يقول مرسيا إلياد العلامة في تاريخ الأديان والمعتقدات: «إن المقدس هو عنصر في بنية الشعور، وليس مرحلة في تاريخ هذا الشعور، وعلى المستويات الأكثر قدما من الثقافة فإن العيش بصفة كائن بشري هو في ذاته عمل ديني، لأن التغذية والحياة الجنسية والعمل.. لها -جميعاً- قيمة مرتبطة بالأسرار». وبعبارة أخرى «أن تكون أو أن تصبح إنساناً يعني أن تكون متديناً». (تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية، ترجمة عبد الهادي عباس) «فالتدين عنصر أساس في تكوين الإنسان، والحس الديني إنما يكمن في أعماق كل قلب بشري؛ بل يدخل في صميم ماهية الإنسان، مثله في ذلك مثل العقل سواء بسواء». كما يشدد على ذلك ولتر ستيس في كتاب (الزمان والأزل: مقال في فلسفة الدين، ترجمة فؤاد زكريا). وهذا ما يؤكده وجود ذلك النزوع الطافح في أعماق الإنسان نحو الغيب المقدس والإيمان به, وتلك الرغبة المتأصلة في التوجه إلى مطلوب مجهول لدى الحواس، معلوم بالحدس لدى العقل والشعور والإحساس. هكذا آمن الإنسان على مر التاريخ فطرة بالإله؛ حيث امتلأ بمشاعر الرهبة والرغبة والروعة من آثار العظمة التي تسربل بها الكون من حوله، فتدفق تيار الدهشة منساباً من أعماقه لما شاهده من إشراقات الجمال والبهاء، فسالت أحاسيس الإنسان منذ القدم معبرة عن جمال إلهه الذي يعبده ويقدس ذاته المتوشحة بإزار الجلال الرهيب، وهو إحساس فطري نبيل رغم المظاهر الخاطئة التي تشكل بها، والشعائر المبتدعة التي اجترحها، إلا أن ذلك الجمال والجلال وتلك القداسة لابد لها من قربان يليق بمستواها الرفيع المقام. وأعز قربان إلى جانب القرابين المادية وأعلى منها هو تلك المشاعر والأحاسيس الراغبة الراهبة التي تتفجر لغة ندية تسري فيها شعلة الشوق المتأجج ونبض الروح الوالهة المتخشعة في محراب إلهها، والصاعدة في معراجه المقدس.
وقد تحملت اللغة الإنسانية عبء التعبير عن ذلك جميعه، مع حرص الإنسان منذ القدم على أن تكون تلك اللغة خاصة لا تشوبها ركاكة وسذاجة الاستعمال اليومي المبتذل، وألاّ تلطخ بتمريغها في الأفواه التي لا تحسن المناجاة الحارة، ولا تفي بطلاقة الروح في أشواقها واندفاعاتها الغامرة، فهي لا تؤتمن على قداسة تلك اللغة وما يسري فيها من جمال متألق تألق الروح، وسحر أخاذ كسحر المشاعر التي تفرز إكسيرها في الذوات..
تلك اللغة التي تشدو الوفاء لقداسة الكائن الأعلى (المطلوب/المؤله) لتنال رضاه وإجابته. ولذلك لا غرابة حين يخبرنا التاريخ أن الكهان والرهبان كانوا هم المؤتمنون على تلك اللغة والحاملون لأسرارها؛ بل ومبدعو الكثير من صورها وتراكيبها التي تفي بإيصال وتبليغ أشواق الروح إلى ذلك المقام المقدس المرغوب في رضاه ونواله، فلا يليق بالمقام المقدس إلا أشواق مقدسة تسري في لغة مقدسة، ولا عجب أيضاً أن تنبثق من رحم المعابد الأولى أجمل الروائع اللغوية أسلوباً، حيث فيض العاطفة وسيولة المشاعر، رغم التصورات الخاطئة والمعتقدات المنحرفة التي تتفجر منها وتعبر عنها في نفس الوقت وتحتضنها، بل إن المعابد نفسها بنيت استجابة لرغبة روحية عارمة وحمية دينية فوارة لتعظيم إله أو آلهة مقدسة، ولذلك امتازت في هندستها بأسلوب ينم عن الجمال، كما يشعر بالجلال والرهبة، ومن ثم اعتبرت من آيات الفن الإنساني النابع من بوتقة الروح الدينية، بل لا دهشة تعتريك حين تلحظ هذا التماهي الشديد بين الكاهن والشاعر، فمن جبة الأول نجم الثاني، وبلسان الأخير ترنم الأول، وحافظ الشاعر على كثير من أصول الكاهن وطقوسه، رغم انفصاله عنه عبر أحقاب التاريخ وإن تغيرت الوجهات وتنوعت مسارب التصورات واختلفت دواعي القول والتعبير وأشكالهما.
ولعل هذه الحقيقة المبثوثة تفاصيلها في زبر التاريخ وآثاره هي التي جعلت جماً غفيراً من العلماء والباحثين يربطون بين الفن والغيب أو بين الإبداع والدين؛ نظراً لتلك الصلة المدهشة بين أبجديات الفن والإبداع الأولى، وبين النزوع إلى الغيب المقدس ومحاولة الاتصال به،سواء أكان حقيقة أم وهماً متخيلاً. ولعلنا نسوق بعض الآراء والمواقف بين يدي القارئ ليستأنس بها، ويتأكد من ثبات هذه الحقيقة وقوة رسوخها، رغم اختلاف أصحابها وتباين الأزمان بينهم. فهذا أفلاطون في محاورة «إيون» يصف الفنان بأنه «ملهم ومجذوب، ذلك لأن الشاعر نوراني ملائكي مقدس، وهو يغيب عن حواسه ولا يعود للعقل وجود فيه» (جيروم ستولنيتز، النقد الفني، ترجمة فؤاد زكريا). ويقول جاك ماريتان: «الشعر هو ثمرة الصلة بين الروح والحقيقة وبين مصدرهما: الله». ويقول رونالد دي بنيفيل: «لقد انبثق الشعر كوعي مباشر بذلك السر الكبير الذي نتساءل عنه.. حياتنا، وقد سيطر عليها لغز كوني»، ويقول جايتان بيكون: «الفن كخلق وعلى الأخص الشعر كطريقة للوجود يكدح جاهداً لكي يكون بديلاً عما هو مقدس. إن الشعر سواء ظهر كمعرفة أو أسلوب حياة أو هما معاً، يرتفع بالإنسان فوق ظروفه الإنسانية ليصبح مهنة مقدسة» (علي بيجوفتش، الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة محمد يوسف عدس). ويقول نيتشه: «إن الفنان ليس إلا تجسيداً لقوى عليا، وناطقاً باسمها، ووسيطاً لها، فالمرء يسمع ولا يبحث، ويأخذ ولا يسأل من الذي يعطي، والفكرة تومض كالبرق وتبدو كأنها شيء لا مفر منه، فلم يكن لدي أبداً خيار» (جيروم ستولنيتز، النقد الفني). ويعتقد شيلي «أن الشعر كشف الغمام حقاً، وأن الشاعر ينقل للناس رسالة من عند الله» (جان برتليمي، بحث في علم الجمال، ترجمة أنور عبدالعزيز). ولعل هذه المعاني تزداد وضوحاً إذا أنت راجعت تاريخ الفنون بحيث تكتشف بيسر أنها ولدت وترعرعت في أحضان المعابد الدينية الأولى، واستمدت نسغها من التصورات العقدية الخاصة بكل أمة أو قبيلة، فالدراما ذات أصل ديني وكانت أوائل المسرحيات الدرامية طقوساً ظهرت في معابد مصر القديمة منذ أربعة آلاف سنة، «انبثقت الدراما الإغريقية من أغاني الكورال في تكريم الإله ديونيسوس. لقد كانت الرسوم الأولى والتماثيل والأغاني والرقصات جزءاً من الشعائر، وعندما رسم الإنسان البدائي الحيوان الذي يعتزم صيده -فيما سمي سحر الصيد- كان هذا نوع من العبادة صلوات لكي ينجح في مهمته.. وظهر الباليه الياباني القديم المسمى جيجا كو إلى الوجود -وفقاً لاعتقاد اليونانيين- عند خلق الكون، وكانت هذه المسرحيات القديمة مزيجاً من الغناء والرقص والتعبير الحركي الصامت، يستعرض بطريقة رمزية الحياة الآخرة لأرواح الموتى، وحين نشر جابرييل زايدا مختارات من أشعار هنود المكسيك، قال في مقدمتها مؤكداً: «إن الصفة المشتركة العامة للشعر عند هنود المكسيك، هو رمزية الحياة الخالدة والعلاقة مع الطواطم من نبات أو حيوان أو ظواهر طبعية، تتحول دائماً إلى طقوس سحرية أو دينية» (علي بيجوفتش، الإسلام بين الشرق والغرب).
ولم يخل العرب من مثل هذه الإشارات عن حقيقة الفن، وخصوصاً تجليه الأكمل في الشعر، فقد كان اعتقادهم راسخاً في ارتباط الشاعر بالمغيبات الدينية التي يمثلها الجن -شياطين/ملائكة- ومن نماذج هذا الاعتقاد قول النابغة الذبياني:
بحسبك أن تهاض بمحكمات
يمر بها الغوي على لساني
فقد جمع في هذا البيت طبيعة الشعر = كلام محكم + رسالة الشعر= سلاح يضعف الخصوم + مصدر الشعر= غيبي/الغوي/الشيطان (حسن الإمراني، الملتقى الدولي للأدب الإسلامي، مجلة المشكاة). ويقول الأعشى بوضوح وتفصيل أكثر:
وما كنت ذا خوف ولكن حسبتني
إذا مسحل يسدي لي القول فافرق
شريكان فيما بيننا من هوادة
صفيان إنسي وجن موفق
يقول فلا أعيا بقول يقوله
كفاني لا عي ولا هو أخرق
«فشيطان الأعشى يدعى مسحلاً، كما أن شيطان عبيد بن الأبرص يدعى هبيداً، وصاحب امرئ القيس لافظاً، وصاحب النابغة يدعى هادراً» (محمد البهبيتي، المعلقات سيرة وتاريخاً). ونزيد الأمر توضيحاً حين نعلم بأن لفظ الجن يطلق ويراد به الشيطان أو الملاك. يقول ابن دريد في جمهرة اللغة في مادة جن: «الجن خلاف الإنس، ويقال جنة الليل وأجنة وجنّ عليه وغطاه، وكل شيء استتر عليك فقد جن عليك. وكان أهل الجاهلية يسمون الملائكة جناً لاستتارهم عن العيون». وإذا راجعنا سجلنا الإسلامي وجدنا أن الإنسان المسلم عموماً والشاعر خاصة يستقبل وحياً أو إلهاماً من عالم الغيب، وصفته أنه حق وصدق، لا وهم وحمق، لذلك يقول الرسول عليه السلام -يحض شاعره حسان على مواجهة أعداء الرسالة-: «اهجهم وروح القدس معك» ويقول حسان رضي الله عنه مؤكداً هذا المعنى:
وقافية عجت بليل رزينة
تلقيت من جو السماء نزولها
يراها الذي لا ينطق الشعر عنده
ويعجز عن أمثالها أن يقولها
بل إن صدى هذه المعاني مازال يتردد إلى عصرنا حيث يقول أمير الشعراء شوقي في ديوانه:
شعر من النسق الأعلى يؤيده
من جانب الله إلهام وإيحاء
من كل بيت كآي الله تسكنه
حقيقة من خيال الشعر غراء
وإذا فتحت ديوان الشاعر الكبير علي محمود طه، فسيواجهك أول نص فيه بعنوان «ميلاد شاعر» يقول في مبتداه:
هبط الأرض كالشعاع السني بعصا ساحر وقلب نبي

لمحة من أشعة الروح حلت في تجاليد هيكل بشري

ولعلنا نلمح جذوة تلك الحقيقة الراسخة منذ القدم لا تزال بوهجها فعالة في عصرنا الحاضر، وإن تشكلت بلبوس جديد وزي مختلف، فكل شاعر أو كاتب أو فنان ينطلق من شعور عميق بتقديس ما ينطلق منه أو يقوم به، سواء كان المقدس إلهاً بحق أم باطلاً، أو كان مبدأ نذر الوفاء له أو وطناً أو فكرة معروفة أو شاذة، أو ربما يطوف حول كعبة المال أو الشهرة، أو توثين الذات وتضخيمها (عبادة الذات). وكل ذلك رجع صدى لتلك الحقيقة القديمة الراسخة منذ وجد الإنسان في جميع مراحله التاريخية، فالإبداع ينبجس أساساً من الإحساس بالمقدس كما يراه المبدع أو الفنان.
لقد أتينا على ذكر هذه الشواهد المتنوعة المبينة وهي قلة من كثرة؛ لتأكيد تلك العلاقة بين الفن والدين، بين الإبداع الإنساني والإلهام الغيبي، وهي شواهد تواطأت تواريخ كل الشعوب على تسجيلها، من خلال تصورات ومعتقدات، وما يعبر عنها من فن، تحتضن في نواتها أصولاً مشوهة أو محرفة المعنى عن تلك الحقيقة الغيبية التي فطر عليها الإنسان الأول، والتي ورثها أبناؤه من بعده، بيد إنه مع طغيان النسيان من جانب واضطراب الأهواء والمصالح ومخلفات التدافع والصراع؛ أهيل عليها ركام من التصورات الخاطئة، فكانت تشع فيما أبدعه الناس على مختلف أجناسهم وتقاليدهم من فنون شتى. وبما أن الشعر خاصة خرج من حنايا المعابد فقد حمل تلك التصورات بحقها وباطلها في ثنايا لغة ذات خصائص فنية عالية/مقدسة، وأشاعها بين الناس، وتغنى بما تبعثه من أشواق ورؤى ومواقف حتى غدا أساساً شديد المراس من أسس المعرفة عند كل الشعوب والحضارات. هكذا يتجلى لنا أن منبع الفنون عموماً والأدب خاصة يتصل بحقائق دينية عميقة في فطرة الإنسان وبنيته الروحية والنفسية، وتتجلى في كثير من نشاطاته خصوصاً نشاطاته اللغوية التي تنتمي إلى عوالم أدهشت المفكرين والعلماء والأدباء إلى الآن.





منشور بمجلة المجلة العربية . العدد :403