التناظر الصوتي الصوري التركيبي


إن التناظر الصوتي الصوري التركيبي من جوانب الإعجاز اللغوي للقرآن العظيم ، و أقصد بهذا التناظر ؛ تلك الخلفية الموسيقية للصورة الكلية في النص القرآني في سورة من سوره مركبة مع أداء تركيبي يعتمد تأخير بؤرة الموضوع حتى تصبح الفاصلة مما يتيح مساحة للمتلقي لمشاركة النص فيما عرف بـ ( الإرصاد ) ، كما يسمح هذا التأخير للبؤر بالحفاظ على حالة البحث عن التشبع في الإجابة عن بنية التركيب في أولها و لا سيما إن كانت تتناول مثل هذه القضايا العقائدية ، كما تعد أهمية هذا التناظر راجعة إلى التكثيف التأثيري في الآداء النصي في حواره للمتلقيين .
و فيما يلي أتناول هذا التناظر تطبيقا على سورة مريم ملقيا الضوء على أحد أهم جوانب الإعجاز القرآني :
إن الصورة الكلية التي تدور في فلكها سورة مريم هي تفرد الخالق بالخلق و الاستغناء عن الذي يفتقر إليه الخلق ، و انطلاقا من هذه السورة الكلية تشكلت بناياتها الجزئية على شكل تناسخي في المعالجة ذو سمة فارقة في الحدث ؛ فالحديث عن سيدنا زكريا هو هو في معالجته الحديث عن البتول مريم ، هو هو الحديث عن سيدنا إبراهيم في علاقته بوالده و وولده ، هو هو الحديث عن موسى في علاقته مع هارون أخيه ، و كل ما سبق يتناول القدرة على الخلق ( الهبة ) من لدن الواحد الأحد وقتما يشاء كيفما يشاء ، و يتناول في الوقت ذاته افتقار الخلق لـ ( هبة )
الله ؛ إذ تمثل العصبة و الركن الشديد ، بينما يستغني الواحد الأحد لما يفتقر إليه خلقه ؛ فمحال أن من يمنح يفتقر لما يمنحه .
و بينما تتمثل الصورة الكلية على هذا النحو تقوم الخلفية الموسيقية بالحفاظ على التماسك النصي للصور المتناسخة داخل الصورة الكلية و التي تميزت بالسمة الفارقة ؛ ففي صورة سيدنا زكريا كانت القدرة في اختيار توقيت ( الهبة ) ، و في البتول مريم كانت القدرة في اختيار كيفية ( الهبة ) ، و في سيدنا إبراهيم كانت القدرة في اختبار ( الهبة ) ، و في سيدنا موسى كانت القدرة في تسخير ( الهبة ) ، تلك السمات الفارقة في الصور الجزئية و التي تمتعت في كليتها بمطلق القدرة من لدن الواحد القهار ، و كانت الخلفية الموسيقية محاكاة للصورة الكلية ( مطلق القدرة ) فكان الإطلاق المدي للفواصل و اتفاقها في المقطع الطويل المفتوح ، ذلك الإطلاق المدي الذي هيأه التركيب الذي ارتضى منذ البداية تأخير بؤرة الموضوع في عرض الآيات في السورة
الكلية .
و في فلك القدرة المطلقة ( الصورة الكلية ) تتغير الخلفية الموسيقية مرتين ؛ الأولى منهما تنقل مطلق القدرة من مسرح الدنيا لمسرح الحساب فتظهر القدرة المطلقة قابضة بينما يتعالى أنين المذنبين ، و جاءت الخلفية الموسيقية تتراوح في الفواصل بين ( ي / م – ي / ن ) و الميم و النون تتراوحان بين القبض ( الانطباق التام للصوت من جانب الشفتين و الأنين الأنفي كمخرج بديل للهواء ) ، هذا بجانب النهاية المقطعية المعتمدة على المقطع المديد المغلق بصامت مما يتيح ثقلا موثيقيا محاكيا لهول الحساب لكل من ارتاب أو أنكر للقدرة المطلقة و الاستغناء من لدن الواحد القهار .
و أما الثانية فجاءت خاتمة للصورة الكلية ، فبعدما تمت صور القدرة بأشكالها المختلفة ، تأتي الخاتمة تدور حول ( و قالوا اتخذ الله ولدا ) ، فكانت الصورة التفصلية للقدرة المطلقة في يوم
( تكاد السموات يتفطرن منه و تنشق الأرض و تخر الجبال هدا ) فكانت الخلفية الموسيقية انفجارية مجهورة ، مع الحفاظ على الإطلاق و المقطع الطويل المفتوح و كلاهما يحافظ على القدرة الذهنية للاسترجاع الصوري للجزئيات السابقة على هذه الجزئية ، و كذلك سار النمط التركيبي في تأخير البؤرة لنفس السبب الذي ذكرته سابقا .

نموذج آخر : سورة العاديات :
إن الطابع الغالب للقضايا في السور المكية هو مناقشة طبيعة العلاقة بين الخالق و المخلوق ، و على هدي من هذا كانت الصورة الكلية لسورة العاديات و إنما تضمنت الصورة الكلية مشاهدا ثلاثة كانت متناسخة في مضمونها الكلي و إن أضاف الترتيب الإخراجي لها تمهيدا فتعميقا
فتماما .
و لقد اعتمدت المشاهد الثلاثة على الحركة الخاطفة التي تمثل إيقاع الحياة و الكد الذي يواجهه الإنسان تماشيا مع هذه السرعة ؛ فالمشهد الأول جاء ليعرض تلك الحركة فائقة الجهد ممزوجة بالتعب الشديد فكان التناظر الصوتي في الفواصل ليزداد المشهد خلفية موسيقية تضمن تأثيرا عميقا ممهدا للمشهد التالي ؛ فالفواصل اعتمدت على قلقلة ( الباء في ضبحا ، و الدال في قدحا ، و الباء مرة أخرى في صبحا ) و هي انفجارية في الوقت ذاته ، ثم صوت الحاء الحلقي الذي نسمعه مع الجهد الجهيد الذي يبذله الإنسان ماكثا على ركبتيه يلهث ، ثم المد الذي يسير على إيقاع استشراف الحياة ممن استنزف جل أنفاسه و هو يلاحقها قبل الصعود ، ثم يأتي بعد ذلك دور التناظر التركيبي ليسير على نفس الإيقاع المعجز ؛ فكان التركيب الاختزالي في المشهد الأول ؛ إذ اعتمد على حذف الكثير من ( العمد ) - و أقصد بالعمد تلك الكلمات ذات القوى الجذبية الكبرى في التركيب الجملي في اللغة العربية - ، ليتناظر هذا الاختزال التركيبي مع صورة المشهد و إيقاعها الصوتي في الفواصل ، و المشهد الأول جملة بمثابة ( المسند إليه ) يظل المتلقي معه في حالة من عدم الاستقرار الذهني بحثا عن ( المسند ) تلك الحالة أيضا تتناظر مع الأداء الصوري الصوتي في للسورة جملة .
و بنفس الأداء المعجز يأتي المشهد الثاني كاشفا عن التمهيد في المشهد الأول ، و يدور في نسق خطابي مباشر يكشف فيه الطبيعة الإسنادية ، مصورا حال الطبيعة البشرية في السراء و الضراء ؛ و تلعب الفواصل نفس الدور المعجز في التناظر الصوتي مع الصورة في المشهد الثاني ؛ إن الفواصل تنقسم مقطعيا إلى قصير مفتوح و مديد مغلق بصامت وهو انتقال صوتي شديد من اقصى الخفة لأقصى الثقل و هو نفس التباين للحالة النفسية للبشر في السراء و الضراء !!!! ، و يأتي دور التناظر التركيبي ؛ إذ اعتمد على استحضار المخاطب الذي يشك
في أمر تلك القضية ، ومن ثم فالجانب التركيبي اعتمد على إبراز التباين بين القضيتين ، و هو محور التناظر في المشهد الثاني .
و أخيرا ، المشهد الثالث ، وفيه صورة للبعث و الحساب حملت الفواصل فيها عاتق التأثير الأكبر ؛ إذ أن ذلك الصوت التكراري ( الراء ) يحاكي حركة البعثرة الزلزلة الدمدمة ، وهو جهوري يحاكي تلك الصرخات في ذلك الموقف العظيم ، أما عن التناظر التركيبي فقد اعتمدت فيه الفواصل على وظيفتها التداولية ( البؤرة الجديدة ) و حاليتها مما يعطي الحالة التركيبية للجمل في المشهد الثالث أبعادا استفهامية طويلة الأمد تتناظر مع تلك الحالة في الموقف العظيم .