طرائق كشف العلة
الشيخ الدكتور ماهر الفحل ــ حفظه الله ــ
لم تأتِ طرائق معرفة العلة مزاجية أو اعتباطية ، بل جاءت تبعاً لما جاشت به صدور النقاد ، وكانت طرق معرفة العلة والكشف عنها مبنية على معرفة أسباب وقوع العلة وتصور تلك الأسباب ، فتنوعت هذه الطرائق واختلفت ، وهذا التنوع والاختلاف لم يخرج عن مساره الحقيقي وهو بيان علل الأحاديث ، والطرائق التي ترشد إلى كشف العلة هي :
1ــــ جمع طرق الحديث شريطة الفهم والمعرفة ؛ ليتبين اختلاف الرواة ومقدار التوافق ، وهذه الطريقة قد نصّ عليها أهل العلم ، قال الخطيب : (( والسبيل إلى معرفة علة حديث أنْ يجمع بين طرقه ... ))(1)، ونقل عن علي بن المديني أنَّه قال : (( الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه ))(2)، ونقل عن
يحيى بن معين أنَّه قال : (( لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجهاً ما عقلناه ))(3) ، كما نقل عن عبد الله بن المبارك قوله : (( إذا أردت أنْ يصح لك الحديث فاضرب بعضه ببعض ))(4) ، وقال الإمام أحمد : (( الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه ، والحديث يفسر بعضه بعضاً ))(5) ، وإن كان كلام أحمد ليس خاصاً بالعلل ، وقال مسلم : (( فبجمع هذه الروايات ومقابلة بعضها ببعض ، تتميز صحيحها من سقيمها ، وتتبين رواة ضعاف الأخبار من أضدادهم ))(6) . قال العراقي : (( وتدرك العلة بتفرد الراوي ، وبمخالفة غيره له ، مع قرائن تنضم إلى ذلك يهتدي الجهبذ ، أي : الناقدُ بذلك إلى اطلاعه على إرسال في الموصول ، أو وقفٍ في المرفوع ، أو دخول حديث في حديث أو وهم واهم بغير ذلك ، بحيث غلب على ظنه ذلك فأمضاه وحكم به ... ))(7) . وقال ابنه أبو زرعة : (( والحديث إذا جمعت طرقه تبين المراد منه ، وليس لنا أن نتمسك برواية ونترك بقية الروايات ))(8) . وأقوال جهابذة النقاد في هذا الباب كثيرة مبثوثة في كتب العلل .
2ـــ الموازنة بين هذه الطرق بعد جمعها ؛ فإن اتفقت الطرق سلم الحديث من العلة ، نقل ذلك ابن حجر إذ قال : (( فالسبيل إلى معرفة سلامة الحديث من العلة كما نقله المصنف – يعني : ابن الصلاح – عن الخطيب أنْ يجمع طرقه ، فإن اتفقت رواته واستووا ظهرت سلامته ))(9) . أو النظر فيه من حيث الزيادة والنقصان ، والرفع والوقف ، والوصل والإرسال وغير ذلك ، يقول ابن حجر : (( .. وإن اختلفوا أمكن ظهور العلة ، فمدار التعليل في الحقيقة على بيان الاختلاف ))(10) . وهنا أمران تنبغي الإشارة إليهما :
الأول : صحة الإسناد إلى الراوي المختلف عليه ، وأود أنْ أنبه طلبة العلم على التأكد من سلامة الأسانيد من التحريف والتصحيف والسقط ؛ وذلك أني وقفت من خلال عملي في هذا الكتاب على جملة من الرواة الذين لم أقف لهم على ترجمة، ثم تبيّن لي أنَّه قد أصابهم تصحيف أو تحريف أو سَقَطَ بعضُ الاسم، وأُلصق بعضه الآخر باسم يليه ، والناظر في حواشي كتابي هذا سيجد من ذلك شيئاً كثيراً ، وهذه الأوهام ما كانت لتكون لو وُسِدَ التحقيق إلى أهله .
الثاني : إذا كان الاختلاف بين ثقة وضعيف ، فلا عبرة برواية الضعيف ، وفي ذلك يقول الذهبي : (( فإن كانت العلة غير مؤثرة بأنْ يرويه الثبت على وجه ويخالفه واهٍ فليس بمعلول ، وقد ساق الدارقطني كثيراً من هذا النمط في كتاب العلل ، فلم يُصِب ؛ لأنَّ الحكم للثبت ))(11) .
3ــــ معرفة مراتب الرواة ، مما يعين على معرفة العلل معرفة مراتب الرواة، والترجيح بينهم والجمع بين رواياتهم على أسس علمية وقواعد منهجية ، فقد حضّ جهابذة النقاد على ذلك ، قال ابن رجب : (( معرفة مراتب الثقات وترجيح بعضهم على بعض عند الاختلاف ... ))(12) ، ونفى العلائي أنْ يكون الناقد مُعِلاّ ًحتى يكون مدركاً لمراتب الرواة بقوله : (( ولا يقوم به إلا من منحه الله فهماً ... وإدراكاً لمراتب الرواة ... ))(13) ، وأعاد ابن حجر القول إذ قال : (( ولا يقوم به إلا من رزقه الله تعالى .. إدراكاً لمراتب الرواة ومعرفة تامة .. ))(14) . ولوّح مصطفى باحو إلى قيمة هذا الجانب ، إذ قال : (( وأهمية معرفة طبقات الرواة تتجلى عند التعارض ، فينظر في أصحاب الراوي والآخذين عنه ، ودرجاتهم في الحفظ ، والمقدم منهم عند الاختلاف والاضطراب ، والمشتهر منهم بكثرة ملازمة شيخه ومعرفته لحديثه وتثبته فيه ؛ ولهذا تكلم الحفاظ في كتب الرجال كثيراً حول تمييز الآخذين عن الراوي ، وأيهم يقدّم عند الاختلاف .. ))(15) . وفي هذا الجانب أمران :
الأول : الترجيح بين الرواة : إنَّ علم العلل يبحث في أخطاء الرواة وبخاصة الثقات ، ثم إنَّ الترجيح بينهم يكون بالمتابعات ، ومعرفة الراوي بحديث شيخه ، ومدى قوة رواية التلميذ عن شيخه ، فكم من راوٍ ثقة وتكلم النقاد في روايته، أو إذا كانت روايته عن غير أهل بلده ، أو في روايته عن بعض الشيوخ؛ لذا كانت معرفة الرواة وكمائن الضعف والقوة من أساسيات علم العلل ، وفي ذلك قال ابن رجب : (( اعلم أنَّ معرفة صحة الحديث وسقمه تحصل من وجهين : أحدهما : معرفة رجاله وثقتهم وضعفهم ، ومعرفة هذا هيّن ؛ لأنَّ الثقات والضعفاء قد دُوِّنوا في كثير من التصانيف ، وقد اشتهرت بشرح أحوالهم التواليف . والوجه الثاني : معرفة مراتب الثقات ، وترجيح بعضهم على بعض عند الاختلاف ، .. وهذا هو الذي يحصل من معرفته وإتقانه وكثرة ممارسته الوقوف على دقائق علل الحديث ... ))(16) . ولأهمية هذه النقطة أطنب ابن رجب بذكر الأمثلة التي ساقها للبيان .
الثاني : الجمع بين الروايات المختلفة : وهذا إذا أمكن الجمع ، والناظر في كتابي هذا سيجد خيـر مثال على هذا حديث ذي اليدين - من رواية الزهري – فقد رواه الزهري عن راويين ثم عن ثلاثة حتى وصل في إحدى الروايات إلى خمسة رواة ، وقد كنت أظن أنَّ الزهري اضطرب في ضبط اسم شيخه ، حتى تبين لي غير ذلك ، ثم إنَّه اضطرب في غير هذا الموضع وقد بينته بما يثلج صدور المنصفين ، أما في حال انعدمت إمكانية الترجيح فيكون الحديث مضطرباً .
4ــــ التأمّل في كيفية تحمّل الراوي للحديث من شيخه ، أهو سماع أم عرض أم إجازة أم غير ذلك، ومن صيغ الأداء ما تثبت سماع الراوي من شيخه ، كحدثنا وأخبرنا(17) وسمعت وقال لنا .. وهذه الصيغ صريحة بوقوع اللقاء ، وحصول المشافهة بين الشيخ وتلميذه ، إلا أنَّ جمعاً من أهل العلم تكلم في رواية بعض الرواة عن بعض الشيوخ بسبب أخذهم عنهم بطرق التحمل المختلف في صحة الرواية بها كالإجازة والمناولة والوجادة من غير عرض على الشيخ ومن غير مقابلة بأصله والتوسع فيها ، كذلك فإنَّ بعض الرواة أخذ عن شيخه سماعاً ومناولة ، أو سماعاً ووجادة ، فلم يتميز ما أخذه سماعاً عن غيره ، فتكلم الأئمة في روايته عن ذلك الشيخ لهذا الأمر ، فمن ذلك ما ذكره ابن رجب عن الإمام أحمد أنَّه قال : (( موسى بن عقبة ما أُراه سمع من ابن شهاب ، إنما هو كتاب نظر فيه ))(18) ، كما نقل عن يحيى بن معين أنَّه قال : (( الأوزاعي في الزهري ليس بذاك ، أخذ كتاب الزهري من الزبيدي ))(19) ، ونقل المزي عن عمرو بن علي أنَّه قال : (( سمعت معاذ بن معاذ – وذكر صالح بن أبي الأخضر – فقال : سمعته يقول : سمعتُ الزهري وقرأتُ عليه ، فلا أدري هذا من هذا ! فقال يحيى – وهو إلى جنبه - : لو كان هذا هكذا كان جيداً ، سمع وعرض ، ولكنَّه سمع وعرض ووجد شيئاً مكتوباً ، فقال : لا أدري هذا من هذا ))(20) ، ونقل ابن أبي حاتم عن أبي زرعة أنَّه قال فيه : (( ضعيف الحديث ، كان عنده عن الزهري كتابين :
أحدهما : عرض والآخر : مناولة ، فاختلطا جميعاً ، فلا يعرف هذا من هذا ))(21) ، وقال الذهبي : (( وكان ابن جريج يروي الرواية بالإجازة وبالمناولة ويتوسع في ذلك ، ومن ثم دخل عليه الداخل في روايته عن الزهري ؛ لأنَّه حمل عنه مناولة وهذه الأشياء يدخلها التصحيف ، ولا سيما في ذلك العصر ، لم يكن حدث في الخط شكل ولا نقط ))(22) .
فهذه بعض صيغ الرواية التي ضعّف أهل العلم أحاديث الرواة عن الشيوخ بسببها ، ولعل سبب التضعيف أنَّ الراوي إذا لم يقرأ أحاديثه على الشيخ ، فمن المحتمل أنْ يدخل عليه التحريف أو التصحيف ، وهذا من الاحتياط الذي لزم هذه الأمة في تلقّي أحاديث نبيها صلى الله عليه وسلم .
5ــــ معرفة أسماء الرواة وكناهم وألقابهم وأنسابهم ، ومنه المتفق والمفترق والمؤتلف والمختلف . قال الحاكم : (( هذا النوع منه معرفة المتشابه في قبائل الرواة وبلدانهم ، وأساميهم وكناهم وصناعاتهم ، وقوم يروي عنهم إمام واحد فتشتبه(23) كناهم وأساميهم لأنها واحدة ، وقوم يتفق أساميهم وأسامي آبائهم ، فلا يقع التمييز بينهم إلا بعد المعرفة )) (24) .
وتتجلى أهمية هذا الجانب في احتمال تشابه الأسماء بين ثقة وضعيف ، أو اختلاف الأسماء والشخص واحد ، أو اشتراك عدة أشخاص في اسم واحد .. كما جاء في نسب الأعمش مثلاً (( سليمان الأسدي )) و (( سليمان الكاهلي )) و (( سليمان الكوفي )) وجميعها لسليمان بن مهران الأعمش الكاهلي الكوفي الأسدي ، فما بالك ببقية الرواة ، بل إنَّ المتعجّل قد يظن أنَّ الأنساب المذكورة آنفاً لأربعة رجال ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإنَّ التضلع بهذا الفن سوف يوصد الباب أمام المدلسين الذين يستغلون كثيراً من الأسماء والألقاب والكنى التي لم يشتهر بها أصحابها - ستاراً لتدليسهم - ، وهي فائدة عظيمة ألمح إليها ابن الصلاح بقوله : (( هذا فن عويص ، والحاجة إليه حاقة ، وفيه إظهار تدليس المدلسين ، فإنَّ أكثر ذلك نشأ من تدليسهم ))(25) ، كما أشار ابن دقيق العيد إلى فائدة أخرى إذ قال : (( وهو فن واسع ، يحتاج إليه في دفع مَعرّة التصحيف واللحن ، وفيه مصنفات كثيرة ))(26) ، وقال : (( وهو فن مهم ؛ لأنَّه قد يقع الغلط ، فيعتقد أنَّ أحد الشخصين هو الآخر ، وربّما كان أحدهما ثقة والآخر ضعيفاً ، فإذا غلط من الضعيف إلى القوي صححّ ما لا يُصحح ، وإذا غلط من القوي إلى الضعيف ، أبطل ما يصحُّ ، وقد يقع هذا في الأنساب كما يقع في الأسماء ، ويقع الإشكال فيه إذا أطلق النسب من غير تسمية ))(27) ، ومثال اتفاق النسبة : الآمُلي والآمُلي . فالأول منسوب إلى آمل طبرستان ، والثاني منسوب إلى آمل جيحون .. . أما آثار إهمال هذا الجانب فكشف عن أثر منها الحاكم عقب سوقه أحد أوهام الرواة إذ قال : (( ومن تهاون بمعرفة الأسامي أورثه مثل هذا الوهم ))(28) ، وبَيّن عظيم خطره علي بن المديني فيما نقله العسكري بقوله : (( أشد التصحيف : التصحيف في الأسماء ))(29) . ويجدر بالذكر أنَّ المحدّثين كانوا يمتحنون ضبط الراوي من عدمه ، بمعرفته التامة ومقدار ضبطه لأسانيده ، ولعل أشهر دليل على ذلك واقعة إمام الصنعة مع محدّثي بغداد .
6ــــ الانتباه على خصوصيات الرواة والفطنة لها . كم من راوٍ ثقة عدل وقد تكلم النقاد في بعض مروياته ، فهم ثقات في أنفسهم لكن حديثهم عن بعض الشيوخ فيه ضعف بخلاف بقية شيوخهم .
والأمثلة على ذلك كثيرة ، مثل رواية الأعمش ، عن أبي إسحاق ، فإنَّها معلولة بالاضطراب ، وكذا رواية سماك ، عن عكرمة ، ورواية إسماعيل بن عياش إذا روى عن غير الشاميين(30) .
أيضاً فإنَّ بعض الرواة تكلم فيهم ، ولكنهم إذا رووا عن بعض الشيوخ كانوا ثقات كرواية زهير بن معاوية ، عن الأعمش أو رواية عبد الرحمان بن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة فكلاهما - زهير وعبد الرحمان - من الرواة المتكلَّم فيهم ، إلا أنَّهما في روايتهما عن الشيخين المذكورين ثقتان صحيحا الحديث . قال ابن رجب في التعليق على حديث رواه حجاج : (( وحجاج بن أرطاة وإنْ كان مُتكلَّماً فيه إلا أنَّه فقيه يفهم معنى الكلام فيُرجَع إلى زيادته على مَن ليس له مثل فهمه في الفقه والمعاني ))(31) .
7ــــ التشبث بأقوال أهل العلم وجعلها مرجعاً للحكم .
يقول ابن رجب : (( حذاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث ومعرفتهم بالرجال وأحاديث كل واحد منهم ، لهم فهم خاص يفهمون به أنَّ هذا الحديث يشبه حديث فلان ، ولا يشبه حديث فلان ، فيعللون الأحاديث بذلك ))(32) . فإذا وجدنا حديثاً ظاهره الصحة ، وقد حكم النقاد بنكارته ، فيجب حينئذ تحكيم قول النقاد ؛ لأنهم جمعوا الطرق وسبروا الروايات ، وعرفوا صحة هذه الرواية من سَقَمِها . هذا في حال نقل الإجماع عنهم ، أما إذا كان الاختلاف قائماً فالحكم للقرائن ؛ لأنَّ الإعلال دائر مع الترجيحات ، ومع القرائن (( والمقصود بالقرائن ما يدل على المراد دون تصريح به ، وذلك مما يكون له تعلق مباشر أو غير مباشر من الألفاظ أو الإشارات التي تؤثر في توجيه دلالة اللفظ أو العبارة المستعملة في بيان درجة حديث الراوي ، أو بيان حاله جرحاً أو تعديلاً ))(33) قال ابن حجر : (( فمتى وجدنا حديثاً قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله ، فالأولى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه ))(34) .
وبيّن ابن رجب سبب السير وراء هؤلاء الأئمة ، فأصاب درة نفيسة حين قال : (( ومن ذلك أنَّهم يعرفون الكلام الذي يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم من الكلام الذي لا يشبه كلامه ))(35) .
8 ــــ معرفة مواليد الرواة ووفياتهم وأصحاب الرحلة منهم . كما هو معروف فإنَّ من شروط صحة الحديث الاتصال وثبوت اللقاء . ومن الأمور المساعدة على معرفة ثبوت اللقي من عدمه معرفةُ مولد الراوي وعرضه على وفاة شيخه الذي حدّث عنه ، سيظهر حينئذ احتمال اتصال السند على انقطاعه أو بالعكس . قال سفيان الثوري : (( لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ ))(36) ، وقال حفص بن غياث : (( إذا اتهمتم الشيخ فحاسبوه بالسنين ))(37) ، ونقل الخطيب عن أبي علي الحافظ أنَّه قال : (( لما حدّث عبد الله بن إسحاق الكرماني ، عن محمد بن أبي يعقوب ، أتيته فسألته عن مولده(38) ، فذكر أنَّه وُلد سنة إحدى وخمسين ومئتين ، فقلت له : مات محمد بن أبي يعقوب قبل أنْ تولد بتسع سنين فاعْلَمْه ، قال أبو عبد الله – هو الحاكم(39) – ولما قدم علينا أبو جعفر محمد بن حاتم الكشي ، وحدّث عن عبد بن حُميد سألته عن مولده ، فذكر أنَّه وُلد سنة ستين ومئتين ، فقلت لأصحابنا : سمع هذا الشيخ من عبد بن حُميد بعد موته بثلاث عشرة سنة ))(40) . وللرحلات أثر في معرفة العلل ، فقد يكون سماع الراوي صحيحاً في مكان وضعيفاً في آخر ؛ لأنَّه قد يختلط ، كذلك معرفة البلاد التي دخلها الراوي تنفع في معرفة احتمال اتصال السند من انقطاعه ، لذا يجب على الباحث في علل الحديث الاهتمام بهذا الجانب .
9ــــ معرفة العواصم أو المدارس الحديثية . لما انتشرت رقعة أهل الحديث وبلغت مبلغها من شهرة ورفعة عند الناس ، كانت هناك بعض الأمصار التي يختلف الناس إليها ؛ ليسمعوا من أهل الحديث بالعلو والنـزول ، وكان على رأس تلك الأمصار مكة والمدينة حيث الصحابة ، ثم البصرة والكوفة ، وبعدها بغداد والشام ومصر فنيسابور وغيرها كثير . فكان التلون الكبير في الحديث من بلد إلى آخر معيناً على كشف العلل ، وقد قال شعبة في قصته المشهورة في تتبع حديث التشهد بعد الوضوء : (( أي شيء هذا الحديث ؟ بينا هو كوفي ، إذ صار مكياً ، إذ صار مدنياً ، إذ صار بصرياً ))(41) ، وقال الحاكم : (( والمدنيون إذا رووا عن الكوفيين زلقوا ))(42) .

المصدر
الهوامش : هنا