من القواعد المهمة في فهم النصوص عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو مراعاة الفارق بين التأصيل والتطبيق ..

إنّ التأصيل هو كلام عن فكرة مجرّدة يُراد منه ترسيخ معنى معيّن ، ولهذا يُستخدم في سبيل ذلك التعميمات والعبارات القويّة .. والهدف تربوي كما هو واضح ..

لكن عندما نأتي إلى التطبيق فإنه تدخل عوامل أخرى تجعل من تعامل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يبدو لأوّل وهلة مخالفا لقوله .. لكنّ الأمر غير ذلك ، فالتطبيق لا يتدخّل فيه نص واحد بل نصوص ، ولا يُراعى فيه عامل واحد بل عوامل .. ذلك لأنّه يتعامل مع شيء محسوس ولم يعُد شيئاً تجريدياً، هذا من جهة ، ولأنّ ظروف الواقع متعددة متغايرة .. فلكل مقام مقال ، ولكل حال حال ..

أقول : وما أكثر ما أوقعنا أنفسنا في مضايق بسبب الجمود والتصلّب والتمحور حول مفاهيم منشؤها فهم مغلوط أو توجيه مضطرب لقول صادر عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، بل ولبعض الآيات القرآنية التي أخذت هكذا منزوعة الصلة بمجمل حياة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وتطبيقه لها فأّدّى بنا ذلك إلى كوارث عبر التاريخ ونحن الآن نكابد الكبَدَ في التخلّص من أثر بعض الاجتهادات التي يؤجر أصحابها لاجتهادهم وحسن قصدهم لكنّا نوزر إن علّمنا الله غير ذلك وتركنا الأمر على حلّه دون تدخّل .

وسأضرب لذلك مثلاً :
موقف القرآن والسنة من اليهود ، فكم بيّن الله تعالى من مكرهم وخبثهم وكراهيتهم للمؤمنين ، بل جاء اللعن صريحا بحقهم في مواضع متعدّدة ، كلّ هذا هدفه تبغيض حالهم وأخلاقهم إلى المؤمنين والتحذير من اتباع طريقتهم ، وجاء كذلك وصف الله تعالى المؤمنين بقوله: {أشدّاء على الكفار رحماء بينهم} . وهذا كله لو أخذناه بتجرّده فمعناه أنّ المطلوب من المؤمن غاية الشدّة من اليهود ، لأنّهم كفار في الجملة ولخاصة شأنهم كونهم أشدّ الناس عداوة للمؤمنين ، أليس كذلك ؟

لكنّ التطبيق الواقعي لم يكن كذلك ، خذ مثلاً هذه الحادثة التي رواها أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن اليهود دخلوا على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالوا : السام عليك ، فقال النبي ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ: وعليكم فقالت عائشة : السام عليكم يا إخوان القردة والخنازير ولعنة الله وغضبه فقال: مه يا عائشة ! فقالت : يا رسول الله ! أما سمعت ما قالوا ؟ قال : أو ما سمعت ما رددت عليهم ؟ يا عائشة ! لم يدخل الرفق في شيء إلا زانه ولم ينزع من شيء إلا شانه).

فانظر كيف عامل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الكفار في هذه الواقعة مع أنّهم أخطأوا وسبّوه إلاّ أنّه رفق بهم .. لماذا ؟ تأمّل بنفسك ..

مثال آخر :

موقف الإسلام من الخمر وشارب الخمر ، حتى جاء إنّه لا يدخل الجنة ، وجاء أنه إذا لم يتب لا يُسقى منها في الجنة ، وجاء نفي الإيمان عنه ، وجاء في القرآن قوله تعالى : {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه}وجاء تفسيره في السنة بأنّ الرجل كان يلقى الرجل على منكر فينكر عليه ، فلا يمنعه ذلك من الغد أن يكون جليسه .الخ

ومع هذا فلمّا جاء التطبيق الواقعي فإذا فيه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان له صاحب اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَلْعَنُوهُ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وسياق النص يدل على أنّه كان مدمنا ومع هذا كان مجالسا للنبي صلّى الله عليه وسلّم ..

إخوتي الكرام :

والنصوص كثيرة وإنّما أردت أن أدلف من هذا إلى الثمرة ممّا سبق :

إنّ النصوص العامة الّتي تأتي من ألأئمّة في ذمّ المبتدعة والابتداع والتحذير منهم ومن مجالستهم كلّ هذا حق وصدق وهو من لباب المنهج الإسلامي السلفي ..
لكن التطبيق والامتثال تتحكم فيه عوامل أخرى ذكر طرفا منها الشيخ علي في كتابه ..

وهذا كلّه اجتهادي .. تختلف فيه الأنظار والفهوم ..

فإذا علمنا الرجل أصوله سلفيّة ومنهجه سلفي فلا يجوز تصنيفه وتبديعه واتهامه لمجرد موقف يقفه من شخص ما ، يراه البعض مبتدعاً ويراه هو غير ذلك ..

أو يتفقون على أنّه مبتدع لكنه يخالف في الموقف منه ..

فالأمر كما قال الشاطبي رحمه الله بعد أن ذكر بعض الأحوال والعقوبات : (وكل من هذه الأقسام له حكم اجتهادي يخصّه) ..

فقد أصرّح للخاصة من طلبة العلم بموقف من شخص .. لكني لا أجهر بهذا القول وإنّما أحتاج إلى مداراته أو مداراة أتباعه أو مداراة العامة ..كما جاء أن رجلا استأذن على النبي فلما رآه قال : (بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة) فلما جلس تطلق النبي في وجهه وانبسط إليه فلما انطلق الرجل قالت له عائشة يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه فقال رسول الله : (يا عائشة متى عهدتني فحاشا إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره ) .

فإذا سمعنا من شخص كلاما فيه مداراة لمبتدع أو حسن تعامل فلا نعجل باتهامه فقد يكون ذلك لمصلحة رآها وقدّرها قد نتفق معه أو نخالفه لكن لا نجعل ذلك فارق بين السلفيين ..

ولله الأمر من قبل ومن بعد ..