مستويات الخطاب البلاغي في أسلوب الحديث النبوي الشريف / بقلم محفوظ فرج إبراهيم


عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله يقول : من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً سَهَّل اللهُ له طريقاً إلى الجنة وإنَّ الملائكةَ لتضعُ أجنحتِها لطالبِ العلمِ رضاً بما يصنعُ وانَّ العالِم ليستغفرُ له من في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء.وفضلُ العالمِ على العابدِ كفضلِ القمر على سائر الكواكب وإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياء وإنَّ الأنبياءَ لم يورثوا ديناراً ولا دِرهَماً وإنما وَرثوا العلمَ فمن أخذهُ أخذَ بحظٍ وافر) فتح الباري شرح البخاري ج2 ص146أخرجه أبو داود 3641 والترمذي 2682 وابن ماجة 223 ورياض الصالحين 1388






ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــ

حديث نبوي شريف ورد الخطاب فيه مما ألفناه في أسلوب الرسول الكريم أن يرد التركيب على أسلوب الشرط فيحتوي من خلاله المعاني المتشعبة والشرط ورد لما يفيد العاقل فكان المسند إليه، وهذا ما يؤثره صلى الله عليه وسلم في أن يكون المسند إليه أداة شرط من فهي بمعنى العموم وهي للمسألة عن الأناسي ويكون الجزاء للأناسي وتكون بمنزلة( الذي) للأناسي[1]
ولما كانت أداة الشرط في محل المبتدأ فالخبر يكون وصفاً مستوعباً للناس كافة من غير تمييز فتتسع المعاني وتتشعب لتُحْصرَ بين الشرط وجزائه .
وقد ورد فعلا الشرط وجوابه ماضيان (سلك ) (سهل) وورود هذين الفعلين في الزمن الماضي إنما جاء لغرض بلاغي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أنهما جاءا للتوكيد على إنهما حاصلان لا محالة بدلالة الماضي من اجل التوكيد فقد ذهب النحاة إلى ذلك حيث قالوا أن الشرط هنا مع الفعل الماضي أريد به ( إنزال غير المتيقن منزلة المتيقن وغير الواقع منزلة الواقع )[2] ولم يكن غرضه صلى الله عليه وسلم مقصورا على معنى واحد أريد به، وإنما كان لمعان أخرى كبث التفاؤل والرغبة في أن يسلك طريق العلم من اجل أن يسهل الله الطريق إلى الجنة وان إنزاله منزلة المتيقن منه يعني أن سلوك طريق يعلم في تسهيله الطريق إلى الجنة هو حكم ثابت قائم على التجربة وكثرة الحدوث . وقد نكر الحديث الشريف طريقا وعلما وذلك لكي يكون الطريق الذي يسلكه ليس محددا والعلم الذي يبتغيه أي علم يكون في صالح العباد يرضي الله تعالى وذلك ما يدلل على انفتاح الشريعة الإسلامية على كافة المسالك والطرق وكافة العلوم التي هي لخدمة الانسان وصالحة ولم يخصصها رسولنا الكريم في حديثه[3]
وإذا كان ذلك السلوك جاء بالماضي (سلك ) فان الغاية من ذلك السلوك هي ابتغاء العلم انه سلك بدلالة الحال (يبتغي فيه علما) إشارة الى الاستمرار في طلب العلم وعدم التوقف في مرحلة معينة .

وإذا كان ذلك البناء في مستويات الخطاب البلاغي قد احتملت المعاني التي ذكرناها فان التوافق بين الدال والمدلول قد ترك أثره في صورة الحديث الشريف / سلك ـ سهل / ففي السين واللام ما يفضي الى المرونة والليونة في(سلك ) ولكن الكاف فيها دلالة على ان الطريق فيه صعوبة ويتطلب جهدا استثنائيا وصبرا وفي جواب الشرط (سهّل الله له) وما دلالة الهاء المشددة في الجزاء هنا إلا إشارة الى ان نهاية سلوك طريق العلم هي الهدوء والسكينة . والهاء في شبه الجملة ( له ) ضمير عائد على المبتدأ ( من )
مثل هذا الخطاب النبوي أراد صلى الله عليه وسلم للصورة الفنية ان تكون جلية لدى المتلقي إذ تتابع منسجمة في دلالتها لتكون معادلا موضوعيا لقيمة العلم من خلال الأخبار الطلبية المؤكدة وهي جمل اسمية مترابطة بواسطة الواو العاطفة
(وان الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع ) وهذه صورة روحانية خلابة لخبر إنكاري رد على من يكذب جدوى العلم من خلال (إنَّ) و ( لام) التوكيد وقد تطلب الخبر التوكيد لأنه صورة غيبية ليس بطوق المتلقي أن يراها ليصدقها لكنها تتجسد أمام البصر والبصيرة ماثلة دلالتها الحقيقية والمجاز في الوقت نفسه هي استعارة الأجنحة للملائكة وهي تضعها لكل إنسان يستمر في طلب العلم وهي دلالة على رضا الله عز وجل بما يصنع و ( رضا ) هنا قد تكون بموقع الحال المنصوب أو مفعول لأجله منصوب، وهذه الصورة تلتها جملة معطوفة عليها بخبر انكاري أيضا لان الخبر لا يمكن أن يراه الإنسان كذلك ( وان العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء ).
إنها صورة وقعت من خلال التوكيد بمنزلة الحقيقة التي يتوصل المتلقي فيها الى منزلة المتيقن وكأن صدى الاستغفار ماثل في السمع متحقق لا محالة وهكذا يكون أسلوبه صلى الله عليه وسلم وهو الأسلوب الأثير في تسهيل إيصال الفكرة عند الرسول صلى الله عليه وسلم حيث تتوالى الجمل المتعاطفة المتشاكلة في البناء بضدين إنكاريين ذكرناهما وقد توسطهما خبر ابتدائي تلاه خبران طلبيان والخبر الابتدائي الذي ورد صورة فنية لا تتطلب توكيدا وليس هناك من ينكر الخبر أو يشك به ( وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب )[4] واذا كان فضل العالم على العابد يقينا لا يحتاج الى توكيد فقد جسد ذلك المعنى بصورة محسة من خلال التشبيه المرسل الذي دفع المتلقي الى المقارنة البصرية بين نور القمر المشع ونور الكواكب الضئيل الخافت
وإذا سأل سائل لماذا ورد الخبران بعد الخبر الابتدائي نوعيهما طلبي وليس إنكاري ؟كما في الخبرين المتقدمين فذلك لان المتقدمين كانا غيبيين خارج الحواس اما الخبران الطلبيان فهما ليس في الغيب وإذا شك أحد في ذلك فقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك ب(إن) ان العلماء ورثة الأنبياء وان الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ويخلص صلى الله عليه وسلم الى أسلوب القصر بانما والقصر بها هو ليس دفعا لإنكار خبر فالخبر معروف ولا أحد ينكره إنما كان القصر بها للتذكير (إنما ورثوا العلم ) وإذا كان الحديث النبوي قد افتتح بجملة شرطية فانه اختتم بجملة شرطية جانحا نحو التركيب الذي فيه العلم والمعرفة بخلاصة الأفعال ولتتضح وحدة الحديث الموضوعية (فمن أخذه أخذ بحظ وافر) وإذا كانت دلالة الشرط في أفعاله الماضية بداية الحديث (سلك) (سهل) تتوافق في ليونتها وسهولتها
فان الشرط في الختام كان بالأفعال الماضية (أخذه) (أخذ) والهمزة والخاء في الفعل إنما هي حروف حلق بعيدة المخرج توافقا مع الدلالة ان العلم مناله صعب وإنما يأتي بعد الكد والصبر والجهد

محفوظ فرج / سامراء 1431هـ

[1] الكتاب 2/209 معاني النحو 4/466

[2] معاني النحو 4/ 435

[3]طريقاً: نكرها، ((سلك طريقاً)) نكرة، لماذا؟ ونكر أيضاً علماً ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً)) لو قال: العلم لكان المراد العلم الشرعي المتكامل، علم الوحيين، وما يخدم الوحيين، لكن ((من سلك طريقاً)) هذا نكرة، وعلماً: نكرة أيضاً ليندرج فيه القليل والكثير، ولو جزء من أجزاء العلم، ولو تخصص في فرع من العلوم الشرعية، يعني سواءً سلك طريقاً علماً في التفسير في الحديث في العقيدة فيما يخدم ذلك كله علم، نكر طريقاً ليتناول أنواع الطرق إلى تحصيل العلوم الدينية؛ ليتناول أنواع الطرق الموصلة إلى تحصيل العلوم الدينية؛ وليندرج فيه القليل والكثير، فيدخل فيه دخولاً أولياً سلوك الطريق الحسي بأن يمشي أو يركب إلى مواطن العلم ومدارسه ومعاهده، ويجثو بركبتيه بين يدي أهل العلم ليأخذ من علمهم، هذا يدخل بدخول أولي، هذا سلك الطريق الحسي الذي لا يختلف فيه، وتنكير الطريق يتناول عمومه من تعلم عن طريق الوسائل، من سلك طريقاً هذا طريق من طرق التحصيل، يتناول عمومه من تعلم عن طريق الوسائل الحديثة والكتب المؤلفة، والكتب المؤلفة، ما دام هذا سلك طريق يلتمس فيه العلم النافع الشرعي وما يخدمه يلتمس علم الوحيين الكتاب والسنة وما يعين على فهم الوحيين هذا سلك طريقاً.
فإن سلك الطريق الحسي دخل فيه دخولاً أولياً قطعياً، يعني سلك طريقاً غير الطريق الحسي، يعني حيل بينه وبين الوصول إلى معاقل العلم، وسلك الطرق المؤدية إلى هذا العلم من غير الطريق الحسي من الطرق المعنوية بالوسائل التي وجدت -ولله الحمد- ويسرت العلم الشرعي وأوصلته إلى قعر البيوت، وسمعه الخاص والعام هذا سلك طريقاً، فيتناوله عموم التنكير ((سهل الله له طريقاً)) أي: في الآخرة؛ لأنه قال: ((إلى الجنة)) أو ما يشمل الآخرة والدنيا بأن يوفقه للأعمال الموصلة إلى الجنة، يعني يوفقه إلى الأعمال الصالحة الموصلة إلى الجنة. ميراث الانبياء الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير
http://www.khudheir.com/audio/2764


[4] قال شيخ الإسلام ابن القيم رحمه اللهوفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب تشبيه مطابق لحال القمر والكواكب فان القمر يضيء الآفاق ويمتد نوره في أقطار العالم وهذه حال العالم وأما الكوكب فنوره لا يجاوز نفسه أو ما قرب منه وهذه حال العابد الذي يضيء نور عبادته عليه دون غيره وان جاوز نور عبادته غيره فإنما يجاوزه غير بعيد كما يجاوز ضوء الكوكب له مجاوزة يسيرة ومن هذا الأثر المروي إذا كان يوم القيامة يقول الله للعابد ادخل الجنة فإنما كانت منفعتك لنفسك ويقال للعالم اشفع تشفع فإنما كانت منفعتك للناس وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما إذا كان يوم القيامة يؤتى بالعابد والفقيه فيقال للعابد ادخل الجنة ويقال للفقيه اشفع تشفع وفي التشبيه المذكور لطيفه أخرى:
وهو أن الجهل كالليل في ظلمته وجنسه والعلماء والعباد بمنزلة القمر والكواكب الطالعة في تلك الظلمة وفضل نور العالم فيها على نور العابد كفضل نور القمر على الكواكب
وأيضا فالدين قوامه وزينته وإضاءته بعلمائه وعباده فإذا ذهب علماؤه وعباده ذهب الدين كما أن السماء إضاءتها وزينتها بقمرها وكواكبها فإذا خسف قمرها وانتشرت كواكبها أتاها ما توعد وفضل علماء الدين على العباد كفضل ما بين القمر والكواكب
فإن قيل: كيف وقع تشبيه العالم بالقمر دون الشمس؟ وهي أعظم نورا!! قيل: فيه فائدتان :
إحداهما : أن نور القمر لما كان مستفادا من غيره كان تشبيه العالم الذي نوره مستفاد من شمس الرسالة بالقمر أولى من تشبيهه بالشمس .
الثانية : أن الشمس لا يختلف حالها في نورها ولا يلحقها محاق ولا تفاوت في الإضاءة وأما القمر فإنه يقل نوره ويكثر ويمتلئ وينقص كما أن العلماء في العلم على مراتبهم من كثرته وقلته فيفضل كل منهم في علمه بحسب كثرته وقلته وظهوره وخفائه كما يكون القمر كذلك فعالم كالبدر ليلة تمه وآخر دونه بليلة وثانية وثالثة وما بعدها إلى آخر مراتبه وهم درجات عند الله. رفع الملام عن الأئمة الأعلام ، تحقيق زهير الشاويش ،المكتب الإسلامي، بيروت، ص11 ــ 12