سفيان الثوري.. أمير أهل الحديث

محمد حلمي عبد الوهاب

كان من عادة سفيان الثوري (97 - 161هـ) أن لا يُعَلّمُ أحدا العلم حتى يتعلم الأدب، ولو عشرين سنة! وكان يقول لطلاب العلم: «إذا فسد العلماء، فمن بقي في الدنيا يصلحهم؟ ثم ينشد قائلا:
يا معشر العلماء يا ملح البلد *** ما يصلح الملح إذا الملح فسد؟!

وكان من عادته أيضا، أنه إذا جلس للعلم وأعجبه منطقه، يقطع الكلام على الفور، ويقوم من مجلسه وهو يقول: «أُخذنا ونحن لا نشعر»! ورغم أنه كان معروفا بلقب «أمير المؤمنين في الحديث»، فإنه كان دائما ما يقول: «والله لو رآني عمر بن الخطاب لضربني بالدرة، وأقامني، وقال: مثلك لا يصلح للحديث». كما كان يقول لطلبة العلم الذين يفدون إليه من كل مكان: «والله ما أرى نفسي أهلا لإملاء الحديث، ولا أنتم أهلا لأن تسمعوه، وما مثلي ومثلكم إلا كما قال القائل: افتضحوا فاصطلحوا»!! لا عجب أن يقول سفيان لطلبة علم الحديث إذن: «سلوني عن المناسك والقرآن، فإني بهما عالم»!

ويبدو لي أن الذي دفعه لذلك أمران رئيسيان: أولهما، ما شاهده من فساد العلماء في عصره وتوظيف السلطة لهم. وثانيهما، أنه غلب على طلبة العلم في وقته طلبه لأجل المباهاة! وقد دفعه ذلك إلى الامتناع من الجلوس للعلم، فقيل له في ذلك، فقال: والله لو علمت أنهم يريدون بالعلم وجه الله، لأتيتهم في بيوتهم وعلمتهم، ولكن إنما يريدون به المباهاة، وقولهم حدثنا سفيان.. إلخ. ولذلك كان لا ينفك ينصح مريديه بالقول: زينوا العلم بأنفسكم، ولا تزينوا بالعلم! كان والد سفيان، سعيد بن مسروق الثوري، من ثقات المحدثين وهو أول من لقن سفيان العلم من دون شك. كما شهد جده، مسروق بن حبيب بن رافع، موقعة الجمل مع الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. وبحكم البيئة العلمية التي تربى فيها اتجه آليا في دراسته وجهة أبيه، وما أجمل أن يصف لنا التطور الذي لحق به حين يقول: «طلبت العلم فلم تكن لي نية، ثم رزقني الله النية»! وإلى جانب أبيه، تلقى سفيان العلم على يد كثير من الأشياخ، في مقدمتهم: زبيد بن الحارث، وحبيب بن أبي ثابت، والأسود بن قيس، وغيرهم. ولكثرة من تلقى على أيديهم العلم، يقال إن عدد شيوخه قد بلغ ستمائة! كبارهم هم الذين حدثوه عن أبي هريرة، وجرير بن عبد الله، وابن عباس، رضي الله عنهم.

أما تلامذته ومن حدثوا عنه، فيذكر ابن الجوزي أنهم أكثر من عشرين ألفا!! فقد حدث عنه من القدماء من مشيخته وغيرهم خلق كثير، من بينهم: الأعمش، المحدث المشهور، وأبان بن تغلب، وابن عجلان، وخصيف، وابن جريج، وجعفر الصادق، وأبو حنيفة، والأوزاعي، وشعبة، ومعمر - وكلهم ماتوا قبله - وكذلك إبراهيم بن سعد، وأبو إسحاق الفرازي، وأحمد بن يونس اليربوعي، وابن علية.. إلخ.

وكان الثوري شديد الحفظ لا يسمع شيئا إلا حفظه في وقته حتى كان يُخاف عليه! ونظرا لذلك؛ فقد حدّث وهو شاب صغير، بحسب ما يؤكد أبو المثنى الذي قال: سمعتهم بمرو يقولون قد جاء الثوري، فخرجت أنظر إليه، فإذا هو غلام قد بقل وجهه!! وفي السياق ذاته، يقول سفيان بن عيينة: كان الثوري كأن العلم ممثل بين عينيه، يأخذ منه ما يريد ويدع ما لا يريد! ومما هو معلوم، أن المحدثين كانوا آنذاك لا يتقاضون على الحديث أجرا ممتثلين في ذلك قول الله تعالى: «قل لا أسالكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين». ولذا فإن من المرجح تماما أن أسرة سفيان لم تكن من ذوي الثراء العريض، ودليلنا على ذلك؛ ما رواه وكيع، المحدث المشهور، من أن والدة سفيان قالت له - بعد وفاة والده الذي يبدو أنه فارقه صغيرا -: «يا بني، أطلب العلم وأنا أعولك بمغزلي. وإذا كتبت عشرة أحرف، فانظر هل ترى في نفسك زيادة في الخير، فإن لم تر ذلك فلا تتعبن نفسك»!! ومن اللافت هاهنا أن هذه الأم الفاضلة قد ذكرها ابن الجوزي في كتابه «صفة الصفوة»، ضمن (المصطفيات من العابدات الكوفيات).

على أن الثوري قد أدرك، منذ أن دخل مرحلة الشباب، أنه لا غنى عن توفير مصدر دخل حتى يتفرغ لطلب العلم فاشتغل بالتجارة، ومما كان يعيبه على أهل العبادة والعلم في عصره أنهم كانوا يركنون إلى التواكل والعيش على الصدقات. يقول في ذلك: لما هممت بطلب الحديث، قلت: أي رب، إنه لا بد لي من معيشة، فاكفني أمر الرزق، وفرغني لطلبه، فتشاغلت بالطلب فلم أر إلا خيرا.

ومما ورد عنه في هذا السياق، أنه كان يقول عن نفسه: «لأن أخلف عشرة آلاف درهم أحاسب عليها، أحب إلي من أن أحتاج إلى الناس». كما كان يتوجه للنساك بالقول: «إذا أردت أن تتعبد فاحْرِزْ الحنطة»، أي ليكن قوتك موفورا عندك من كسبك. وموقفه هذا يعد تطورا لافتا لما كان عليه الأمر من قبل، وهو ما يبدو واضحا من قول سفيان نفسه: «كان (طلب) المال فيما مضى يكره، فأما اليوم فهو ترس المؤمن»! وكان يقول أيضا: أحب لطالب العلم أن يكون في كفاية؛ فإن الآفات وألسن الناس تسرع إليه إذا احتاج وذُّل.

المال إذن، بنظر الثوري، صار حصنا لطالب العلم من الحاجة والمذلة، خاصة حاجة العالم لهبات السلطان، وكي لا يكون العلم متاجرة بين الناس! ولذلك لما عاب الناس عليه خروجه من أجل التجارة إلى اليمن، جاء رده حاسما: «لقد عابوا غير معيب، طلب الحلال شديد، خرجتُ أريده»!! ليس غريبا إذن، والحال هذه، أنه عندما جاءه رجل وهو ممسك بمال التجارة وقال له: يا أبا عبد الله تمسك هذه الدنانير؟ أن يجيب الثوري من فوره قائلا: اسكت يا هذا، فلولا هذه الدنانير لتمندل بنا هؤلاء الملوك! أي لجعلونا في أيديهم كالمناديل التي يتمسحون بها، ويقضون بها مآربهم!! أما فيما يتعلق بموقفه من الحكام في عصره، فقد كان شديد المقت لأولئك الذين يقفون بباب السلطان طلبا للمال، أو لأولئك الذين يبيعون دينهم بدنيا السلطان، أو حتى الذين يداهنون ويتملقون الملوك والأمراء من دون مقابل! يقول في شأن الفريق الأول: «إن عامة من داخل هؤلاء (الأمراء)، إنما دفعهم إلى ذلك الحاجة والعيال».

ويقول في شأن الفريق الثاني، خاصة كتبة السلاطين والأمراء، إنهم يوم القيامة أسوؤهم حالا: يدعى بالأمير الأول فيُسأل، ويُسألون معه، ثم يذهب الأمير ويوقفون حتى يُدعى بالآخر فيُسأل ويُسألون معه، ثم يذهب حتى يدعى بالآخر.. وهكذا. ولما اعترض عليه أحد هؤلاء بالقول: فكيف أصنع، يا أبا عبد الله، بعيالي؟ قال الثوري غاضبا: يا قوم اسمعوا لهذا يقول: «إذا عصى الله رَزَق عياله، وإذا أطاعَ اللهَ ضيَّعَ عياله»!! كان تهافت العلماء وطلبة العلم على الأمراء والسلاطين أكثر ما هال الثوري في عصره، وقد كان دائما ما يحذر مريديه بالقول: احذورا حبَّ المنزلة؛ فإن الزهادة فيها أشد من الزهادة في الدنيا! كما كان يقول أيضا: ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرئاسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإذا نوزع الرئاسة حامى عليها وعادى!! وقد دفعه ذلك، أكثر من مرة، لأن ينشد:

حبُّ الرئاسة داءٌ لا دواءَ لهُ وقلّما تجد الراضين بالقسمِ! ونتيجة قناعته تلك؛ كان الثوري يقاطع الأمراء والملوك والخلفاء مؤكدا أنه «إذا لم يكن لله في العبد حاجة نبذه إليهم»! وقد غالى في ذلك لدرجة أنه حرّم النظر - مجرد النظر - إلى أبنية الظلمة، أي أصحاب السلطة! يقول يحيى بن يمان: كنت أمشي مع سفيان فنظرت إلى باب قصر مشيد فجذبني سفيان حتى جزت. فقلت: ما تكره من النظر إلى هذا؟ فقال: إنما بنوه لينظر إليه ولو كان كل من مر به لم ينظر إليه ما بنوه.

وفيما أخبر النبي، صلى الله عليه وسلم، أن تبسم المسلم في وجه أخيه صدقة، يقرر الثوري أن من تبسم في وجه ظالم أو أخذ من عطائه فقد نقض عرى الإسلام وكتب من جملة أعوان الظلمة! ويبدو أن هذا المنحى كان متعارفا عليه لدى العلماء العاملين، فعن علي بن الصباح قال: أتيت عبد الله بن داود فسألته عن سُكنى بغداد (دار الخلافة) فقال: لا بأس. قلت: فإن سفيان الثوري كان لا يدخلها. فقال: سفيان يكره جوار القوم وقربهم. قلت: فابن المبارك؟ قال: كان كلما دخلها، تصدق بدينار! فعاصمة السلطان ومحل إقامته أدعى للافتتان، ولا يجوز الإقامة بها ومجاورتهم إلا على وجه الاضطرار، وهو ما عبر عنه بشر بن الحارث بالقول: بغداد ضيقة على المتقين؛ وما ينبغي لمؤمن أن يقيم بها. فلما قيل له: هذا أحمد بن حنبل، فماذا يقول؟ قال: كان يقول دعتنا الضرورة إلى المقام بها، كما دفعت الضرورة المضطر إلى أكل الميتة!!

ولا شك أن كثيرا من الناس كانوا يحثون الثوري على الاتصال بالملوك والأمراء، غير أنه كان يجيبهم في حزم: «إني لألقى الرجل (من أهل السلطة) أبغضه، فيقول لي: كيف أصبحت؟ فيلين له قلبي. فكيف بمن أكل ثريدهم، ووطئ بساطهم»؟! وحين طلب إليه عبد الله بن المبارك ذلك، أجاب الثوري: أخشى أن يسألني الله عن مقامي ما قلت فيه؟ فقيل له: تقول وتتحفظ! فسخر قائلا: تأمرونني أن أسبح في البحر ولا تبتل ثيابي!! على أنه ما كان مقاطعا لهم خشية أذاهم، وإنما خاف على نفسه أن يميلوا عليه بدنياهم، ثم لا يرى لهم سيئاتهم سيئة بعد ذلك! وحين تولى شريك قضاء الكوفة متذرعا بأنه لا بد للناس من قاض، أجابه سفيان على الفور: يا أبا عبد الله! لا بد للناس من شرطي!!

وقد عاصر الثوري خلافة كل من أبي جعفر المنصور، والمهدي: فأما الأول فما استطاع إليه سبيلا، فأصدر أمرا بصلبه، إلا أنه (المنصور) مات قبل أن يدخل مكة! وأما الآخر، فحاول أن يفيد من سلطة الثوري في المجتمع، فأرسل في طلبه ونزع خاتم الخلافة من إصبعه ورمى به إليه قائلا: يا أبا عبد الله، هذا خاتمي فاعمل به في هذه الأمة بالكتاب والسنة! فلما استأمنه على نفسه قال له: لا تبعث إلى حتى آتيك، ولا تعطني شيئا حتى أسألك. فغضب المهدي وهم أن يفتك به لولا أن ذكره كاتبه بأنه قد أمنه! ولما خرج من عنده حف به أصحابه، فقالوا: ما منعك يا أبا عبد الله، وقد أمرك أن تعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة؟! فاستصغر عقولهم، وخرج إلى البصرة هاربا. فقد أدرك ببصيرته الفذة أن من أوشك أن يهم به بسبب كلمة عفوية، لا يرجى منه الاستجابة إلى ما يحب الثوري من سيادة كتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم.

ومرة أخرى قال له المهدي: يا أبا عبد الله! اصحبني حتى أسير فيكم سيرة العُمرين، فقال له: أما وهؤلاء جلساؤك فلا. ثم سأله: كم أنفقت في حجك؟ فقال المهدي: لا أدري؛ فقال: لكن عمر بن الخطاب يدري، أنفق في حجه ستة عشر دينارا فاستكثرها!!