· اسمه ونسبه:
هو الشَّيْخ الإِمَام الْقدْوَة الزَّاهِد العابد العالم عماد الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الشيخ العارف أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بْن مَسْعُود بْن عُمَر الوَاسِطِيّ الحَزَّامي _ بالفتح والشد _([2])؛ الْمَعْرُوف بِابْن شيخ الحَزَّامين، ويقال: ابن شيخ الحَزَّامية، نزيل دمشق. ومحلة الحَزَّامين وَاسِعَة كَبِيرَة وَهِي فِي شَرْقي وَاسِط في العراق.
ولد في حادي عشر؛ أَوْ ثاني عشر ذي الحجة سنة سبع وخمسين وستمئة بشرقي واسط. وقال ابن تغري بردي: مولده في حدود الأربعين وستمئة.
· سيرته ومكانته:
كَانَ رجلا صَالحا، ورعا، كَبِير الشَّأْن، مُنْقَطِعًا إِلَى الله، متوفراً على الْعِبَادَة والسلوك.
تَفَقَّهَ، وتأدب، وَكتب الْمَنْسُوب _ خط ينسب إلى ابن مقلة _، وتجرد، وَلَقي الْمَشَايِخ، وترك الرياسة، وتزهد وَتعبد، وقطع العلائق وتجرد، وَشَارَكَ فِي الْفَضَائِلِ، وَصَحِبَ الْكِبَارَ.
وَكَانَ يَقْتَاتُ مِنَ النَّسْخِ ويتبلغ منه بصيد فخه، وَلَهُ أَحْوَالٌ وَمَقَامَاتٌ، وَكَانَ دَاعِيَةً إِلَى السُّنَّةِ وَمُتَابَعَةِ الآثَارِ.
كان لَا يحب الخوانك وَلَا الاحتجاز؛ قال الإمام الذهبي: (جالسته مَرَّات وانتفعت بِهِ، وَكَانَ منقبضاً عَن النَّاس، حَافِظًا، تسلَّك بِهِ جمَاعَة، وَكَانَ ذَا ورع وإخلاص، ومنابذة للاتحادية وَذَوي الْعُقُول، وقال فيهم ما أحبّ أن يقول).
كان من سادة السالكين، له مشاركة في العلوم، وعبارة عذبة، ونظم جيد، قال الإمام ابن ناصر الدين: (وقفت لَهُ على كَلَام فِي التصوف عَجِيب، وَمِنْه مَا وجدته بِخَط الْمُحدث أبي عبد الله مُحَمَّد بن طولوبغا؛ وَذكر أَنه وجده بِخَط الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس الوَاسِطِيّ رَحْمَة الله عَلَيْهِ).
وقد وصفه الإمام الذهبي في "الطب النبوي" بأنه كان بصيراً بالطب.
كَانَ أبوه شيخ الطائفة الأحمدية، ونشأ الشيخ عماد الدين بينهم، وألهمه اللَّه من صغره طلب الحق ومحبته، والنفور عَنِ البدع وأهلها، فاجتمع بالفقهاء بواسط كالشيخ عز الدين الفاروتي وغيره. وقرأ شَيْئًا من الفقه عَلَى مذهب الشَّافِعِي، منها الروضة والرافعي.
ثُمَّ دَخَلَ بغداد، وصحب بها طوائف من الْفُقَهَاء، وحج واجتمع بمكة بجماعة مِنْهُم.
وأقام بالقاهرة مدة ببعض خوانقها، وخالط طوائف الْفُقَهَاء، وَلَمْ يسكن قلبه إِلَى شَيْء من الطوائف المحدثة. واجتمع بالإِسكندرية بالطائفة الشاذلية، فوجد عندهم مَا يطلبه من لوائح المعرفة، والمحبة والسلوك، فأخذ ذَلِكَ عَنْهُم، وانتفع بهم، واقتفى طريقتهم وهديهم.
ثُمَّ قدم دمشق، فرأى الشيخ تقي الدين ابْن تيمية وصاحبه، فدله عَلَى مطالعة السيرة النبوية، فأقبل عَلَى سيرة ابْن إِسْحَاق تهذيب ابْن هِشَام، فلخصها واختصرها، وأقبل عَلَى مطالعة كتب الْحَدِيث والسنة والآثار، وتخلى من جميع طرائقه وأحواله، وأذواقه وسلوكه، واقتفى آثار الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهديه، وطرائقه المأثورة عَنْهُ فِي كتب السنن والآثار، واعتنى بأمر السنة أصولًا وفروعا، وشرع فِي الرد على طوائف المبتدعة الذين خالطهم وعرفهم من الاتحادية وغيرهم، وبين عوراتهم، وكشف أستارهم، وانتقل إِلَى مذهب الإمام أَحْمَد.
قال الحافظ ابن رجب: (بلغني: أَنَّهُ كَانَ يقرأ فِي "الكافي" عَلَى الشيخ مجد الدين الحراني الآتي ذكره إن شاء الله تَعَالَى. واختصره فِي مجلد سماه "البلغة").
كَانَ الشيخ تقي الدين ابْن تيمية يعظمه ويجله، وَيَقُول عَنْهُ: هُوَ جنيد وقته. وكتب إِلَيْهِ شيخ الإسلام كتابا من مصر أوله " إِلَى شيخنا الإِمام العارف القدوة السالك ".
قَالَ العلامة البرزالي عَنْهُ فِي معجمه: (رجل صَالِح عارف، صاحب نسك وعبادة، وانقطاع وعزوف عَنِ الدنيا. وَلَهُ كَلام متين فِي التصوف الصحيح، وَهُوَ داعية إِلَى طريق اللَّه تَعَالَى، وقلمه أبسط من عبارته.
واختصر السيرة النبوية، وَكَانَ يتقوت من النسخ، ولا يكتب إلا مقدار مَا يدفع بِهِ الضرورة. وَكَانَ محبا لأهل الْحَدِيث، معظما لَهُمْ، وأوقاته محفوظة).
وَقَالَ الإمام الذهبي: (كَانَ سيدا عارفا كبير الشأن، منقطعا إِلَى اللَّه تَعَالَى. وَكَانَ ينسخ بالأجرة ويتقوت، ولا يكاد يقبل من أحد شَيْئًا إلا فِي النادر.
صنف أجزاء عديدة فِي السلوك والسير إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَفِي الرد عَلَى الاتحادية والمبتدعة. وَكَانَ داعية إِلَى السنة، ومذهبه السلف الصالح في الصفات، يُمِرها كَمَا جاءت، وَقَد انتفع بِهِ جَمَاعَة صحبوه، ولا أعلم خلف بدمشق محْي طريقته مثله).
قال الحافظ ابن رجب: (كتب عَنْهُ الذهبي والبرزالي، وسمع منه جَمَاعَة من شيوخنا وغيرهم، وَكَانَ لَهُ مشاركة جيدة فِي العلوم، وعبارة حسنة قوية، وفهم جيد، وخط حسن فِي غاية الْحَسَن.
وَكَانَ معمور الأوقات بالأوراد والعبادات، والتصنيف، والمطالعة، والذكر والفكر، مصروف العناية إِلَى المراقبة والمحبة، والأنس بالله، وقطع الشواغل والعوائق عَنْهُ، حثيث السير إِلَى وادي الفناء بالله، والبقاء بِهِ، كثير اللهج بالأذواق والتجليات، والأنوار القلبية، منزويا عَنِ النَّاس، لا يجتمع إلا بمن يحبه، ويحصل له باجتماعه بِهِ منفعة دينية).
·مصنفاته([3]):
لَهُ تَوَالِيفٌ كثيرة نَافِعَةٌ فِي السُّلُوكِ والمحبة، وفي تبيين الطريقة النبوية والسلوك الآثري والفقر المحمدي؛ وَهِيَ من أنفع كتب الصوفية للمريدين، انتفع بها خلق من متصوفة أهل الْحَدِيث ومتعبديها؛ فمن مصنفاته:
- شرح منازل السائرين.. شرح أكثرها ولم يتمه.
- مختصر دلائل النبوة.
- مختصر السيرة لابن إسحاق بتهذيب ابن هشام.
- البيان المفيد في الفرق بين الإلحاد والتوحيد.
- لوامع الاسترشاد في الفرق بين التوحيد والإلحاد.
- أشعة النصوص في هتك أستار الفصوص.
- البلغة والإقناع في حل شبهة مسألة السماع.
- مدخل أهل الفقه واللسان إلى ميدان المحبة والعرفان.
- مفتاح طريق الأولياء وأهل الزهد من العلماء.
- مِفْتَاح طَرِيق المحبين وَبَاب الانس بِرَبّ الْعَالمين الْمُؤَدى إِلَى احوال المقربين.
- البلغة في الفقه. وهو مختصر لكتاب الكافي لابن قدامة الحنبلي.
- السر المصون في العلم المخزون.
- ميزان الحق والضلال في تفصيل أحوال النجباء والأبدال.
- ميزان الشيوخ.
- تلقيح الأسرار بلوامع الأنوار للعلماء الأنوار.
- حياة القلوب وعمارة الأنفاس في سلوك الأذكياء الأكياس.
- عمدة الطلاب من مؤمني أهل الكتاب.
- محمل تلقيح الأفهام في مجمل طبقات الإسلام.
- رسالة النصيحة في إثبات الصفات. وهي رسالتنا هذه.
- وله عدة رسائل ونصائح متفرقة مختلفة المضامين.
- وله ما يقارب الخمسين قاعدة متفرقة المعاني والمضامين.
· وفاته:
لم يزل على حاله إلى أن التقمته الأرض، وأودعته بطنها إلى يوم العرض. توفّي آخر نهار يَوْم السبت السَّادِس وَالْعِشْرين _ وقيل: السادس عشر _ من شهر ربيع الآخر من سنة إِحْدَى عشرَة وَسَبْعمئة، بِالْمَارِسْتَا نِ الصَّغِيرِ بدمشق، وصُلِّي عَلَيْهِ من الغد بالجامع الأموي، ودفن بِسَفْحِ قَاسِيُونَ قبالة زاوية السيوفي رحمه اللَّه عن أربعٍ وخمسين سنة _ هكذا ورد في بعض مصنفات الذهبي _، وقال الصفدي نقلاً عنه: عاش بضعاً وسبعين سنة.
· ومن نظمه:
قال الإمام الذهبي: أَنْشَدَنَا لِنَفْسِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
مَا زَالَ يَعْشَقُهَا طَوْرًا وَيُلْهِيهَا ... حَتَّى أَنَاخَ بِرَبْعِ الْحُبِّ حَادِيهَا
يَشْكُو إِلَيْهِ كَلالَ السَّيْرِ مِنْ نَصَبٍ ... وَعْدُ الْوِصَالِ يُمَنِّيهَا فَيُحْيِيهَا
هَبَّ النَّسِيمُ فَأَهْدَى طِيبَ نَشْرِهِمُ ... فَهَيَّجَ الْوَجْدَ مِنْ أَقْصَى دَوَاعِيهَا
إِنْ رُمْتَ سَيْرًا فَصَفِّ الْقَلْبَ مِنْ دَنَسٍ ... مَعَ الْجَوَارِحِ كَيْ تَنْفِي مَسَاوِيهَا
وَجَانِبِ النَّهْيَ حَسْبَ الْجَهْدِ مُمْتَثِلًا ... نُجْجَ الأَوَامِرَ كَيْ يَنْفَكَّ عَانِيهَا
وَاقْصِدْ إِلَى السُّنَّةِ الْغَرَّاءِ تَفْهَمُهَا ... فَهْمَ الْخُصُوصِ فَتَعْلُو فِي مَبَانِيهَا
وَدَاوِمِ الذِّكْرَ بَعْدَ الْعَقْدِ مِنْ سُنَنٍ ... عَقْدَ ابْنِ حَنْبَلٍ للأَمْرَاضِ يَشْفِيهَا
لا يَعْرِفُ الشَّوْقَ إِلا مَنْ يُكَابِدُهُ ... وَلا الصَّبَابَةَ إِلا مَنْ يُعَانِيهَا
وَمن إنشاده فِي مَرَاتِب الْمحبَّة:
من كَانَ فِي ظلم الدياجي ساريا ... رصد النُّجُوم وأوقد المصباحا
حَتَّى إِذا مَا الْبَدْر أرشد ضوؤه ... ترك النُّجُوم وراقب الإصباحا
حَتَّى إِذا انجاب الظلام بأسره ... وَرَأى الصَّباح بأفقه قد لاحا
ترك المسارح وَالْكَوَاكِب كلهَا ... والبدر وارتقب السنا الوضاحا
([1]) انظر الكلام عنه رحمه الله تعالى في:
العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية لابن عبد الهادي (ص: 355)، معجم الشيوخ الكبير للذهبي (1/ 29)، تذكرة الحفاظ = طبقات الحفاظ للذهبي (4/ 191)، الطب النبوي للذهبي (ص: 228)، العبر في خبر من غبر (4/ 29)، المشتبه في الرجال للذهبي (1 / 224)، تاريخ الإسلام ت تدمري (48/ 331)، الوافي بالوفيات (6/ 140)، أعيان العصر وأعوان النصر (1/ 153)، مرآة الجنان وعبرة اليقظان (4/ 188)، ذيل طبقات الحنابلة (4/ 380)، الرد الوافر (ص: 71)، توضيح المشتبه (3/ 165)، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (1/ 103)، المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي (1/ 210)، فوات الوفيات (1/ 56)، المقصد الارشد (1/ 73)، المنهج الأحمد (4/ 384)، القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية (2 / 479)، الدارس في تاريخ المدارس (1/ 555)، شذرات الذهب في أخبار من ذهب (8/ 45)، تاج العروس (31/ 483) وغيرها من المصادر المتفرقة.
وبالمناسبة؛ فإنه توجد ترجمة للشيخ رحمه الله ترجم بها لنفسه، وذكر فيها أحواله كلها، حري بها أن تقرأ ولا تهمل، ولولا خشية الإطالة لذكرتها كاملة هنا.. ولكن أكتفي بالإحالة عليها في كتاب الأخ الفاضل أبو الفضل القونوي " العماديات" فقد ذكرها هناك كاملة وفقه الله وأيده.
([2]) قال ياقوت الحموي في معجم البلدان (2/ 252):
[الحزَّامُونَ]: بالفتح والتشديد: محلّة في شرقي واسط واسعة كبيرة، لها ذكر في التواريخ كثير، كأنها منسوبة إلى الذين يحزمون الأمتعة أي يشدونها، والله أعلم.
([3]) استفدت في هذا الباب من تعداد الأخ الفاضل النبيه أبي الفضل القونوي في تعريفه لمصنفات الإمام الواسطي في كتابه "العماديات" فإن له عناية خاصة بابن شيخ الحَزَّامين.