من يفتي عامّتها ـ على اختلاف مدارك العامّة في الفهم ـ أنّ الإنسانَ بشرٌ يقاد بالحِكْمة، وليس بهيمة تُقادُ بالحَكَمَة، وفرق ما بين حِكْمة الحكيم ، وحَكَمَة البعير؛ كفرق ما بين الحكيم والبعير، ودعني أزيدك إيضاحا فأقول :
إنّ بعض الناس ممّن نشأ على الاستقامة، قد تأدّب على طلب البراءة لدينه، فتراه يطلب من المفتي شاهد الفتوى من دليل؛ من كتاب أو سنة، وما غرضه من ذلك إلاّ طلب انشراح الصدر،
وتحصيل الطّمأنينة وأن يكون على بيّنة من دينه، بحيث لا تتخطفه الأهواء والمقالات يمنة وشمالا،
وأن يرسخ اعتقاده لما سمع؛ بما لا تعمل فيه معاول الشبهات عملها، ولكنّ المؤسف أن ترى هذا المفتي إذا طُلب منه الدليل، احمرّ وجهه وانتفخت أوداجه وحملقت عيناه، في سلسلة أعراض بادية الدلالة على أنّ الرجل يتدفّق غضبا، فقط لأنّ المستفتي طلب دليلا !!!.
فلا تملك إزاء هذا الموقف إلاّ أن تأسف وتحزن في زمن ترى فيه أهل الصناعات والعلوم الدنيوية؛ لا يعجزون عن تلقين طلابهم وسائليهم ما يقدرون عليه من التدليل والاحتجاج بما يؤكدون لهم فيه ومن خلاله؛ صواب نتيجتهم وصدق مقولتهم، وهنا أقول : أيّ القضيتين أحرى بطلب الدليل والمحاججة، وأيّ المسألتين أحوج إلى المكاشفة والمساءلة ؟ مسائل الدنيا وقضاياها، أم مسائل الدين وقضاياه ؟ .
نعم قد يكون السائل بليد الذهن، قصير الباع ، بحيث يكون في محاولة إفهامه الدلالة من الدليل عبث محض، ولو قعدت معه من الفجر إلى الأصيل، ولكني أقول : ليس هذا من أعنيه، وإنّما أعني من طلب البينة لدينه وهو يدري ما يطلب، فإن كان في نفسه كذلك،فمن حقّه أن يطلب .
كما وفي المقابل ـ إعطاءً لكلّ ذي حقٍّ حقّه ـ على باغي الحجة وطالب البينة، أن يتأدّب في طلبها من المفتي ويتخيّر محاسن الألفاظ في استخراجها منه، فإنّ المفتي بشر؛ يروقه الكلام الحسن، ويزعجه اللفظ الخشن، والذكيّ من المستفتين من يتخيّر للفتوى التي يطلب دليلها؛ وقتها وجميل لفظها، وأختم بما ذكره النووي في "آداب المفتي"( ) : "وينبغي للعامي أن لا يطالب المفتي بالدليل، ولا يقل: لم قلتَ ؟ فإن أحبَّ أن تسكن نفسه لسماع الحجة طلبها في مجلس آخر، أو في ذلك المجلس بعد قبول الفتوى مجردة.
وقال السَّمعاني( ) : لا يمنع من طلب الدليل، وأنه يلزم المفتي أن يذكر له الدليل إن كان مقطوعاً به، ولا يلزمه إن لم يكن مقطوعاً به لافتقاره إلى اجتهاد يقصر فهم العامي عنه، والصواب الأول".
ومن مظاهر الجهل في الأمّة :
أن ترى الرّجل يتبوّأ المنازل المرضية عند الناس، من دون سعي منه إليها، ولا إشراف من النفس لها، أو شغفا وكلفا بها، ولكن لأنّ الله تعالى رأى منه حينا من الدهر؛ صدقاً معقودا، وإخلاصا محمودا، وسعيا لنشر الحق منشودا؛ رفعه بين الناس وجلب بقلوبهم إليه، مجازاة بالحسنى على الحسنة، وتأدية لحقّ سعيه المحمود، ووفاءً بوعد :﴿سيجعل لهم الرحمان ودّا﴾، ولكن إذا بالرجل يطمئنّ إلى مدح الناس وهو يتقاطر عليه، وكلماتهم المليحة و هي تنهال عليه، فترى جانب قلبه قد لان لها وعقله قد أخلد إليها، وإذا بالخذلان يدبّ إليه خفيّا.
فلهذا فاحذر ثمّ احذر أن يأخذك التّفاني في رؤية النّفس والاعتداد بها، أو يغرّنّك ثناء الناس عليك ومدحهم لك، وطلبهم الدعاء منك، وتسابقهم بين يديك لقضاء حوائجك، فترى لنفسك فضلا عليهم، فإنّ هذا انقطاع عن الطريق ومنافاة لما كان عليه السلف من هضم النّفس وعدم الاعتداد بها، فضلا عن كونه كذبا على النفس وفسادا في التصور، يورّث رؤية المرء نفسه على غير ما هي عليه في الواقع .
من أجل هذا جاءت الآثار عن السلف تترى في الأمر بردع النفس، والتواضع للغيرـ في غير مذلّة مهينة ـ مهما كان الممدوح معظّما في الملّة أو له جاه بين الناس .
فمن سبق له من الله سبحانه التوفيق ؛ ساد السداد أمره، وآب إليه رشده، واستغفر وأناب، ومن سبق له غير ذلك؛ شقي في عاقبة أمره، وفسد عليه حاله، وسعى بعد هفوته وسقوطه، لا لكي يسترجع رضا ربّه وتوفيق إلهٰه، ولكن ليحرص على إبقاء عزّه وجاهه وصحبه وسِلكه، ولو كان ذلك حامله على التقوّل على الله والكذب على خلقه .
هذه كلمات مختصرات؛ هي بمثابة الإشارة المغنية إن شاء الله عن تطويل العبارة، فإنّ هذا أمر؛ إنّما برهانه :وقوعه، ودليله: وجوده وشهوده ، ومن عايش الخلق بعين متدبّرة، وأخرى معتبِرة، شاهد من هذا أحوالاً تغنيه عن إخباره بتلك الكلمات .
وفي قصّة المنسلخ من الآيات الذي ضربه الله مثلاً؛ أكبر إنذار وإعذار لمن طلب النّجاة قبل يوم الجزاء .
قال تعالى : ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾[الأعراف:175-176]
قال ابن كثير تحت تفسير الآية؛ وقد نقل جملة كلمات عن السلف في تعيين المنسلخ من هو ؟ : " وقال مالك بن دينار: كان من علماء بني إسرائيل، وكان مجاب الدعوة، يقدمونه في الشدائد، بعثه نبي الله موسى إلى ملك مَدْين يدعوه إلى الله، فأقطعه وأعطاه، فتبع دينه وترك دين موسى، عليه السلام ... " .
ثمّ قال رحمه الله : ( وقد ورد في معنى هذه الآية حديث ... : "إن مما أتخوف عليكم رجُل قرأ القرآن، حتى إذا رؤيت بهجته عليه وكان رِدْء الإسلام [ردئًا للإسلام] اعتراه( ) إلى ما شاء الله، انسلخ منه، ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك". قال: قلت: يا نبي الله، أيهما أولى بالشرك: المرمي أو الرامي؟ قال: "بل الرامي")( )
قال السعدي رحمه الله : "﴿فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ﴾ أي: انسلخ من الاتصاف الحقيقي بالعلم بآيات اللّه، فإن العلم بذلك، يصير صاحبه متصفا بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويرقى إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات، فترك هذا كتاب اللّه وراء ظهره، ونبذ الأخلاق التي يأمر بها الكتاب، وخلعها كما يخلع اللباس.
فلما انسلخ منها أتبعه الشيطان، أي: تسلط عليه حين خرج من الحصن الحصين، وصار إلى أسفل سافلين، فأزه إلى المعاصي أزا.
﴿فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ بعد أن كان من الراشدين المرشدين.
وهذا لأن اللّه تعالى خذله ووكله إلى نفسه، فلهذا قال تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا﴾ بأن نوفقه للعمل بها، فيرتفع في الدنيا والآخرة، فيتحصن من أعدائه.
﴿وَلَكِنَّهُ﴾ فعل ما يقتضي الخذلان، فَأَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ، أي: إلى الشهوات السفلية، والمقاصد الدنيوية. ﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ وترك طاعة مولاه ... " ( ).
قلت : فمن يأمن مكر الله بعد هذا ؟ .