المجتمع الإسلاميُ وظهُور طبقة العُبَّاد
"نشأ المجتمع الإسلامي الأول نشأة طبيعية متكاملة غير متكلفة, جمعت بين بقايا من الفطرة السليمة والوحي المنزل من عند الله سبحانه وتعالى, كان العرب يومها وخاصة أهل المدن كقريش و الأوس والخزرج أقرب إلى الفطرة من الأمم الأخرى, فلا ريب أن الله اختار لنبيه أفضل الأجيال, رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكنفه ورعايته فكانوا: " كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار ... " . وعندما يبدر من أحدهم أي اجتهاد يخالف الحنيفية السمحة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصحح لهم الطريق ويعود بهم إلى الجادة المستقيمة, وعندما همّ ثلاثة من الصحابة بترك الدنيا من نساء وأموال بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بردهم إلى الطريق الوسط قائلاً لهم: " أما أنا فأصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء, فمن رغب عن سنتي فليس مني " .
فالتوسط هو الأصل " وإذا نظرت في عمومات الشريعة, فتأملها تجدها حاملة على الوسط, فطرف التشديد يؤتي به في المقابلة من غلب عليه الانحلال, وطرف التخفيف في مقابلة من غلب عليه الحرج الشديد فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحاً وهو الأصل الذي يرجع إليه " .
كان الصحابة رضوان الله عليهم فيهم الفقير والغني, وفيهم التاجر والمزارع والعامل وكان بعضهم يتناوب الحضور للتعلم من النبي صلى الله عليه وسلم ويبلغه للآخرين, وأما أهل الصفة فإنهم لم ينقطعوا للعبادة أو العلم باختيارهم وإنما كان أحدهم إذا وجد عملاً ترك حاله الأولى, هكذا كانت حياة الصحابة حياة طبيعية تجمع بين العلم والعمل والجهاد في سبيل الله, وبينما هو متعلم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هو بين أهله وولده وضيعة يمارس حياته اليومية المعتادة. والتزام أحدهم بعبادة معينة أكثر من الآخرين كفعل عبد الله بن عمرو بن العاص لا يغير من الصورة شيئاً, فهو شخصية متكاملة ولا تزال الفوارق الفردية تمايز بين الناس في جانب دون آخر. فهم كما وصفهم الإمام الجويني: " ولم يرهق وجوههم الكريمة وهج البدع والأهواء ولم يقتحموا جراثيم اختلاف الآراء كالبيضة التي لا تتشظى" .
وكان التابعون وكثير من تابعي التابعين على مثل ذلك, يجمعون بين العلم والعمل, بين العبادة والبعد عن الناس مع علمهم وفضلهم والتزامهم بآداب الشريعة, ولأسباب معينة قد يغلب على أحدهم الخوف الشديد والبكاء المستمر, فهؤلاء وإن كانت أحوالهم عالية جداً, ولكن أحوال الصحابة ومن اقتفى أثرهم من التابعين أفضل, ولذلك قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لأصحابه: " أنتم أكثر صوماً وصلاة من أصحاب محمد وهم كانوا خيراً منكم قالوا: لم يا أبا عبد الرحمن؟ قال: لأنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة" .
ويبدو أن من أسباب ظهور طبقة العباد والزهاد في القرن الثاني الهجري هو إقبال الناس على الدنيا يجمعون منها ويتفاخرون , فكانت ردة الفعل عند البعض هي الابتعاد الكلي عنها, ولا بد أن هناك أسباباً أخرى قد تكون شخصية, وقد تكون من أثر إقليم معين أو مدينة معينة, فإن من الخطأ تفسير ظاهرة ما بسبب واحد.
ثم حدثت مرحلة انتقالية بين هذا الزهد المشروع وبين التصوف حين أصبح له تآليف خاصة, ويمثل هذه النقلة مالك دينار فنراه يدعو إلى أمور ليست عند الزهاد السابقين, منها التجرد أي ترك الزواج, وهو نفسه امتنع عن الزواج وكان يقول: " لا يبلغ الرجل منزلة الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة ويأوي إلى مزابل الكلاب" . ويقول: " إنه لتأتي عَلَيّ السنة لا آكل فيها لحماً إلا في يوم الأضحى, فإني آكل من أضحيتي" . وكثيراً ما يقول: قرأت في بعض الكتب, قرأت في التوراة,ويروى عن عيسى عليه السلام: " بحق أقول لكم, إن أكل الشعير والنوم على المزابل مع الكلاب لقليل في طلب الفردوس " أو قوله: " أوحى الله إلى نبي من الأنبياء " أو " قرأت في الزبور ... " .
فمن الواضح ومن خلال قراءة ترجمته في كتب الطبقات أنه متأثر بما ترويه الكتب القديمة عن الزهاد والرهبان .. ومن الواضح أن هذه الكتب قد حرفت ولسنا مأمورين بقراءتها بل منهيون عن الأخذ منهم وتقليدهم.
وربما يكون عبد الواحد بن زيد ورابعة العدوية من أقطاب هذه المرحلة الانتقالية, واستحدثت كلمة العشق للتعبير عن المحبة بين العبد والرب ويرددون أحاديث باطلة في ذلك مثل: " إذا كان الغالب على عبدي الاشتغال بي جعلت نعيمه ولذته في ذكري عشقني وعشقته " وبدأ الكلام حول العبادة لا طمعاً في الجنة ولا خوفاً من النار, وإنما قصد الحب الإلهي, وهذا مخالف للآية الكريمة: " يدعوننا رغبا ورهباً " . ومثل قول رابعة لرجل رأته يضم صبياً من أهله ويقبله : " ما كنت أحسب أن في قلبك موضعاً فارغً لمحبة غيره تبارك اسمه " . وهذا تعمق وتكلف لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقبل أولاد ابنته ويحبهم .
يقول ابن تيمية : ملاحظاً : هذا التطور : " في أواخر عصر التابعين حدث ثلاثة أشياء : الرأي , والكلام, والتصوف, فكان جمهور الرأي في الكوفة, وكان جمهور الكلام والتصوف في البصرة, فإنه بعد موت الحسن وابن سيرين ظهر عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وظهر أحمد بن علي الهجيمي وبنى دويرة للصوفية وهي أول ما بني في الإسلام ( أي دار خاصة للالتقاء على ذكر أو سماع ) وصار لهم من التعبد المحدث طريق يتمسكون به, مع تمسكهم بغالب التعبد المشروع, وصار لهم حال من السماع والصوت, وكان أهل المدينة أقرب من هؤلاء في القول والعمل, وأما الشاميون فكان غالبهم مجاهدين ". الفتاوى : 10/359
كما لخص هذا التطور الإمام ابن الجوزي فقال : " في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم كانت كلمة مؤمن ومسلم, ثم نشأت كلمة زاهد وعابد, ثم نشأ أقوام وتعلقوا بالزهد والتعبد واتخذوا في ذلك طريقة تفردوا بها, هكذا كان أوائل القوم ولبَّس عليهم إبليس أشياء ثم على من بعدهم إلى أن تمكن من المتأخرين غاية التمكن ". تلبيس إبليس /161
هؤلاء الذين اتخذوا طريقة تفردوا بها ويسميهم ابن الجوزي ( أوائل القوم ) الذين جمعوا بين الزهد وبين التعمق والتشدد والتفتيش على الوساوس والخطرات مما لم يكن على عهد السلف الأول". من كتاب الصوفية نشأتها وتطورها تأليف : محمد العبده وطارق عبد الحليم.
"فالتصوف كفكرة لم تظهر في صورة مذهب، له حملته، وله أصوله وأفكاره، إلا في نهاية القرن الثاني، وبداية الثالث؛ أي بعد انتهاء القرون الثلاثة المفضلة، فليس من أئمته إذن من هو من التابعين، دع من فوقهم، وفي هذا دلالة على أنه مذهب بدعي حادث، وهذا ما قرره الأئمة الذين أنكروا على ما جاء به المتصوفة
وبدراسة تراجم أئمة التصوف، منذ بدايته حتى القرون اللاحقة: نجد فيها حقائق خطيرة. فإن كثيرا منهم تعرض للإنكار من العلماء والأئمة، فمنهم من سجن، ومنهم من هرب، واختفى، وتخفى بمذهب آخر.. (انظر: اللمع للطوسي). فهذه الأحوال التي تعرضوا لها حَرِّية بدراسة أسبابها، فإن الخط العام الذي كان عليه الناس اتباع السنة، فمن خالفها تعرض للإنكار، فهؤلاء إذن خالفوا الأمة؛ أي أنهم أتوا ببدعة استوجبت هذا النكير، ليس من إمام واحد، بل من كثير من الأئمة السنة، ولا في بلد واحد، بل في كثير من البلاد، وكان هذا منذ ابتداء أمرهم في نهاية الثاني وبداية الثالث الهجري، أي لما كانت السنة مهيمنة.
ومما يزيد النتيجة الأمر تأكيدا: التقرير الذي ذهب إليه عامة الباحثين في التصوف، من المتصوفة وغيرهم:
فإنهم يذكرون أن التصوف مذهب قديم قبل الإسلام، في الثقافات: الفارسية، والهندية، واليونانية.
ويذكرون كذلك أن المتصوفة المسلمين أخذوا أفكار وتعاليم المتصوفة القدماء وتأثروا بهم.
وإذا أردنا التحقق مما ورد في هذا التقرير، فما علينا إلا المقارنة بين أصول وأفكار التصوف في القديم، والأصول والأفكار المقررة للتصوف في الإسلام، كالفناء، والمحبة، والمعرفة، والتشبه بالإله، والحلول، والاتحاد، والوحدة، كما قررت في كتب أئمة التصوف، لنقف على التوافق التام بين الطرفين..!!.
وقد عني بمثل هذه المقارنة كثير من الباحثين، مثل: البيروني في كتابه عن الهند، وعمر فروخ في كتابه: "التصوف في الإسلام"، وإحسان إلهي ظهر في كتابه: "التصوف: المنشأ والمصادر".
فكل هذه الأدلة تبين أن نسبة الصوفية إلى الفلسفة أقرب منها إلى السنة، بل لا وجه لنسبتها إلى السنة:
لا في لفظها فلا علاقة لها بالصوف، الذي هو شعار الزهد.
ولا في معناها، فلا علاقة لها بالزهد.
ولا في نشأتها، فإنها نشأت بانحرافها.
ولا من جهة أئمتها، الذين تعرضوا للإنكار، بسبب ما أتوا به، مما هو مخالف لما هو سائد في مجتمع تهيمن عليه السنة والشريعة؛ فالإنكار إذن لما تضمنته دعوتهم ومذهبهم من مخالفات واضحة للسنة.
ولا من جهة المقارنة بين أفكار الصوفية في الإسلام، والصوفية ما قبل الإسلام، حيث ظهر التشابه.
وأما من يرى أصل التصوف سنيا محمودا، فالبرهان الذي يقدمه:
أن أئمة التصوف الأوائل ذكروا أن طريقتهم مقيدة بالكتاب والسنة، وعليه: فأسّ التصوف محمود في أصله؛ إذ هو المتقيد بالشريعة، والمذموم هو ما أحدثه من بعدهم ؟.
وهذا التقرير مبني على: أن هناك طريقة صوفية، أسسها الأوائل، متقيدة بالشريعة، واضحة المعالم، مفصلة المسائل، تضاهي الطرق الصوفية الفلسفية والبدعية المنتشرة، في تفصيلها، وترتبيها ( يلاحظ: أن هذا التقسيم بحسب الحال، وأما إنكار التقسيم فبحسب الأصل )
والشأن في وجود هذه الطريقة المتقيدة بالشريعة، فلو وجدت، وكانت على شرطها، فبها ونعمت.
لكن كيف لو أنها معدومة، لا وجود لها ؟!.
حينئذ تنتفي دعوى تقسيم التصوف إلى: محمود، ومذموم. كما ينتفي قول من زعم أن أصل التصوف محمود. فإنه قول في شيء لا وجود له إلا في الأذهان، والمعركة القائمة إنما في الخارج، فكيف لنا أن نقارن بين ما في الذهن وما في الخارج ؟!.
ومن كان في شك من هذا، فليخرج لنا طريقة واحدة متقيدة بالكتاب والسنة.
وإذا كان الجنيد، أو التستري، أو الداراني، وغيرهم قد أعلنوا هذا التقيد، فأين هي طريقتهم، ومذهبهم ؟.
أين هي الطرق الصوفية القائمة على التقيد بالكتاب والسنة ؟!.
ولو فرضنا جدلا: أن التصوف مصطلح دال على الزهد الشرعي في أصله. ثم إنه تلبس به ما فيه معارضة للشريعة، حتى صار هو الأشهر: لكان من الحكمة تركه والإعراض عنه، حتى لا يختلط الحق بالباطل؛ إذ لا موجب شرعيا ولا عقليا للتمسك به، وثمة مصطلح يغني عنه، ليس فيه لبس ولا تضليل هو: الزهد.
و الإمام ابن تيمية الذي أثنى على طائفة من أئمة التصوف: لم يترك للتصوف فكرة صوفية إلا ونقضها، وأبطلها، وحكم ببدعية التصوف، ولو كانت من السنة لما تعرض لها بالإبطال، ولما وصفها بالبدعة. (انظر: الاستقامة، والفتاوى 2/10/11)؛ ولأجله نفهم لم لا يقبله المتصوفة.
وموقف ابن تيمية من التصوف يمكن إيجازه في أربع كلمات:
الكلمة الأولى: أنه يقرر بدعية التصوف، كما يقرر بدعية الكلام، سواء بسواء. ( الفتاوى [10/358،366،592]، [11/508،555]، [2/13،41،54]، الاستقامة 1/90،220-221])
الكلمة الثانية: لا يحكم بضلال عموم المتصوفة:
بل من أصاب منهم شيئا من الحق ( كالجنيد ): أثنى عليه، وأمر بالاقتداء به، فيما أصاب فيه.
ومن أخطأ ( كالشبلي ): اعتذر له. وذم خطأه، ونهى عن متابعته.
ومن كان منهم رأسا في الكفر والزندقة ( كابن عربي )، لم يتردد في بيان ضلاله.
الكلمة الثالثة: ثناؤه على المصيب من أئمة التصوف، ليس شهادة أنه على السنة في كل أموره، بل ثناء نسبي، ودليل ذلك: أنه لا يعدل بأهل القرون الثلاثة المفضلة أحدا، ويقرر أن أئمة التصوف دونهم في المنزلة واتباع السنة (الاستقامة [1/89،163]، الفتاوى [2/13]، [10/362] ) وعندما يذكر موافقتهم للسلف، فإنما بحسب سياق المسألة التي بصددها، كما هو الحال حين كلامه على موقفهم من الصفات ( الاستقامة 1/82-91، 94،102،111). ولا يمتنع من بيان ما أخطؤوا فيه.
هذه الأمور ينبغي أن تلاحظ في تقريرات الإمام ابن تيمية لفكرة التصوف والمنتسبين إليها، فإن بعض الناس لما لم يفطن إليها: ظن أن الإمام يصحح بعض مذاهب التصوف، ويجعل منه: ما هو فلسفي، وما هو سني. وليس الأمر كذلك، بل هو عنده: بدعي، يتضمن حقا وباطلا، فيعرف حقه، وينكر باطله. و المهم في الأمر هنا: أن المتبع لابن تيمية في نظرته إلى التصوف ينساق إلى العدل، وذلك بالتفريق في الحكم بين الفكرة والمنتسبين إليها.
فأما الفكرة فإنها بدعة، هذا ما يقرره ابن تيمية" (منقول من ملتقى أهل الحديث).
والخلاصة :
"أن التصوف كمصطلح صار له عموم وخصوص , أما من حيث العموم فهو يُطلق على كل من كان زاهداً أو عابداً أو متنسكاً متواضعاً , وهذا الإطلاق حصل على أزمنة متأخرة عن زمن الزهاد والعبّاد الأوائل وممن أطلق ذلك الإمام النووي فهو عندما يقول عن شخص معتبر عنده إنه من الصوفيّة فهو من كان وصفه كما في كتابه ( كتاب المقاصد ) قائلاً : أصول طريق التصوّف خمسةُ :
1_ تقوى الله في السِّرِّ والعلانية .
2_ واتّباع السُّنَّة في الأقوال والأفعال .
3_ والإعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار .
4_ والرِّضا عن الله تعالى في القليل والكثير .
5_ والرّجوع إلى الله في السَّرَّاءِ والضرَّاء . انتهى .كتاب المقاصد في بيان العقائد وأصول الأحكام للإمام النووي ( ص92).
ولا أعلم أحداً اعترض على هذا الكلام وإنمّا الاعتراض كان وما يزال على المخالفين لهذه الأصول من الصوفيّة , والانتقاد الذي يوجّه للصوفيّة إنما هو لانحرافاتهم ومخالفتهم للشرع الحنيف , وليس لأنّهم زهاد أو عبّاد أو أهل ذكر وصلاح !
وحاشا للإمام النووي أن يثني على رجل عرف عنه أنّه يخالف الشرع في مسأله ما . وقد قال النووي : (( أصول الدِّين أربعة : الكتابُ والسنُّة والإجماع والقياس المعتبران . وما خالف هذه الأربعة فهو بدعةُ ومرتكبُه مُبتدع , يتَعَيَّنُ اجتنابه وزجرهُ . ومن المطلوب اعتقاد من علم وعمل ولازم أدب الشريعة , وصحب الصّالحين . وأمّا من كان مسلوباً عقلهُ أو مغلوباً عليه , كالمجاذيب , فنسلّم لهم ونفوّض إلى الله شأنهم , مع وجوب إنكار ما يقع منهم مخالفا لظاهر الأمر , حفظاً لقوانين الشَّرع )) انتهى .المرجع نفسه ( ص 34 , 35 ).. ومن المعلوم أن الصوفية يخالفون ذلك ويتخذون مصادر أخرى غير مصادر الدين التي ذكرها الإمام النووي بل وقد يقدمونها على الكتاب والسنة فمن مصادر هؤلاء الصوفية الكشف والإلهام والرؤى والأحلام .. ، ولم يذكر أحد من أئمة العلم كالأئمة الأربعة الرُؤى المنامية الكشف والإلهام ضمن هذه الأدلة.
يقول الجرجاني عن الكشف: «في اللغة: رفع الحجاب، وفي الاصطلاح: هو الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجوداً أو شهوداً» التعريفات (ص:184).
ويقول الجرجاني عن الإلهام: «وهو ليس بحجة عند العلماء إلا عند الصوفيين» التعريفات (ص:34).
قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله "لِأَنَّ ابْنَ سُرَيْجٍ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ من الْأَئِمَّةِ مُجْمِعُونَ على أَنَّ الْإِلْهَامَاتِ من غَيْرِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يُعْمَلُ بها في الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إذْ هِيَ لَا تُبْنَى على الْخَوَاطِرِ وَالْإِلْهَامَا تِ كما صَرَّحَ بِهِ الْأَئِمَّةُ حتى شُرَّاحُ الْمِنْهَاجِ في أَوَائِلِ الطَّهَارَةِ.." الفتاوى الفقهية 4 / 184
والكشف و الإلهام توصل إلى معرفة الحقائق - كما تزعم الصوفية - بدون الطرق التي جعلها الله سبلاً لمعرفتها، ولم يكن الالتفات والاهتمام بهما معروفاً عند السلف الصالح ولا عند العلماء المقتدى بهم في كل الأعصار والأمصار.
ولا يمكن إقامة حجة ولا برهان على صحة دعوى من يدعي الكشف والإلهام إلا مجرد قوله، ولهذا رده العلماء، ورفضوا الاستدلال به، ولو انفتح باب الاحتجاج به في الشريعة سهلت للمتاجرين بالدين الذريعة واتسع الخرق على الراقع
قال العز بن عبد السلام "والعجبُ أنَّ من الناس من يثبت ذلك بالمنامات , وليست المنامات من الحجج الشرعية التي تثبت بها الأحكام . ولعل المرئْيَّ في ذلك من تخبيط الشيطان وتزيينه . ولا يجوز إهداءُ شيء من القرآن , ولا من العبادات , إذ ليس لنا أن نتصرّف في ثواب الأعمال بالهبات كما نتصرف في الأموال بالَّتبرعات )). انتهى (الفتاوى الموصليّة للعز بن عبد السلام (ص 98 _100) بتحقيق الأستاذ إياد خالد الطباع).
وقال الإمام الشاطبي: ( وأضعف هؤلاء احتجاجا قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المقامات وأقبلوا وأعرضوا بسببها فيقولون رأينا فلانا الرجل الصالح فقال لنا اتركوا كذا واعملوا كذا ويتفق مثل هذا كثيرا للمتمرسين برسم التصوف وربما قال بعضهم رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم فقال لي كذا وأمرني بكذا فيعمل بها ويترك بها معرضا عن الحدود الموضوعة في الشريعة وهو خطأ لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعا على حال إلا أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية فإن سوغتها عمل بمقتضاها وإلا وجب تركها والإعراض عنها وإنما فائدتها البشارة أو النذارة خاصة وأما استفادة الأحكام فلا )(الإعتصام)
وقال الحافظ أبو زرعة العراقي "لو أخبر صادق عن النبي في النوم بحكم شرعي مخالف لما تقرر في الشريعة لم نعتمده". طرح التثريب 8/215 شرح حديث رؤيا الرجل الصالح
وقال السخاوي "لم يصل إلينا ذلك – أي وقع الرؤية يقظة عن أحد من الصحابة ولا عمن بعدهم وقد اشتد حزن فاطمة عليه حتى ماتت كمداً بعده بستة أشهر على الصحيح وبيتها مجاور لضريحه الشريف ولم ينقل عنها رؤيته في المدة التي تأخرتها عنه" وذكر السخاوي أن دعوى ذلك إنما تنقل عن المتصوفة وأن من مصنفاتها المحتوية على عباراتها في ذلك (توثيق عرى الإسلام للبارزي) و(بهجة النفوس) لأبي محمد عبد الله بن أبي جمرة و(روض الرياحين) لليافعي. و(رسالة الشيخ صفي الدين بن أبي منصور) نقله القسطلاني عن السخاوي في المواهب اللدنية (5/295).
وقال الإمام ابن كثير في "البداية والنهاية" (1/94) تعليقاً على ما ذكره الحافظ ابن عساكر في ترجمة أحمد بن كثير أنه رأى النبي r وأبابكر وعمر وهابيل واستحلف هابيل أن هذا - أي الدم الموجود بالمكان الذي يقال - بأنه هو الذي قتل فيه قابيل أخاه هابيل المسمى بمغارة الدم بدمشق - دمه - أي هابيل - فحلف له وذكر أنه سأل الله تعالى أن يجعل هذا المكان يستجاب عنده الدعاء فأجابه إلى ذلك وصدقه في ذلك رسول الله r وقال إنه وأبا بكر وعمر يزورون هذا المكان في كل يوم خميس) قال ابن كثير تعليقاً على ذلك ما نصه: (هذا منام لو صح عن أحمد بن كثير هذا لم يترتب عليه حكم شرعي) اهـ)( 1 ).
وقال ابن الحاج في "المدخل" (4/302–304):(ليحذر مما يقع لبعض الناس في هذا الزمان وهو أن من يرى النبي rفي منامه فيأمره بشيء أو ينهاه عن شيء ينتبه من نومه فيقدم على فعله أو تركه بمجرد المنام دون أن يعرضه على كتاب الله وسنة رسول الله r وعلى قواعد السلف رضي الله عنهم قال تعالى في كتابه العزيز:فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ]النساء:59[.
ومعنى قوله:فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ أي إلى كتاب الله تعالى، ومعنى قوله: وَالرَّسُول أي إلى الرسول في حياته وإلى سنته بعد وفاته على ما قاله العلماء رحمة الله عليهم وإن كانت رؤيا النبي r حقا لا شك فيها لقوله r: ومن رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي على اختلاف الروايات، لكن لم يكلف الله تعالى عباده بشيء مما يقع لهم في منامهم؛ قال r: رفع القلم عن ثلاثة وعد منهم النائم حتى يستيقظ لأنه إذا كان نائماً فليس من أهل التكليف فلا يعمل بشيء يراه في نومه.
هذا وجه؛ ووجه ثان وهو أن العلم والرواية لا يوخذان إلا من متيقظ حاضر العقل والنائم ليس كذلك.
ووجه ثالث: وهو أن العمل بالمنام مخالف لقول صاحب الشريعة صلوات الله عليه وسلامه حيث قال: تركت فيكم الثقلين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله و سنتي فجعل r النجاة من الضلالة في التمسك بهذين الثقلين فقط لا ثالث لهما.ومن اعتمد على ما يراه في نومه فقد زاد لهما ثالث فعلى هذا من رأى النبي rفي منامه وأمره بشيء أو نهاه عن شيء
فيتعين عليه عرض ذلك على الكتاب والسنة إذ إنه rإنما كلف أمته باتباعهما وقد قال
r: فيبلغ الشاهد الغائب إلى ان قال:(فإذا عرضها على شريعته r فإن وافقتها علم أن الرؤيا حق وأن الكلام حق وتبقى الرؤيا تأنيساً له وإن خالفتها علم ان الرؤيا حق وأن الكلام الذي وقع له فيها ألقاه الشيطان له في ذهنه والنفس الأمارة لأنهما يوسوسان له في حال يقظته فكيف في حال نومه … الخ).
"وأما من حيث الخصوص فالتصوف يُطلق على طائفة وضعت لنفسها قواعد فلسفية عالجت انطلاقا منها نصوص الشريعة الإسلامية , فخرجت بمفاهيم جديدة تعارض الأصول الشرعية , وانحرفت عن الإسلام انحرافاً كبيراً , ومن بين أهل العموم والخصوص برزت طائفة من الصوفية يشتركون مع القاسم الأول في العبادة والزهد , ولكنهم متلبّسون ببدع كثيرة ويكثر فيهم الجهل , وفي الوقت نفسه يحسنون الظن برجال القسم الثاني المنحرف , ولذا لا يقبلون أي نقد لهم.
كما برزت طائفة أخرى لا تعرف الزهد ولا العبادة ولا الأخلاق الحميدة , وضاعت عندهم جميع المبادئ الإسلامية . وإنما تستروا بالتصوف ليضمنوا وجودهم في مجتمعات المسلمين التي تتقبل التصوف بوجهٍ عام" . د.خلدون مكي الحسني
وقد رد ابن الجوزي على أبي نعيم الأصبهاني عندما خلط بين زهاد السلف والصوفية قال ابن الجوزي في نقد الحلية لأبي نعيم :« والسابع: إضافة التصوف إلى كبار السادات كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن وشريح وسفيان وشعبة ومالك والشافعي وأحمد وليس عند هؤلاء القوم خبر من التصوف.
فإن قال قائل: إنما عنى به الزهد في الدنيا وهؤلاء زهاد، قلنا: التصوف مذهب معروف عند أصحابه لا يقتصر فيه على الزهد، بل له صفات وأخلاق يعرفها أربابه، ولولا أنه أمر زيد على الزهد ما نقل عن بعض هؤلاء المذكورين ذمه، فإنه قد روى أبو نعيم في ترجمة الشافعي رحمة الله عليه أنه قال:"التصوف مبني على الكسل، ولو تصوف رجل أول النهار لم يأت الظهر إلا وهو أحمق"» صفة الصفوة جـ1/ 9-10 .، وقد ذكر ابن الجوزي النبي والزهاد من أصحابه والتابعين، وكأنه ألف كتابه للزهاد وليس للصوفية، ولذا قال:« وقد تجوزت بذكر جماعة من المتصوفة، وردت عنهم كلمات منكرة»( ).
والسلف كالإمام أحمد وابن المبارك وغيرهم يميزون زهد السلف عن التصوف، وقد ذكر الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ في كتابه المشهور "الزهد"، زهد الأنبياء والصحابة والتابعين، وكذلك عبدالله بن المبارك في "الزهد" وهناد بن السري، والصحابة والتابعون لايصح نسبتهم للصوفية، فإن اسم التصوف حدث بعد زمنهم بقرون.
قال صاحب كتاب الصوفية نشأتها وتطورها :"عندما نتكلم عن الصوفية فإنما نقصد المعنى الاصطلاحي, أي الصوفية التي جاءت بكتب ومصطلحات خاصة, فيها إشكالات وبعد عن المنهج الإسلامي الصحيح أدت فيما بعد إلى أمور خطيرة مثل الإتحاد والحلول, فهذا لا شك أنه تفرق وبعد عن خط أهل السنة والجماعة, وأما الذين يقولون: إنما نعني بالصوفية السلوك الإسلامي وترقيق القلوب والزهد في الدنيا فيقال لهم: لماذا تسمون هذه الأشياء صوفية وقد أصبحت علماً على رموز وأشكال تخالف الإسلام فهلاّ ابتعدتم عن الشبهات وتركتم هذه الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان " والزهد لم يذمه أحد وقد ذموا التصوف". ابن الجوزي: تلبيس إبليس/165
وقال زكي مبارك "والذين اكتفوا بحسن الخلق والزهد في الدنيا والتأدب بآداب الشرع لقبوا بالنساك والقراء والزهاد والعباد, والذين أقبلوا على دراسة النفوس وآفاتها وما يرد على القلب من خواطر وحرصوا على الصيغة المذهبية لقبوا بالصوفية". زكي مبارك: التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق 2/21
فالقضية ليست قضية سلوك وإنما هي أساليب مستحدثة مخترعة أعجمية في الرياضات الروحية أدت إلى الشطح والقول على الله بغير على فغاية الصوفية الاتصال بالله ـ بزعمهم ـ والبعد عن الناس, وهذا مضاد لمنهج الأنبياء الذين لم يبعثوا إلا ليهزوا أركان العالم ويوقظوا الناس من سباتهم, ولذلك فنحن لا نعتبر أعلام الزهاد والعباد كإبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض وأمثالهم داخلين في الصوفية بهذا المعنى الذي نقرره , فضلاً عن أن نعتبر أمثال الحسن البصري ومن قبله كما يحاول الصوفية أن يقرروا وبدون حياء كما يصفهم ابن الجوزي, وكل فرقة تحاول التمويه على الناس وتنسب إليها أعلام أهل السنة, فكل الأحاديث الباطلة والمضحكة عند الشيعة الإمامية تنسب إلى جعفر الصادق وهو بريء منها وهو من أئمة أهل السنة". كتاب الصوفية نشأتها وتطورها تأليف : محمد العبده وطارق عبد الحليم.
والصوفية بالمعنى الاصطلاحي ليسوا من أهل السنة والجماعة لكونهم يعتقدون أن طريق الوصول إلى الله سبحانه وتعالى بالكشف والذوق والرياضيات الروحية التي ما أنزل الله بها من سلطان, فلا شك أن هذا تفرق مذموم فكيف بمن يتكلم بالحلول والإتحاد, فهذا كفر صريح. وإذا كان علماء السلف قد ذموا علم الكلام وما جرَّ وراءه من بدع وتفرق, وإن كان بعض العلماء الذين خاضوا فيه قصدوا الدفاع عن الإسلام بنوايا حسنة, فكيف لا يذم من ابتدع طريق التصوف الأعجمي في الفناء والرهبانية وذكر الله بالرقص والدف.
قال الإمام البقاعي: تنبيه الغبي /21 " ومن يعتقد أن لأحد طريقاً إلى الله من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر من أولياء الشيطان".
ثم إن هناك من العلماء الذين كتبوا في موضوع (الفرق) من اعتبرها كذلك, كالرازي في كتابه (اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ) قال: " اعلم أن أكثر من قص فرق الأمة لم يذكر الصوفية وذلك خطأ .. ", ثم ذكر طبقاتهم وفرقهم. وقد جعل ابن النديم في كتابه (الفهرست) المقالة الخامسة ( في السياح والزهاد والعباد والمتصوفة المتكلمين على الخطرات والوساوس ) . فخر الدين الرازي: اعتقادات فرق المسلمين /72.
وعقد ابن حزم في كتابه ( الفصل في الملل والنحل ) فصلاً لذكر ( شنع قوم لا تعرف فرقهم ) ثم قال: " وادعت طائف من الصوفية أن في أولياء الله من هو أفضل من جميع الأنبياء, وأن من عرف الله فقد سقطت عنه الأعمال". ابن حزم: الفصل في الملل والنحل 4/226.
وجاء في كتاب ( البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان ) لعباس بن منصور الحنبلي: " ولم يشذ أحد منهم ـ أي عن أهل السنة والجماعة ـ سوى فرقة واحدة تسمت بالصوفية يتقربون لأهل السنة وليسوا منهم وقد خالفوهم في الاعتقاد والأفعال " ص11 والظاهر أن المؤلف يتكلم عن غلاة الصوفية.
والقصد أننا لا نعني بكلمة فرقة إلا التفرق المذموم في الشرع وهو الابتعاد عن أصالة الإسلام الذي يمثله جيل الصحابة ومن تبع أثرهم. "
فأهل السنة والجماعة تميزوا عن سائر الفرق بالتمسك بالسنة والآثار ، فمن كان منهجه في التلقي والاستدلال السنة والأثر فهو من أهل السنة ،ومن تلقى من غيرها كمن جعل مصدر التلقي والاستدلال عنده العقل أو الفلسفة أو الكشف أو الذوق فقد أخطأ وإن وافق في النتيجة.
وقد نص الإمام أحمد على أن "من خاض في علم الكلام لايعتبر من أهل السنة وإن أصاب بكلامه السنة حتى يدع الجدل ويسلم للنصوص" فلم يشترطوا موافقة السنة فحسب بل التلقي والاستمداد منها .
قال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - "فإن الكلام في القدر والرؤية والقرآن وغيرها من السنن مكروه ومنهي عنه ، لا يكون صاحبه و إن أصاب بكلامه السنة من أهل السنة حتى يدع الجدال ويسلم ويؤمن بالآثار ." رسالة أصول السنة للإمام أحمد بن حنبل
فمن تلقى من السنة فهو من أهلها وإن أخطأ ومن تلقى من غيرها فقد أخطأ وإن وافقها في النتيجة.