بسمِ الله، والحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ خلق الله، محمدٍ وآله وصحبهِ ومن والاه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم نلقاه.
وبعد.
فإن آخر القرون، يكثر فيها الجهلُ، والفسادُ، والفتونُ، وإنَّ الشَّيطان يتربّصُ بأهل العلم والفضل، حتى يقطعَ بينهم كلَّ همزة وصلٍ،وفي الحديثِ الصحيح أن إبليس يضع التاجّ لإبليسٍ مثله فيقول له "
أنت أنت " ويجلسه على العرش؛ لأنَّه فرَّقَ بين الزوج وزوجه.
وحاصلُ ذلك = ضياع الأبناء، فساد البنات، نشرُ الفواحش، قطع الرحم، وغير ذلك مما ينتجُ من فراق أولياءِ الأمور لأولادهم، وقد خاطبَهمُ النبي صلى اللهُ عليه وسلم بقوله (
كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسئول عن رعيَّتِهِ، والرجلُ راعٍ في بيته ... والمرأة ... ).
أقارنُ هذا الحديث، مع أهل العلم، المقرئِ منهم، والفقيهِ، والمحفِّظ للقرآن، والمدرِّسِ التربويِّ إلخ...
فالتلاميذُ رعيُّة لك أيها الراعي، فهل ستموتُ غاشًّا لهم؟
هل ربَّيتَهم على القيلِ والقال؟
هل أنشأتَهم لتجريحِ العلماء؟
هل ترعرعوا عندكَ لتبثَّ لهم لحومًا مسمومة؟
صلاحُك بصلاحِهم، وفسادُك بفسادِهم، وأخلاقُكَ بأخلاقِهم.
رأيتُ صلاح َ المرء يـصلح أهلَـه ** ويعديهم داء الفساء إذا فسدوا .
سأوضِّح أمرًا، أرجو أن يكتب الله به النفع والقبول، مع أنه توضيحُ بضاعةٍ مزجاةٍ، غير ثاقبةٍ- في العلم-مشكاة، لكنها كلمةٌ أرسلُها لمن ابتُلي بالنهشِ من لحومِ العلماء والدعاء، -وهمْ كثُرٌ-، وممن يتقربُ إلى اللهِ بمثلِ هذا.
ونسألهم بالله =
ألأنّك لم تقلْ عن فلانٍ "
قصَّاص " أو "
سروري" مسئول؟
هل تعدّونَه من الأعمالِ الصالحة، وقد رأينا أنّ التجريح ما زادَنا إلا تفرقًا وفطورًا !
وإذا افتـقرتَ إلى الذخائر ِ لم تجِد ** ذخــرا يدوم ُ كصالح الأعمال ِ
واللهِ لو كانَ الكلامُ في العلماءِ والدعاء حقًّا، فما ينبغي أن يكونَ بما نشاهده، وقد سمعتُ أحَدَهم يُسئل عن عالمٍ فرّغَ من عمرِهِ عشرين سنة لطلب العلم، وعُرِف بمنهجه، وصلاحه،
فأجاب المسئول : سمعتُ شيخَنَا يذمُّه، فلا أنصح بالاستماع له!
أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى، إنَّها لقِسمةٌ ضيزى، لم تختلفوا عن الصوفية بشيء، إذْ جعلتمُ الواسطة بينكم وبين الله شيوخكم، وجعلتم الكلام فيهم من أكبر الكبائر، وأخذتم بقاعدة (
من لم يمدح شيخي فقد ذمَّهُ).
جلستُ وإخوة لي، مع أحدِهم في الحرمِ المدني، فلما ذُكر لهُ دعاةٌ لهم في الإرشاد وتوعية النّاسِ أكثرَ من عشر سنين،
قال : هؤلاء متكلم فيهم، ولا أنصح بالاستماع لهم، وقد حذّر منهم شيوخُنُا،
فقلنا له = من قالَ لك هذا ؟
قال : شيخي...
فقلنا له : شيخُكَ متكلمٌ فيه من قبل بعض العلماء
، قال: اتقِ الله، لحوم العلماء مسمومة، وهذا رجلٌ خدم الإسلام والمسلمين.
أقول = مشكلتنا أننا ننظرُ –
في حياتِنَا – لكلّ شخصٍ بعينٍ واحدة، فإذا أعجبنا نظرنا إليه نظرةَ المحبّ الشغِف، إساءَتُه تُعمّى عنَّا، ولا يُبصرُ إلينا إلا خيرُه، وإذا نظرنا إليه =
بعد حين = نظرةَ الساقط الساخط، الناقم الناقد، فحسناتُه تعمّى عنَّا، بل تُرى لنا شرًّا.
وإذا ذُكِر لهم حاكمٌ، ليس له بتحكيم الشرعِ أيُّ صلة، دافعَ عنهُ، وعذرَهُ، وأحسنَ الظنَّ به، فما هذا الدين الذي يأمر بعذر الحكام مع طغوتَتِهم، ولا يأمر بعذر العلماء مع فضلهم؟
ليت شعري! ما يقال لكم إلا =إن يسـمعوا سُبَّةً طاروا بها فرحًا** ** منّـي وما يسمعوا من صالحٍ دفنوا
صمٌّ إذا سـَمعوا خيرا ً ذ ُكِرتُ به ** وإنْ ذ ُكرتُ بسـوء ٍ عـندَهـم أذِنوا .
إنْ يعلموا الخير أخفوه ،وإن علموا ** ** شرّا أذاعوا ، وإن لم يعلموا كذبوا
تشرَّدَ طلبةُ العلم، وأصبحَ لكل منهاجًا في كيفيَّة أكل اللحم، ميتًا كان أو نـ (حـ) ـيَّا !.
والطامَّة = أنهم يَدينونَ الله بما يفعلون، كلا سيعلمون، ثم كلا سيعلمون، ولو طلبتَ منّي أخي أن أذكر لك خريطة هؤلاء، كيف كانوا يوادُّون بعضهم، ويحادُّون أهل البدع، ثم أصبح الودادُ حدادًا لهم، لذكرتُ لك، فلَبِسُوا ما ألبسوهُ غيرَهم من الزور والاتهام، والادعاء الباطل
الزائف التالف!.
ولستُ بحاجةٍ لذكر الأسماء؛ لأنّ هذه عقيدة معروفةٌ عند كل متبصٍّر بأحوال طلبة العلم اليوم، إذْ إنهم يعتبرونَ "
الجرح والتعديل" علمٌ قائمٌ بذاتِه، وهذا عنوان يحتاجُ إلى تعديل، فكيف بمنهجهم؟ فالعدل أن يُسمى "
الجرحُ والتجريح "، لأنّ من يعدَّلُ منهم صباحا، فانتظر مساءَ يومِهِ؛ لتراهُ من المجرَّحين، وإذا أثنوا على إنسانٍ فاعلمْ أنَّهُ على وتيرتهم، وإنْ ذمَّوْهُ، فإما أنْ يكونوا أصابوا الحقّ لبدع اقترفها، أو أنَّه على القاعدةِ المذكورة (
من لم يكن معي فهو ضدِّي) وما أكثره! فأصبح المذموم يقول =
لا تعرضنْ بذكرنا مع ذكرِهم ** ليس الصحيحُ إذا مشى كالمقْعَدِ
وكأنَّ الأصل في المسلم إساءةُ الظنّ لا حسنه!وبــعضُ خلائق القوم داء ٌ ** كداء ِ الشيخ ِ ليس َ له شفاء ُ
يتكلمون صباحَ مساءَ عن منعِ التحزِّب، والتعصّب، وقد وقعوا فيما هو أشرُّ منه وأضل سبيلا، لذا أنصحُ كلَّ مبتلى بهذا المنهج التالف، أن يحبسَ لسانَه عن أعراضِ المسلمين، ولو طلبتُ من أحدِهم ذكر الآيات، والأحاديث، وأقوال السلف، في النهي عن الغيبة، لأتى لي بمصنفات في ذلك، ولكن نأمر بالبرّ، وننسى أنفسَنا، ونتلو القرآن، فلا نعقل!.
أقسم بالله = إنه قد آلمني ما رأيتُ من هذا الجليس الآنفِ ذكرُه، لا يُحسن قراءة القرآن، ولا يعرف الفاعلَ من المفعول، وجلسَ لأهلِ العلم بالمرصاد، وسمع وقرأ لهم حتى يصطاد!.
( ربَّنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلُّونا السبيلا ).
إذا أردتَ أن تجلسَ مجلس العلماء والدعاة،
فعليك بالتقوى ولين الجانبِ، وأن تغضَّ الطرف عن إساءة من ساء، وتحلمَ عند جهل الصاحب، وأنصحُ الأتباع :
(أن لا يكونوا همجًا رعاعاً ، مقلبينَ على كلِّ ناعق، تميلُ بهمُ الريحُ حيثُ شاءت، لا يستضيئوا بنور العلم، ولا يلجئوا إلى ركن رصين متين.
)(1)
أهل الجرح والتجريح، أمضّوا وأرمضوا
(2)طلبة العلم، وحيَّروهم في طريقهم، إذ لا يقبلُ العقلُ صنيعهم، ناهيك عن الحكم الشرعي، فمَن جرِّحوا –إلى الآن- نسمعُ عنهم الخير بوصالهم الوِصال، وتركهِم من صال، وتعليم وتوعية النَّاس، أما أولئك فإنهم يدورون حول أنفسهم، متبعين الهوى، مبتدعين عن الهدى!
وبعض من جُرَّحوا، قد وافتهمُ المنيّة، لكنَّهم أعلام يبقى ذكرُهُم أبدًا، لأن الروائح تمتدُّ بعد الموتِ على قدرِها!
إذَا هَجَعَ النُّوَّامُ أَسْبَلْت عَبْرَتِي** وَأَنْشَدْت بَيْتًا وَهُوَ مِنْ أَلْطَفِ الشَّعْرِ
أَلَيْسَ مِنَ الْخُسْرانِ أَنَّ لَيَالِيًا ** تَمُرُّ بِلََا تَمُرُّ بِلََا عِلْمٍ وَتُحْسَبُ مِنْ عُمْرِي
وقال أحدُهم = واحسرتاهُ، يُقضي العُمْر وانْصَرمتْ ** ساعاتُه بين ذلِّ العجز والكسلِ.
والقومُ قد أخذوا درب النّجاةِ وقد ** ساروا إلى المطلبِ الأعلى بلا مهلِ.
أسألُ اللهَ أن يجمعَ بين قلوب طلبة العلم، وأن يحفظوا ألسنتهم من عوراتِ الناس، فلنا عوراتٌ، وللناسِ ألسنةٌ ، وأسأله تعالى أن يرزقنا معرفةَ مقدارِ قدْر العلماء، وأن لا نتجاسر في الكلام على من خدم الدين السنين الطوال - من أهل السنَّة والجماعة - ، فيكونوا بكلامنا قد ازدادَ تقدّمهم، وكثرت حسناتهم، ونكون قد رجعنا مفلسين، لا نسمنُ ولا نغني من جوع.
كتبهُ أخوكم المحب للعلمِ وأهله =
أبو الهُمَام البرقاوي.
29/10/1432 هـ
ــــــ
ملاحظة : رأيتُ مقالا لأحد الأفاضل، يتكلم فيه عن القوم المعنيِّ بهم، ووافَقَتْ بعض عباراتي ما قاله، ولكني لم أنظر إليه إلا بعد أن أنهيتُ مقالي هذا، فلا يظنن أحدٌ أني نسبتُ لنفسي ما لغيري، والله المعين.
ملاحظة أخرى : لم أنشر المقال إلا بعد الاستخارة، والاستشارة.
ـــــــــ
(1) ما بين المعقوفتين منقول بتصرف يسير .
(2) أي: آلموا وأحرقوا .