الجملة الشرطية في الحديث النبوي الشريف / بقلم محفوظ فرج إبراهيم

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ







عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لو أنَّ الناسَ يعلمون من الوحدة ما أعلم ما سار راكبٌ بليلٍ وحده )صحيح أخرجه البخاري 2998 رياض الصالحين 375 رقم 658



ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــ



الحديث الشريف جملة شرطية فعل الشرط فيها جاء بجملة اسمية ( لو أن الناس يعلمون من الوحدة ما أعلم )
وجوابها جملة فعلية منفية ( ما سار راكب بليل وحده ) .
وقد ابتدأ الحديث الشريف بأداة الشرط ( لو)، ويرى أهل المعاني أنها للشرط أي للقطع بانتفاء الشرط فيلزم ذلك انتفاء الجزاء( 1) (فهي أداة شرط تستعمل فيما لا يتوقع حدوثه وفيما يمتنع تحقيقه ) ( 2)
ويرى عبد القاهر الجرجاني أن جملة الشرط في فعلها وجوابها هي جملة واحدة، وكان يقول ( كما لا يخفى في مجموع الجملتين لا في كل واحدة منهما على الانفراد ،ولا في واحدة دون الأخرى )(3) ولذلك فان من الأساليب الأثيرة في بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم هي جملة الشرط لأنها الطريقة المثلى للإيصال ؛إذ أن فعل الشرط ، وجوابه يستوعب الكثير من المعاني التي تتطلب التفصيل ، والإطالة لولا أسلوب الشرط.
ثم إن المتلقي في سماعه لفعل الشرط يكون متشوقا لانتظار جوابه الذي لا يتم المعنى بدونه ، وبذلك تتحقق الوحدة العضوية على امتداد الشرط لتكون كلا واحدا لا يتجزأ ، ولما كان الحديث الشريف جاء بجملة شرطية واحدة أفضت بفصاحته وبلاغته إلى إيحاءات لمعان متعددة في تركيب له دلالات تصب في المعنى العام له ؛ فلو أخذنا
( لو ) التي تصدرت الجملة فسامعها تتداعى في ذاكرته معان متعددة أشربت فيها فإذا كانت هي شرطية في ذلك الموضع فلا شك أن السامع ستخطر في ذهنه معانيها الأخرى كالعرض ، وهو طلب برفق ولين ، والتمني وهو طلب يمتنع حصوله ، والنفي الضمني الذي هو حاصل في الجملة ، وقد يخطر في ذهن السامع حتى ( لو) المصدرية (وددت لو يعلم الناس يعلمون من الوحدة ما أعلم ) .
وحين نتوقف في جملة فعل الشرط ( لو أن الناس يعلمون من الوحدة ما اعلم ) نجد الإيجاز من خلال الحذف لأن تقديرها (لو ثبت أن الناس يعلمون ) فقد حذف الفعل وبقي فاعله المصدر المؤول (أن الناس يعلمون )
والتقدير ( لو ثبت علم الناس ) وهنا أولى للفاعل أهميته القصوى وهو مدار الحديث( 4) ولكي تتحقق استمرارية الحدث ذكر صلى الله عليه وسلم الفعل ( يعلمون ) مسندا يصور حالهم ( لو علموا) ولو في الحقيقة حين تدخل على الفعل المضارع تقلبه إلى الماضي ( 5)
وذلك العلم يكون من الوحدة لنجد (من الوحدة ) تندرج تحتها معان في بنائها وعلاقتها مع ما حولها في السياق .
فهنالك من يجوّز أن تكون (من ) حرف جر زائد يفيد التوكيد داخلة على معرفة* استغرقت جنس الوحدة كله أي وحدة ، وحدة ليل ، وحدة نهار، وحدة في بيت ، وحدة في عراء، وفي ذلك حين تكون ( من ) زائدة في رأي نحوي*( أجاز الأخفش دخولها على المعارف مستدلا بقوله تعالى ( ويكفر عنكم من سيئاتكم ) البقرة 271 بدليل أنه ورد في آية أخرى ( ويكفر عنكم سيئاتكم ) الأنفال 29 / معاني النحو د.فاضل السامرائي ج3 ص80)

تفضي إلى معنى التوكيد وان الوحدة اسم مجرور لفظا منصوب محلا مفعول به . هذا جانب أما إذا كان (من وأل ) بمعنى الجنسية ( 6) (يعلمون من الوحدة ما أعلم ) أي يأخذون درسهم فيما يحسون به من خوف سببه أن هنالك أشياء غير مدركة ترهبهم ولا يرونها (لما سر راكب بليل ) فهي هنا ليست زائدة تفضي في النهاية إلى صورة فنية تنفتح على التشبيه المشبه معنى والمشبه به معنى ( لو أن الناس يعلمون من الوحدة كعلمي ) حين تكون في (ما أعلم) (ما) مصدرية والمصدر الصريح (علمي) ويحتمل التركيب أن (ما) اسم موصول بمعنى الذي أي يفضي إلى معنى أن يصل علمهم إلى علمي .
وحين يأتي جواب الشرط (ما سار راكب بليل وحده ) وهي صورة فنية تنفتح على التصور في سير راكب بليل وحده ) محذرا من خلالها كل إنسان يقطع الليل وحده ؛ وقد أشارت النكرات (راكب ) و( ليل ) المسبوق بالباء حرف الجر الذي يعطي معنى الظرفية لتضيف الرهبة من المجهول الذي لا يعرفه الإنسان .
وفي كل ذلك لوعدنا إلى فعل الشرط ثانية (لو أن الناس يعلمون من الوحدة ما أعلم ) فستجد مفردة الناس متقدمة على الفعل يعلمون ، وهذه المفردة لوحدها جاءت مشعة بالقصد من الحديث الشريف كله ،فحين يتأمل الإنسان فيها ألا يجد أن (الناس) تفضي إلى معنى الأنس والمؤانسة وترك الوحدة .
فضلا عن ذلك لو أخذنا الدقة المتناهية في إشاعة جو موسيقي يطبع في الذاكرة سمو النغم وارتباطه في المساهمة بأن يعلق في فكر الراوي وقلبه ؛ولننظر الى جمال (اللام ) كيف أشاعت انسجاما صوتيا حلوا من خلال توزيعها على مفردات الحديث ( لو) ( يعلمون) ( أعلم ) ( الوحدة ) ( ليل) وكل ذلك من خلال تلاقيها مع أصوات هي الأخرى تكررت كالعين والواو ، كما إن تكرار ( الوحدة ) في نهاية جواب الشرط قد حددت المضمون وأكدته .


محفوظ فرج / سامراء 1430هـ
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ





1 ـ / في النحو العربي نقد وتوجيه د. مهدي المخزومي ص 291
2 ـ في النحو العربي ص 291
3 ـ دلائل الإعجاز عبد القاهر الجرجاني ص 169
4 ـ ينظر شرح ابن عقيل ج2 ص 38
5 ـ شرح ابن عقيل ج2 ص 386
6 ـ ينظر معاني النحو ج3 ص 75 فيما يتعلق ب(من) وفي (أل) ينظر المصدر نفسه ج1 ص 123

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ

درس تطبيقي في تحليل النص /محفوظ فرج من كتابي (من ملامح الصورة الفنية في الأحاديث النبوية: محفوظ فرج إبراهيم / بغداد ، دار الأرقم ، مجمع باب المعظم 1430هـ