الإكراه على الكفر يشمل الأقوال والأفعال وهذا رأي الجمهور
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد
إن الناظر لهذه المسألة بروية و تأني يلاحظ وبوضوح أن التفريق في الإكراه بين الأفعال والأقوال قولٌ ليس له دليل ولا تقوم به حجة؛ وعلى القائل بأن الإكراه يكون في الأقوال فقط أن يأتي
بالدليل ؛ وذلك أن قول الله تعالى "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان.......) الآية عامة تشمل كل إكراه معتبر؛ وبما أن الآية عامة فأقول مستعيناً بالله :-
(أولاً)على كل من يقول أن الإكراه يكون في الأقوال فقط؛ولا يشمل الأفعال أن يأتي بالدليل على هذا التفريق
(ثانياً)الآية مطلقة ومن أراد أن يقيدها بالقول فقط فليأتي بالدليل على هذا التقييد.
ثالثاً)قول ابن عباس رضي الله عنهما وغيره أن الإكراه يكون على الأقوال؛لا يُفهم منه أنهم ينفون الإكراه على الأفعال.


نبدأ بكلام ابن عباس رضي الله عنهما وتعليق ابن حجر رحمه الله عليه:
أخرج الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن بن عباس في قوله" إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" قال أخبر الله أن من كفر بعد ايمانه فعليه غضب من الله وأما من أكره بلسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوه فلا حرج عليه أن الله إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم.
قلت -أي ابن حجر العسقلاني-وعلى هذا فالاستثناء مقدم من قوله فعليهم غضب كأنه قيل فعليهم غضب من الله إلا من أكره لأن الكفر يكون بالقول والفعل من غير اعتقاد وقد يكون باعتقاد فاستثنى الأول وهو المكره.(انتهى)

"1"وقال ابن حجر رحمه الله في الفتح:
في كتاب الإكراه :
هو إلزام الغير بما لا يريده وشروط الإكراه أربعة الأول أن يكون فاعله قادراً على إيقاع ما يهدد به والمأمور عاجزاً عن الدفع ولو بالفرار الثاني أن يغلب على ظنه أنه إذا امتنع أوقع به ذلك الثالث أن يكون ما هدده به فورياً فلو قال إن لم تفعل كذا ضربتك غداً لا يعد مكرهاً ويستثنى ما إذا ذكر زمناً قريباً جداً أو جرت العادة بأنه لايخلف الرابع أن لا يظهر من المأمور ما يدل على اختياره كمن أكره على الزنا فأولج وأمكنه أن ينزع ويقول أنزلت فيتمادى حتى ينزل وكمن قيل له طلق ثلاثاً فطلق واحدة وكذا عكسه ولا فرق بين الإكراه على القول والفعل عند الجمهور؛ ويستثنى من الفعل ما هو محرم على التأبيد كقتل النفس بغير حق.(انتهى)
"2"قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
وَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ لَأَفْضَى إلَى ضَرْبِه أَوْ حَبْسِهِ أَوْ أَخْذِ مَالِهِ أَوْ قَطْعِ رِزْقِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ يُبِيحُ الْفِعْلَ الْمُحَرَّمَ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ ؛ وَلَكِنْ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكْرَهَهُ بِقَلْبِهِ وَيَحْرِصَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ الصِّدْقَ أَعَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ يُعَافَى بِبَرَكَةِ صِدْقِهِ مِنْ الْأَمْرِ بِذَلِكَ . وَذَهَبَ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يُبِيحُ إلَّا الْأَقْوَالَ دُونَ الْأَفْعَالِ : وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَحْوِهِ قَالُوا إنَّمَا التَّقِيَّةُ بِاللسَانِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ .(انتهى)
وبهذا يكون قد بيّن شيخ الإسلام أن هذه المسألة مختلف فيها على قولين ؛وأن أكثر العلماء على أنه شامل للأفعال كما أنه شامل للأقوال؛ وهذا الذي مال إليه-رحمه الله -
"3"قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وغاب عنك قوله تعالى،في عمار بن ياسر وأشباهه (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)إلى قوله: (ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة)النحل 106-107
فلم يستثن الله إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان،بشرط طمأنينة قلبه.
والإكراه لا يكون على العقيدة، - أي على ما في قلب المسلم -بل على القول والفعل،فقد صرح بأن من قال المكفر،أو فعله،فقد كفر،إلا المكره بالشرط المذكور. (انتهى)
"4"قال الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله
وأما الكفر القولي والفعلي فيجوزان بالإكراه ؛لا لكونهما كفراً؛بل لتحصيل مصلحة حفظ الحياة؛فهو مفسدة جازت لتحصيل مصلحة؛ثم يَجبُرُ المكرَه ذلك بإيمانه فيما بقي من زمانه؛ويثاب على كراهته الكفر بلسانه؛لأنه مطيع بذلك؛وكذلك يثاب على كراهته لترك جميع الواجبات بالإكراه.(انتهى)
وقال: إن مفسدة القتل والزنا واللواط تتحقق،ومفسدة كفر الأقوال والأعمال لا تتحقق،لأن مفسدتهما هي الاستهزاء والاحتقار،والمك رَه غير مستهزئ ولا محتقر،إذ لا يتحقق ذلك مع الإكراه.(انتهى)
"5"قال الشيخ أبي عبد الله القرطبي رحمه الله:
واحتج من قصر الرخصة على القول بقول ابن مسعود : ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان إلا كنت متكلماً به. فقصر الرخصة على القول ولم يذكر الفعل ، وهذا لا حجة فيه ؛ لأنه يحتمل أن يجعل للكلام مثالاً وهو يريد أن الفعل في حكمه. وقالت طائفة : الإكراه في الفعل والقول سواء إذا أسرّ الإيمان. روي ذلك عن عمر بن الخطاب ومكحول ، وهو قول مالك وطائفة من أهل العراق. روى ابن القاسم عن مالك أن من أكره على شرب الخمر وترك الصلاة أو الإفطار في رمضان ، أن الإثم عنه مرفوع.(انتهى)
"6"سُئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله؛عن الإكراه على فعل مكفر...إلخ؟
فأجاب:الظاهر من كلام الفقهاء أنه في حكم المرتد،حيث قالوا:إنه يكفر بعد إسلامه،بقول ،أو فعل،أو شك، أو اعتقاد،واشترطوا كونه طوعاً،ولم يقيدوه بالقول ،قال ابن رجب،في شرح الأربعين:ولو أكره على شرب الخمر،أو غيره من الأفعال المحرمة،ففي إباحته بالإكراه قولان-إلى أن قال:
والقول الثاني:أن التقية بالأقوال،ولا تقية بالأفعال،روي ذلك عن ابن عباس،وجماعة من التابعين،ذَكَرَ هُم،وهو رواية عن أحمد-إلى أن قال:وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم،أنه أوصى طائفة من أصحابه،وقال:"لا تشركوا بالله،وإن قطعتم،أو حرقتم"فالمراد الشرك بالقلوب،فظاهر كلامه:أن الإكراه في الفعل،كالقول،لق وله تعالى: (و لكن من شرح بالكفر صدراً)-النحل-والله أعلم(انتهى)



1- فتح الباري مجلد 12 صفحة 438طبعة دار مصر للطباعة
2- مجموعة الفتاوى المجلد الأول صفحة259طبعة دار الوفاء
الدرر السنية في الأجوبة النجدية المجلد العاشر صفحة 64-65

4-القواعد الكبرى المجلد الثاني طبعة دار القلم صفحة 269
5-الجامع لأحكام القرآن الكريم المجلد الخامس طبعة دار الحديث صفحة 529
6-الدرر السنية في الأجوبة النجدية المجلد العاشر صفحة420

كتبه
أبو عبد الله المقدسي
فلسطين-غزة
18 شوال 1432هـ