تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 21 إلى 32 من 32

الموضوع: أَبَاطِيلُ وأَسْمَارٌ (سلسلة في الدفاع عن شيخ الإسلام ابن تيمية)

  1. #21
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    137

    افتراضي تقـــويم وتنبيـــه: (1)

    بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم:
    أما بعد:
    فقول الأخوين الكريمين في مقالهما ـ في سياق الكلام على الذات العلية ـ: ((المتصفِ بصفةِ النزول العليَّة، إلى سماء الدنيا الدنية)):
    يَرِدُ على قولهما: أن هذه العبارةَ مما لا يجوز إطلاقه على الله تعالى؛ إذ إن صفة النزول الثابتةَ بالدليل، لا ينبغي لمسلم أن يصفها بالنزول إلى دناءة بحال من الأحوال، فإن الدنيا وإن وصفت بالدناءة، بل هذا ظاهرٌ منَ اسمها، إلا أن ذكرها في سياق الارتباط بصفة من الصفات العُليا يمنع وصفها بالدناءة؛ لما يُوهِمه هذا الإطلاق من النقص المحال؛ شاهدُ ذلك أن الله تعالى رب كل شيء وخالقه، ومع ذلك فلا يجوز أن يوصف بأنه رب الكلب ولا رب الخنزير هكذا بالإفراد:
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : ((الحكم إذا كان عامًّا، وفي تخصيص بعضه باللفظ خروج عن القول الجميل، فإنه يمنع من التخصيص؛ فإن الله خالق كل شيء ومريد لكل حادث، ومع هذا يُمنَع الإنسان أن يخص ما يُستقذَر من المخلوقات وما يستقبحه الشرع من الحوادث؛ بأن يقول على الانفراد: يا خالق الكلاب، ويا مريد الزنا،،، ونحو ذلك، بخلاف ما لو قال: يا خالق كل شيء، ويا مَن كل شيء يجري بمشيئته)) انظر: مجموع الفتاوى: 6/504
    وعليه فأقل أحوال هذه العبارة: الغفلة عن الأدب الرفيع الواجب الالتزام في هذا المقام المهيب.
    ولعل سبب الوقوع في هذا المأخذ حرص الأخوين الكريمين على المشاكلة اللفظية، واعتمادهما السجعَ، ومراعاتهما الفواصلَ، حتى جَارَ احتفالهما باللفظ على المعنى؛ فأضعفه أحيانا.
    جزى الله الأخوين الكريمين خيرا، وسدد رَمْيَهما، ونفع بهما.

  2. #22
    تاريخ التسجيل
    Nov 2007
    المشاركات
    5

    Exclamation الدين النصيحة

    أولا أشكر للأخوين الكريمين حسن مقصدهما وهدفهما النبيل وهو الانتصار لشيخ الإسلام.
    لكنهما ضلا الطريق في الوصول إلى هذا الهدف.. ألا وهو استخدامهما سجع الكهان الذي أوقعهما في الكثير من المحاذيرالشرعية ..
    أولها بلا شك الطريقة نفسها .. فقد قال عنها شيخ الاسلام نفسه في مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 3 / ص 93):
    (فَهَذَا مِنْ جِنْسِ سَجْعِ الْكُهَّانِ الَّذِي لَا يُقِيمُ حَقًّا وَلَا يُبْطِلُ بَاطِلًا).

    وقال صاحب كتاب البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها - (ج 1 / ص 841)
    (وقد جاء في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم النَّهْيُ عن سَجْعِ الكُهَّان، إبعاداً عن التشبُّهِ بهم).

    وقال في شرح النووي على مسلم - (ج 10 / ص 143) وعمدة القاري - (ج 11 / ص 288):
    (وإنما نهى عن سجع الكهان ونحوه لما فيه من التكلف).

    القاموس الفقهي - (ج 1 / ص 326): (سجع الكهان: الكلام المزوق المتكلف.)

    وفي مقدمة ابن خلدون - (ج 1 / ص 43):
    ( وأصحاب هذا السجع هم المخصصون باسم الكهان لأنهم أرفع سائر وقد قال صلى الله عليه وسلم في مثله: " هذا من سجع الكهان " . فجعل السجع مختصاً بهم بمقتضى الإضافة).

    فهذه (عادة السجع المتكلف) عادة مذمومة جمعت مذمتين؛ إحداهما ترادف الكلمات بحيث أصبحت المقالة حشوًا يغني عنه كلمة أو كلمات، والأخرى كون السجع مذمومًا .
    ومما يدل على ذم السجع ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (... وفيه وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم) فقال حمل بن النابغة الهذلي: يا رسول الله كيف يغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يطل!؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما هذا من إخوان الكهان...) [متفق عليه].
    وقد أخذ العلماء من هذا الحديث أن السجع مكروه لسببين:
    الأول: إذا عورض به حكم الشرع كما في الحديث.
    الثاني: إذا تكلفه المخاطب في مخاطبته، وأما إذا لم يتكلفه فإنه لا يكره، وعلى هذا يحمل ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث من الأحاديث التي ورد فيها السجع.
    وثبت عن عائشة أنها قالت لكاتب: (إياك والسجع فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا لا يسجعون) [رواه أحمد بإسناد صحيح].
    وثبت في البخاري عن ابن عباس وفيه: (وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه فإني عهدت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون ذلك) قلت: وهذا كله محمول على التكلف في السجع.


    فضلا عن ذلك إقحامكما اللغة ما ليس فيها من كلام العوام الذي أجلكما عنه ، فما معنى كلمة (المفتشر) مثلا؟ ومن أين أتيت بها؟

    وإن قصر البعض النهي على السجع المتكلف فالمقالة كما نرى لا أظن وجود تكلف أكثر من ذلك..

    أشكر لكما مرة ثانية حسن مقصدكما.. لكن في طريقة السلف الصالح ما يغني عن تلك الطريقة المذمومة التى لا تعدو أن تكون مجرد استعراض أنتما في غنى عنه.

  3. #23
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    11

    Arrow رد: أَبَاطِيلُ وأَسْمَارٌ (سلسلة في الدفاع عن شيخ الإسلام ابن تيمية)

    شيخنا الفاضل سلمت يداك وبارك الله فيماكتبت وزادك الله علما وعملا وجمعنا الله وإياك وشيخ الإسلام في الفردوس الأعلى مع نبينا محمد صلى لله عليه وسلم وهدى الله الضالين وردهم إلى الإسلام ردا جميلا
    اللهم فك أسر إخواننافي غزة وفي كل مكان

  4. #24
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    11

    افتراضي رد: أَبَاطِيلُ وأَسْمَارٌ (سلسلة في الدفاع عن شيخ الإسلام ابن تيمية)

    شيخنا الكريم نرجو تعليل على مسألة سجع الكهان بارك لله في علمكم
    اللهم فك أسر إخواننافي غزة وفي كل مكان

  5. #25
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    2,453

    افتراضي رد: أَبَاطِيلُ وأَسْمَارٌ (سلسلة في الدفاع عن شيخ الإسلام ابن تيمية)

    {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12].

  6. #26
    تاريخ التسجيل
    Jul 2008
    المشاركات
    6,048

    افتراضي رد: أَبَاطِيلُ وأَسْمَارٌ (سلسلة في الدفاع عن شيخ الإسلام ابن تيمية)

    جزاكم الله خيرا
    وجعلكم حصنا للإسلام وأهله وعلمائه

  7. #27

    افتراضي رد: الدين النصيحة

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نجم الشام مشاهدة المشاركة
    لكن في طريقة السلف الصالح ما يغني عن تلك الطريقة المذمومة التى لا تعدو أن تكون مجرد استعراض أنتما في غنى عنه.
    صدقتَ أيها النجم الثاقب !

  8. #28
    تاريخ التسجيل
    Jul 2008
    المشاركات
    6,048

    افتراضي رد: الدين النصيحة

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة النوراني مشاهدة المشاركة
    صدقتَ أيها النجم الثاقب !
    أَوْرَدتَها وأنت على عَجَل!
    ما هكذا تُوردُ الإبل!

  9. #29

    افتراضي رد: الدين النصيحة

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبد الله الحمراني مشاهدة المشاركة
    أَوْرَدتَها وأنت على عَجَل!
    ما هكذا تُوردُ الإبل!
    تأنَّ ولا تَعَجْلْ بلومِكَ صاحباً ... لعل له عذراً وأنت تلومُ !
    لكنْ : مثلك يلوم يا أبا محمد فلا يجد مِنْ لائمه إلا الثناء الجميل .


  10. #30
    تاريخ التسجيل
    Apr 2010
    المشاركات
    24

    افتراضي رد: أَبَاطِيلُ وأَسْمَارٌ (سلسلة في الدفاع عن شيخ الإسلام ابن تيمية)

    ذكرني شيخاي الفاضلان - رحم الله أياما غرًّا دنوت فيها منهما، وأنست بعلمهما! - فيما رقماه من طريف اللفظ وشريف المعنى = بهذ الدرة التليدة :
    عبد الحي الكتاني ما هو؟ وما شأنه؟
    الشيخ محمد بشير الإبراهيمي

    في لغة العرب لطائف عميقةُ الأثر ، وإن كانت قريبةً فيالنظر ؛ منها التسمية بالمصدر والوصفُ به ؛ يذهبون بذلك إلى فجٍّ من المبالغة سحيق، تقف فيه الأذهان حسْرَى ، ويُغالَط به الحسُّ فيتخيل ذَوَبَان الموصوفِ وبقاءَالصفة قائمةً بذاتها ؛ كأنَّ الموصوف لكثرة ما ألَحّتْ عليه الصفة وغلبَتْ أصبحَ هوهي أو هو إياها ؛ وعند الخنساء الخبرُ اليقين حين تقول :

    *فإنما هي إقبال وإدبار*


    وعلى هذا يقال في جواب ما هو عبدالحي؟ هو مكيدة مدبرة ، وفتنة مُحَضّرة؛ ولو قال قائل في وصفه :

    شَعْوذَةٌ تخْطِرفي حِجْلينِ* وفتنة تَمشي على رجلََيْنِ


    لأراحالبيان والتحليل ، كما يقول شوقي ؛ ولعفَّى على أصحاب التراجم ، من أعاريبَ وأعاجم، ولأتى بالإعجاز في باب الإيجاز ؛ إذ أتى بترجمة تُحْمَلُ ببرقيَّة ، إلى الأقطارالغربية والشرقية ، فَيَعُمُّ العلم ، وتنشر الإفادة ، وتذيع الشهرة ... ولو أنّالرجل وصف نفسَه وأنْصَفَ الحقيقة في وصفها لما زاد على هذا البيت ؛ ولو شاء "تخريجالدلالات السّمعية"(1) على ذلك لَما أعجزه ولا أعوَزَهُ ؛ ولكن أين من عبد الحيّذلك الإنصاف الذي لم يَخْلُ منه إلا شيخُ الجماعة الذي حادّ الله وقال: (لآمُرَنَّهُم فلَيُغَيِّرُنَّ خلْقَ الله) ، وإذا أنصفنا الرجل قلنا : إنه مجموعةمن العناصر منها العلم ومنها الظلم ، ومنها الحق ومنها الباطل ؛ وأكثرها الشّرّوالفساد في الأرض- أطلق عليها لكثرتها واجتماعها في ظَرْفٍ - هذا الاسم المركب الذيلا يلتقي مع كثير منها في اشتقاق ولا دلالة وضعية ؛ كما تطلق أسماء الأجناسالمرتجلة ، وكما يُطلقُ علماء الكيمياء على مركباتهم أسماءَ لا يلمحون فيها أصلاًمن أصولها ، ومن الأسماء ما يوضع على الفأل والتخيُّل ، فَيَطِيشُ الفال ، وتكذبالمَخيلَة ؛ ومنها ما يوضع على التّوسّع والتّحيّل ، فيضيق المجال ، وتضيع الحيلة ؛وإن اسم صاحبنا لم يصدق فيه إلا جزؤه الأول ؛ فهو عبد لعدّة أشياء جاءت بها الآثاروجرَتْ على ألسنة الناس ، ولكنّ أملكها به الاستعمار ؛ أما جزؤه الثاني فليس هو منأسماء الله الحسنى ، ولا يخطر هذا ببال مؤمن يعرف الرجل ، ويعرف صفات عباد الرحمن ،المذكورة في خواتيم سورة الفرقان ؛ وإنما هو بمعنى القبيلة ، كما يقال كاهن الحيوعرّاف الحي وعيْر الحي ، وقبح الله الاشتراك اللفظي ، فلو عَلِم العرب أنه يأتيبمثل هذا الالتباس لطهروا منه لغتهم ، وتَحَامَوْهُ فيما تَحامَوْا منالمُسْتَهْجنات ؛ ولو أدرك نفاةُ الاشتراك في الاستعمالات الشرعية زمن عبد الحي ،أو أدرك هو زمنهم وعرفوه كما عرفناه لكان من أقوى أدلتهم على نفيه ، ولارتفع الخلاففي المسألة وسجَّل التّاريخ منقبة واحدة لعبد الحي ؛ وهي أن اسمه كان سببا في رفعخلاف ...
    وإذا كانت أعمال الشخص أو آثار الشيء هي التي توضع في ميزان الاعتباروهي التي تناط بها الأحكام فهذا من ذاك ولا عتب علينا ولا ملام.
    وكأن صاحبنا شعرببعض هذا - ومِثْلُهُ من يَشْعر - فموَّه اسمه ببضع كُنى ، ولكنه لم يجرِ فيها علىطريقة العرب في تكنية أنفسهم، بل كَنَى نفسه بأبي الإقبال ، وأبي الإسعاد ،وما أشبهذلك مما هو غالب في كُنَى العبيد ، تفاؤلاً وتروُّحا ؛ وقد رأينا بعض من كتب لعبدالحي ، أو كتب عليه ، يَكنيه بأبي السعادات ، وهو لا يعني سعادات ابن الشجري ، ولاسعادات ابن الجزري ، وإنما يعني سعادات ثلاثا لكل واحدة منهن أثرٌ في تكوينه أوشهرته: جريدة (السعادة) لأنها تُطريه ، وقرية بو(سعادة) لأنها تُؤويه، و نسخةً أوجزءاً من البخاري بخط ابن (سعادة) لأن الخزانة الجليلة تحتويه ؛ والرجل مفتون بهذاالنوع من الكنى لنفسه ولغيره، يُغْرب فيها ويُبدع حتى كنى الشيخ النبهاني بأبيالحجاز.
    هذا وإنّ لصاحبنا أولاداً صالحين يُشَرِّفُهُ أن يكتني بأحدهم ، فلماذالم يفعل ؟ ...

    * * *


    من سنن العرب أنهم يَجعلون الاسم سمةً للطفولة ،والكنيةَ عنوانا على الرجولة ، لذلك كانوا لا يكتَنون إلا بنتاج الأصلاب وثمراتالأرحام من بنين وبنات ، لأنها الامتداد الطبيعي لتاريخ الحياة بهم ، ولايَرْضَوْنَ بهذه الكُنى والألقاب الرخوة إلاَّ لعبيدهم؛ وما راجت هذه الكُنىَوالألقاب المهلهلة بين المسلمين إلا يوم تراخت العُرى الشادة لمجتمعهم ، فراج فيهمالتخنُّثُ في الشمائل، والتأنّث في الطباع ، والارتخاء في العزائم ، والنفاق فيالدين ، ويوم نسي المسلمون أنفسهم فأضاعوا الأعمال التي يتمجد بها الرجال ، وأخذوابالسفاسف التي يتَلَهَّى بها الأطفال ؛ وفاتتهم العظَمَةُ الحقيقية فالتمسوها فيالأسماء والكنى والألقاب؛ ولقد كان العرب صخورا وجنادل يوم كان من أسمائهم صخروجَندلَة ؛ وكانوا غُصَصًا وسموماً يوم كان فيهم مرَّة وحنظلة ؛ وكانوا أشواكاًوأحساكاً يوم كان فيهم قتادة وعوسجة .فانظر ما هم اليوم ؟ وانظر أيّ أثر تتركهالأسماء في المُسَمَّيات؟ واعتبر ذلك في كلمة (سيدي) وأنها ما راجت بيننا وشاعتفينا إلا يوم أضعنا السيادة ، وأفلتتْ من أيدينا القيادة . ولماذا لم تشع فيالمسلمين يوم كانوا سادة الدنيا على الحقيقة ؛ ولو قالها قائل لعُمر لَهاجَتْشِرَّتُه ،ولَبَادَرَتْ بالجوابِ درّته.
    كُنِيَ المعري وهو صغير بأبي العلاء ،ولو تزوج كالناس وولد له لسَمَّى أكبر أولاده العلاء ؛ وهو اسم عربي فخم تعرف منهكتب السير أمثالَ العلاء بن الحضرمي ؛ ولكن المعري لمَّا عقل و أَدْرَكَ سخافةالقصد من كنيته قال هازئا: (كُنيتُ وأنا وليد بالعلاء فكأنَّ علاءً مات ، وبقيتالعلامات) ؛ وأين إسعاد عبد الحي من علاء المعري؟

    * * *


    عرف الناس وعرفنا عرفان اليقين وعلمنا حتى ما نُسائلعالما ، أن هذا الرجلَ ما زال منذ كان الاستعمار في المغرب - لا كانا - آلة صماء فييده ، يديره كما شاء ، يحركه للفتنة فيتحرك ، ويدعوه إلى تفريق الصفوف فيستجيب ،ويندبه إلى التضريب والتخريب فيجده أطوع من بنانه ، ويريد منه أن يكون حُمَّىتُنْهِكُ ، فيكون طاعونا يُهلك ؛ وأن يكون له لسانا ، فيكون لسانا وأذنا وعينا ويداورجلا ومقراضا للقطع ، وفأسا للقلع ، ومعولا للصدع ، وما يشاء الاستعمار إخماد حركة، إلا كانت على يديه البركة ، وما يشاء التشغيبَ على العاملين للصلاح ، والمطالبينبالإصلاح ، إلا رماهم منه بالداهية النَّكراء والصّيْلم الصّلعاء؛ وما يُعْجزُهُالاضطلاع بعبْء ، أو الاطلاع على خَبْء ، إلا وجد فيه البغية و الضالة ؛ وما يشاءالتشكيك في رَأي جميع ، أو التشتيت لشمل مجموع ، إلا وجد فيه المشكك المُحكَّك ،والخادم الهادم ؛ وقد تهيأت فيه أدوات الفتنة كلها حتى كأنه أُعِدَّ لذلك إعداداخاصّا. وكأنه (مصنوع بالتّوصية) ، وكأنما هو رزق مهيَّأ مهنأ للاستعمار ؛ ومازالالاستعمار مرزوقا بهذا النوع ؛ فالرجل شريف أولا ، وعريق في الشهرة ثانيا ، وطرقيٌّثالثا ، وعالمٌ رابعاً ؛ وكل واحدة من هذه فتنة ٌلصاحبها بنفسه وللناس به، فكيفبهنَّ إذا اجتمعن ؟ وكيف بهنَّ إذا كان اجتماعهنَّ في غير موَفَّق ؟ والرجل بارعيستخدم كل واحدة من هذه في ميدانها الخاص ، ويستخدمها جميعا في الميدان العام ؛يستخدم العلم في الشهرة ، والطرقية في الفتنة ، فإذا حزَبَ الأمر اتخَذَ من أحدهماطليعة ، ومن الآخر جيشاً ، ومن الشهرة أو الشرف رِدْاء ؛ ولكنَّ أغلبَ النَّزَعاتعليه ، النَّزعة الطرقيَّةُ لأنها أكثرُ فائدة، وأجدى عائدةً ؛ وأقرب سبيل ، في بابالتضليل ، ناهيك بدعوى لا يحتاج صاحبها إلى إقامة دليل.
    كان بلاءُ هذا الرجلمحصوراً في محيط ، ومقصورا على قطر ، وكان إخواننا في المغرب يعالجون منه الداءالعضال : وكنّا نعدُّ أنفسنا آثمين في السُّكوت عنه ، وفي القعود عن نصرة إخواننافي دفع هذا البلاء الأزرق ؛ فلمّا تَنَبَّهَت عقولهم لكيده ، وتفَتَّحَتْ عيونهملمكره ، وتَهاوتْ عليه كواكب الرَّجْمِ من كل جانب ، فَبَطَلَ سِحْرُهُ ، وقَصُرَتْرُقَاهُ عن الاستِنْزال ، وضلَّ سَعْيُهُ ، وقَلَّ رَعْيُهُ - انقلب استعماراًمحضاً قائماً بذاته ، وهاج حقده على الأحرار والسلفيين فترصَّدَ أذاهم في الأنفسوالأموال والمصالح ، وأصبح كالعقرب ، لا تلدغ إلا من يتحرَّك ...
    ولكن السوأةالتي لا تُوارى ، والزلة التي تضيق عنها المغفرة ، والعظيمة التي يستحيي الشيطان أنيوسوس بها ، والشنعاء التي لا يقدم عليها إلا من بلغ رتبة الاجتهاد المطلق في علمالشر – هي اجتراؤه في فورة الاستعمار الأخيرة على أعلى رمز تتمثل فيه أماني الوطن ،وأمنع كنف يلوذ به السلفيون الأبرار ، والوطنيون الأحرار.
    إن الخطايا قد تحيطبصاحبها فيقتل نفسه مثلا ، ولكن ما صدّقنا أن الحال ينتهي به إلى قتل أمَّة إلاّهذه المرّة ؛ وإن الزلل ليرسخ إلى أن يصير خُلُقاً وعادة ، ولكن ما عهدنا أنه يفضيبصاحبه إلى هذه الدركة التي لا تُبْلَغُ إلا بخذلان من الله ، وما كنّا نتصوّرُأنَّ شرَّ شرّير يتَّضعُ قدره إلى هذا الحد ، أو يتسع صدره لحمل هذا الوسام ؛وسبحان من يزيد في الخلق ما يشاء.
    وكأنَّ الرَّجُلَ أخذ فيما أخذ عن الاستعمارطريقة التوسع ، وكأنَّه أصغَرَ المغربَ - على سَعَته - أن يكون مجالا لألاعيبهومكايده، فجاوز في هذه المرة الحدود ، وتخطّى الأخدود ، واندفع إلى الجزائر و تونسليبث فيهما سمومه ، ويتخذ منهما ملعبا جديدا لرواياته التي منها مؤتمر الزوايابالجزائر ، وليقوم للحكومة بما عجزت عنه من استئلاف النافر ، واستِنْزال العاقّ ،وليوحِّد بين الأقطار الثلاثة ولكن بالتفريق ، وليُنقِذَها من البحر ولكنبالتغريق.
    كان عبدُ الحيّ فيما مضى يزور هذا الوطن داعيا لنفسه أو مدعوّاً منأصدقائه ، وهم طائفة مخصوصة ، فَكُنَّا نولِّيهِ ما تولَّى . ولا نأبه به ؛ وكانتتبلغنا عنه هنَات كاختصاصه بالجهال وهو عالم ، وانتصاره للطرقية وهو محدّث ؛ إلىهنات كلها تمس شرف العلم وكرامة العالم ، فكنا نُحَمّلُهُ ما تحمَّلَ ولا نبالي به؛ وكان يزور لماما ، ويقيم أياما ، ولكنه - في هذه المرة - جاء ليتمّم خُطَّة، ودخلالباب ولم يقل حِطَّة ؛ وصاغ في الجزائر حلقات من تلك السّلسلة التي بدأ صنعَها فيالمغرب ؛ ودلَّتْنا على ذلك شواهد الأفعال والأقوال والملابسات والظروف ؛ ثم زارتونس ليؤلّف فيها (تكميل التقييد) (2) ، وكأنه يتحدى بهذه الرّحلة الطويلة رحلةَأبي الحسن المريني (3). وشتان بين الرحلتين . تلك كانت لتوسيع الممالك ؛ وهذه كانتلتوزيع المهالك ؛ ويا ويحَ الجزائر المسكينة ، كأن لم تكفها الفتن المتماحلة حتىتُزاد عليها فتنة اسمها (مؤتمر الزوايا) ، ولم تَكْفِها النَّكَبَاتُ المتوالية حتىتضاف إليها نكبة اسمها "عبد الحي".
    إن في رحلة عبد الحي هذه لآيات ؛ منها أنالحكومة أحستْ بإعراض من رجال الزّوايا ، وانصراف عما تريده منهم بطرقها القديمة ،فأرادت أن تؤيِّدَ قُوَّةَ القهر بقوّة السحر؛ فكان عبد الحي الساحر العليم ؛ وآيةذلك أنه زار كلَّ واحد من مشايخ الطرق في داره ، وأقام عنده الليالي والأيام ،ونعتقد أنه تعب في إقناع الجماعة ولمِّ شملهم ؛ وقد سمعنا من عقلائهم عباراتِالتَّشائم بِمَقْدَمه في هذه الظروف ، والتَّبَرُّم بتكاليفه في هذه السنواتالعِجاف ؛ وإن ضيافة هذا الرَّجل وحدها لأزمة مالية مستقلَّة ؛ ولو كان للجماعة شيءمن الشّجاعة لَوَلّوه الظَّهْرَ ، وصارحوه بالنهر ؛ ولكنَّ الشّجاعة حظوظ ،والصّراحة أرزاق.

    * * *


    ويُقال في جواب ما شأنه ؟ إنه الشأن كله ؛ ونُقْسمُبالله الذي خلق الحيَّ وعبد الحي ، أنه لولاه لَما خطر مؤتمر الزَّوايا على بالواحد منهم ، حاش حواريَّ عبد الحي بتلمسان ، وهو رجل ليس فيه من صفات الحواريين إلاالصَّيد ، وليس هو من الزوايا في قبيل ولا دبير ، ونحن أعرف بالجماعة من عبد الحي ،وقد انصرفوا في السنوات الأخيرة إلى أعمالهم الخاصة وساروا في هوى الأمَّة ،وشاركوا في مشاريعها العامة بقدر الاستطاعة ؛ ولو سَمِعوا نصائحنا لَتَوَلَّواقيادتها من جديد ولكن بالعلم وإلى العلم ؛ وعلى ماهم عليه فإن القسوة لم تبلغ بهمإلى معاكسة شعور الأمة ، حتّى يُعرِسوا في مأتَمِها ، لولا هذا المخلوق.
    ثم نسألعبد الحي : لماذا لم يفعل في المغرب ما فعله في الجزائر فيجمع الزَّوايا علىالدَّعوة إلى التعليم ؟ إنه لم يفعل لأنه لا يرى زاويةً قائمة إلا زاويته ، وكل ماعداها فمنفرجة أو حادَّة كما يقول علماء الهندسة ؛ ونسأل رجال الزّوايا : لماذا لميجتمعوا لمؤتمرهم قبل مجيء عبد الحي؟ و هل هم في حاجة إلى التّذكير بلزوم العلموالتعليم حتى يأتيهم عبد الحي بشيء جديد في الموضوع ؟
    يا قوم ، إن الأمر لمدبَّر؛ إن الأمر لمدبر علمه مَن علمه منكم وجهِله مَن جهله ؛ و ما نحن بمتزيدين ولامتخرصين.
    و لو أن عبد الحي كان غير من كان ، ونزل باسم العلم ضيفا على الأمةالجزائرية غيرَ متحيز إلى فئة ، وغير مسيّر بيد ، وغير متأبط لشر - للقي منها كلإكبار وتبجيل ، ولو أضافته على الأسوديْن التمر والماء ؛ وإن ذلك لأعظم إعلاءًلقدره ، وإغلاءً لقيمته.

    * * *


    ولقد كان من مقتضى كون الرجل مُحدِّثاً أن يكونَسَلَفِيَّ العقيدة وقَّافا عند حدود الكتاب والسنَّة ، يرى ما سواهما من وسواسالشيطان ؛ وأن يكون مستقلا في الاستدلال لِما يؤخذ وما يترك من مسائل الدين ؛ و قدتعالتْ هِمَمُ المحدِّثين عن تقليد الأئمة المجتهدين ، فكيف بالمبتدعة الدجَّالين ؛وعُرِفوا بالوقوف عند الآثار والعمل بها ، لا يَعْدونها إلى قول غير المعصوم إلا فيالاجتهادات المحضة التي لا نصّ فيها ؛ ولكن المعروف عن هذا المحدّث أنه قضى عمره فينصر الطرقية وضلالات الطرقيين و مُحْدَثاتهم بالقول والفعل والسّكوت ؛ وأنه خصملدود للسّلَفيين ، و حربٌ على السلفية ؛ وهل يرجى ممن نشأ في أحضان الطرقية ، وفتحعينيه على ما فيها من مال وجاه وشهوات ميسّرة ومخايل من الملك - أن يكون سلَفيًّاولو سلسل الدنيا كلها بمسلسلاته ؟
    إن السلفية نشأة وارتياض ودراسة ؛ فالنشأة أنينشأ في بيئة أو بيت كل ما فيها يجري على السُّنة عملا لا قولا ؛ والدّراسة أن يدرسمن القرآن والحديث الأصول الاعتقادية ، ومن السيرة النبوية الجوانب الأخلاقيةوالنفسية ؛ ثم يروض نفسه بعد ذلك على الهَدْي المعتصر من تلك السيرة وممن جرى علىصراطها من السَّلف ؛ وعبدُ الحي مُحَدِّثٌ بمعنى آخر ، فهو (رواية) بكل ما لهذهالكلمة من معنى . تتصل أسانيده بالجن والحن و رَتَن الهندي (4) ، وبكل من هب ودب ،وفيه من صفات المحدثين أنه جاب الآفاق ، ولقي الرجال ، واستوعب ما عندهم منالإجازات بالروايات ، ثمّ غلبت عليه نزعة التجديد فأتى من صفات المحدَثين (بالتخفيف) بكل عجيبة ، فهو مُحَدِّثٌ مُحْدِثٌ في آن واحد ؛ وهمُّه وهمُّ أمثالهمن مجانين الرواية حفظ الأسانيد ، وتحصيل الإجازات ، ومُكاتبة علماء الهند والسندللاستجازة ، وأن يرحلَ أحدهم فَيَلْقَى رجلا من أهل الرواية في مثل فَواق الحالب ،فيقول له : أجَزْتُك بكل مروياتي ومؤلفاتي إلى آخر(الكليشي) (5) ؛ فإذا عجز عنالرحلة كتبَ مُسْتَجيزا فيأتيه عِلم الحديث بل علوم الدنيا كلها في بطاقة ...أهذاهو العلم ؟ لا والله ، وإنما هو شيء اسمه جنون الرواية .
    وقد أصاب كاتبَ هذهالسطور مسٌّ من هذا الجنون في أيام الحداثة ، ولم أتبيَّن منشأه في نفسي إلا بعد أنعافاني الله منه وتاب عليّ ؛ ومنشؤه هو الإدلال بقوة الحافظة ، وكان من آثار ذلكالمرض أنني فُتنت بحفظ أنساب العرب ، فكان لا يُرضيني عن نفسي إلا أن أحفظ أنسابمضر وربيعة بجماهرها ومجامعها ، وأن أنسُب جماهيرَ حِمير وأخواتها ، وأن أعرف كل ماأثر عن دغفل في أنساب قريش ، وما اختلف فيه الواقدي و محمد بن السائب الكلبي ؛ ثمّفُتِنْتُ بحفظ الأسانيد ، و كدتُّ ألتقي عبد الحي في مستشفى هذا الصنف من المجانينبالرواية ، لولا أن الله سَلَّمَ ، ولولا أن الفطرة ألهمتني: أن العلم ما فُهِمَ وهُضَمَ ، لا ما رُوِيَ وطُوِي.

  11. #31
    تاريخ التسجيل
    Apr 2010
    المشاركات
    24

    افتراضي رد: أَبَاطِيلُ وأَسْمَارٌ (سلسلة في الدفاع عن شيخ الإسلام ابن تيمية)

    زُرْتُ يوما الشيخ أحمد البرزنجي - رحمه الله - في داره بالمدينة المنورة وهو ضرير ، وقد نُمي إليه شيء من حفظي و لزومي لدور الكتب، فقال لي بعد خوض في الحديث : أجزتُك بكل مروياتي من مقروء ومسموع بشرطه...إلخ. فألقى في روعي ما جرى على لساني وقلت له : إنك لم تعطني علما بهذه الجُمَلِ ، وأحْرأن لا يكون لي ولا لك أجر ، لأنك لم تتعب في التلقين وأنا لم أتعب في التلقِّي ؛فتبسم ضاحكا من قولي ولم ينكر ، وكان ذلك بدأ شفائي من هذا المرض ، وإن بقيت فيالنفس منه عقابيل ، تَهيج كلَّما طاف بي طائف العُجب والتعاظم الفارغ إلى أنتناسيته متعمدا ؛ ثم كان الفضل لمصائب الزمان من نسيان البقية الباقية منه ؛ وإذاأسفت على شيء من ذلك الآن فعلى تناسيّ لأيام العرب ، لأنها تاريخ ، وعلى نسيانيأشعار العرب ، لأنها أدب .
    وحضرت بعد ذلك طائفة من دروس هذا الشيخ في صحيحالبخاري على قلَّتها وتقطعها ؛ وأشهَد أني كنت أسمع منه علما وتحقيقا ؛ فقلت لهيوما : الآن أعطيتني أشياء وأحْرِ بنا أن نوجَرَ معا، أنت وأنا ؛ فتبسَّم مبتهجاوقال لي : يا بني هذه الدراية ، وتلك الرواية . فقلت له : إنَّ بين الدراية والعلمنسباً قريباًََ في الدلالة ، تُرادفه أو تقف دونه ؛ فما نسبة الرواية إلى العلم ؟وقطع الحديث صوت المؤذن ، وقال لي بعد الصلاة : حدثني بحديثك عن نسبة الرواية إلىالعلم ، فقلت له ما معناه : إن ثمرة الرواية كانت في تصحيح الأصول وضبط المتونوتصحيح الأسماء ، فلما ضُبطت الأصول وأُمن التصحيف في الأسماء خفّ وزن الرّوايةوسقطت قيمتها ، وقلت له : إن قيمة الحفظ - بعد ذلك الضبط - نزلت إلى قريب من قيمةالرواية ، وقد كانت صنعة الحافظ شاقة يوم كان الاختلاف في المتون فكيف بها بعد أنتشعب الخلاف في ألفاظ البخاري في السند الواحد بين أبي ذر الهروي ، والأصيلي ،وكريمة ، والمستملي ، والكشميني ، وتلك الطائفة ، وهل قال حدثني أو حدثنا أو كتابأو باب ؛ إن هذا التطويل ما فيه طائل . ولا أراه علما بل هو عائق عن العلم ؛ وقلتله : إن عمل الحافظ اليونيني على جلالة قدره في الجمع بين هذه الروايات ضرب في حديدبارد ، لا أستثني منه إلا عملَ ابن مالك ؛ وإن ترجيح ابن مالك لإعراب لفظة لأدلّعلى الصحة في اللفظ النبوي من تصحيح الرواية ، وقد يكون الراوي أعجميا لا يقيمللإعراب وزنا ؛ فلماذا لا نعتمد إلى تقوية الملكة العربية في نفوسنا ، وتقويمالمنطق العربي في ألسنتنا ، ثم نجعل من ذلك موازين لتصحيح الرواية ، على أن التوسعفي الرواية أفضى بنا إلى الزهد في الدراية ، وقلت له : إنك لو وقفت على حلقالمحدّثين بهذا الحرم ، محمد بن جعفر الكتاني ومحمد الخضر الشنقيطي وغيرهما لسمعترواية وسردا ، لا دراية ودرسا ، وإن أحدهم ليقرأ العشرين والثلاثين ورقة من الكتابفي الدولة الواحدة فأين العلم ؟ وقلت له : إن من قبلنا تنبهوا إلى أن دولة الروايةدالت بضبط الأصول وشهرتها فاقتصروا على الأوائل ، يعنون الأحاديث الأولى من الأمهاتوصاروا يكتفون بسماعها أو قراءتها في الإجازات ؛ وما اكتفاء القدماء بالمناولةوالوجادة إلا من هذا الباب .
    قلت له هذا وأكثرَ من هذا وكانت معارفُ وجهه تدلعلى الموافقة ولكنه لم ينطق بشيء ؛ وأنا أعلم أن سبب سكوته هو مخالفة ما سمع لماألفَ - رحمه الله.
    ولقيت يوما الشيخ يوسف النبهاني - رحمه الله - بباب من أبوابالحرم فسلّمت عليه فقال لي : سَمعت آنفا درسَك في الشمائل، وأعجبني إنحازك باللومعلى مؤلفي السِّير في اعتنائهم بالشمائل النبوية البدنية ، وتقصيرهم في الفضائلالروحية ، وقد أجزتك بكل مؤلفاتي ومروياتي وكل مالي من مقروء ومسموع من كل ما تضمنهثبتي ...إلخ. فقلت له : أنا شاب هاجرت لأستزيد علما وأستفيد من أمثالكم ما يكملنيمنه ، وما أرى عملكم هذا إلا تزهيدا لنا في العلم ؛ وماذا يفيدني أن أروي مؤلفاتكوأنا لم أستفد منك مسألة من العلم ؟ ولماذا لم تنصب نفسَك لإفادة الطلاب ؟ فسَكتَ ،ولم يكن له - رحمه الله - درس في الحرم ، وإنما سمعت من خادم له جَبَرْتي أنه يتلقىعنه في حجرته درسا في فقه الشافعية.
    وكان بعد ذلك يُؤثر محلي على ما بيننا منتفاوت كبير في السن ، وتباين عظيم في الفكرة . رحم الله جميع من ذكرنا وألحقنا بهملا فاتنين ولا مفتونين .
    أما أولئك السلف الأبرار فعنايتهم بالرواية والرجالراجعة كلها إلى الجرح والتعديل الذين هما أساس الاطمئنان إلى الرواية ، وقد تعبوافي ذلك واسترحنا ؛ وما قولكم - دام فضلكم - لو فرضنا أن محدث القرن الرابع عشرومسندَه عبد الحي عُرضَ بعُجَره وبُجَره على أحمد بن حنبل ، أو على يحي بن معين ،أو عليّ بن المديني ، أو على من بعدهم من نقَّاد الرجال الذين كانوا يجرحون بلحظة ،ويسقطون العدالة بغمزة في العقيدة ، أو نَبْزَة في سيرة ، أو بغير ذلك مما يُعَدُّفي جنب عبد الحيّ حسنات وقُرُبات -فماذا نراهم يقولون فيه ؟وبماذا يحكمون عليه ؟خصوصا إذا عاملوه بقاعدة (الجرح لا يُقبَل إلا مفسَّرا).

    * * *


    وبعدُ (فقد أطال ثنائي طول لابسه) (6) فليعذرنا عبد الحي؛ ووالله ما بيننا وبينه تِرَةٌ ولا حسيفة ؛ ووالله ما في أنفسنا عليه حقد ولاضغينة ؛ ووالله لوددنا لو كان غيرَ من كان ، فكان لقومه لا عليهم ، وإذاً لأفاد هذاالشمال بالكنوز النبوية التي يحفظ متونها، ونفع هذا الجيل الباحث الناهض المتطلعبخزانته العامرة ، وكان رُوّاد داره تلامذةً يتخرجون ، لا سُيَّاحاً يتفرَّجون ؛وعلماء يتباحثون ، لا عوامَّ يتعابثون ، ولكنه خرج عن طوره في نصر الضلال فخرجنا عنعادتنا من الصبر والأناة في نصر الحق ؛ وجاء يُؤَلِّبُ طائفة من الأمة على مصالحالأمة ، فهاج الأمة كلها ، وهاج معها هذا القلم الذي يمج السمام المُنقَع ، فنفثهذه الجُمل ، وفي كل جملة حَملة ، وفي كل فقرة نقرة ؛ فإن عاد بالتوبة ، عدنابالصفح ؛ وإن زاد في الحَوْبَة ، عدنا على هذا المتن بالشرح ؛ ولعل هذا الأسبوع هوأبرك الأسابيع على الشيخ ، فقد أملينا فيه مجالس في مناقبه جاءت في كُتَيّب ،سميناه - بعد الوضع- "نشر الطيّ ، من أعمال عبد الحي" فإن تاب َوأَدْناهُ ، ووفيناهبما وعدناه ، وإلا عممناه بالرواية ، وأذنّا لعبد الحي في روايته عنا للتبرك واتصالالسند ؛ وهو أعلم الناس بجواز رواية الأكابر عن الأصاغر.
    ـــــــ
    المصدر: آثار الإمام محمد بشير الإبراهيمي. وقد نشر في جريدةالبصائر سنة 1948.
    1- كتاب في أصول الوظائف الشرعية للخزاعي ، اختلس الكتانينسخة خطية منه من مكتبة عمومية بتونس ، ولما ألحوا عليه في إرجاعها وهددوه بتدخلالحكومة ، سلخ الكتاب ونسخه في كتاب نسبه إلى نفسه وسماه التراتيب الإدارية.
    2- اسم كتاب في الفقه لابن غازي جاء اسمه مطابقا لسعة أعمال عبد الحي ، ونحن نريدالمعنى الوفي للكلمتين ، فقد جاء الرجل ليكمل تقييد الجزائر وتونس بما ينقصهما منقيود مَكْره .
    3- أنبه ملك في الدولة المرينية ، بلغت فتوحاته إلى حدود ليبيا ،وانتظم المغارب الثلاثة ، وفي غزاته لتونس بنفسه كان المؤرخ ابن خلدون قد ختم بهاحياته العلمية وكان بدء اتصاله بالملوك والدول.
    4- شيخ دجال ظهر على رأس المائةالسادسة للهجرة وادعى أنه صحابي وأنه يروي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – مباشرة، وأنه حضر زفاف فاطمة الزهراء ، وقد روى عنه جماعة من المحدثين المصغين له ، وأنكرأمره ودعواه جمهور أعلام المحدثين كالحافظ الذهبي ، والحافظ ابن حجر ، وأثبت الذهبيأنه دجال كذاب .
    5- كلمة فرنسية معناها الشريط .
    6- شطر من بيت للمتنبي تمامه : إن الثناء على التنبال تنبال .

  12. #32
    تاريخ التسجيل
    Apr 2010
    المشاركات
    24

    افتراضي رد: أَبَاطِيلُ وأَسْمَارٌ (سلسلة في الدفاع عن شيخ الإسلام ابن تيمية)

    فيا ليت شيخيَّ يكمَّلان ما بدءا، ويتممان ما أسَّسا!

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •