جود على الأصنام وبخل على الأيتام
أتُرى هذه القبورَ المشيّدةَ كالقصور المتلألئة بالنّور ، الفيّاضة بالعُطور ، تُثيرُ في النّفس مشاعر العظة والعبرة ؟ أم تُراها تُثيرُ في نفس الفقير الحسرةَ الأسيفةَ الكَئيبةَ على دُنياه ، إذ يرى نفسَه ( وَهُو السّاغب اللاّعبُ ) لا ينالُ من دُنياه بعضَ ما يملك هذا الهامدُ المقبورُ من كنوز وقصُور ؟! إنّه يَكدُّ لياليَهُ ، ويكدحُ أيّامَهُ ، ويتوسّلُ بذُلّ الفقر إلى القلوب فلا يستشعرُ ندى عطف أو حنان ، وهنا يرى الجموعَ الحاشدةَ تُلقي بأحمال الفضّة والذّهب من دُنياها بين يدي هذا الميْت البالي ، ويسوقون إلى أعتابه ( في ذُلّ الضّراعة ) سمَان البدن والأنعام .
إنّ هذا الفقيرَ يتلهفُ أحيانا على تذوّق مُضغة من لحم تُشعره مرّة أنّه يأكل مثلَ ما يأكل النّاسُ ، فلا يجد من شدْقَيه إلا لسانه هو يمضغه ويلوكه ، وهنا يرى الذبائح مكدّسة على أعتاب هذا الجسد الذي بدّده البلى في جوفه السّحيق !!
أتذكّرُ هذه القبابُ بالآخرة وفيها تتبرّجُ الدّنيا بترفها الفاتن المفتون ؟
أم تُراها تُذْكي لَظَى الحقد في قلوب اليتامى ، وتؤجّجُ الضّغنَ في نفوس الأيامى على أولئك الذين يحشدون للأصنام كلّ غال وثمين ، في حين يرجمون الأحياء وهم يستغيثون بالدّموع في سبيل لقمة يعافها الكلبُ أضواهُ الهزالُ ؟!!
لقمة تنعشُ بدف الحياة هذه الأشباح الهزيلة المقرورة التي يعصفُ بها زمهريرُ الموت وهم أحياء ؟!
هنالكَ يا عبيدَ القبور تحت الأطلال البالية (حيثُ ينعبُ البُومُ ، وتعصفُ السافياتُ ، ويخمدُ الشّعور بالحياة ، وتصطرخُ أشباحُ الرّدى بالفزع الرّهيب ، وتقبعُ دياجيرُ اللّيل فوق تلك الأطلال ) هنالك موتى الاحياء يُتْرَعُونَ الذّلَّ ، ويقتاتون بالفواجع ، ويسمرون بالجراح ، ويحلمون بالمآسي الدّامية ، وهنا تحت وهج النّور ، وشَعْشَة البخور ، وتبرّج الدّنيا بالفتون ، تعيش هذه الأجساد الهامدة في القبور ، حيثُ تتزاحمُ الدّنيا بترفها وشهواتها ، وثرائها الطّويل العريض على أعتاب أضرحتها !
فيا أسفي على يتيم تُوَصْوصُ فيه لمحات الحياة ، ويَسْتَصْرخُ القلوب ، فتصرف عنه رحمتها ! ويا عجبا لجسد بال تَضْرَعُ بالعبادة إليه هذه القلوب !!
أفواه أحياء جفّت من السّغب ، وتهدّلت ألسنتها من الغليل ، وثَمَّ أفواه أطبقها الموتُ على الصّريخ من رهبته ، وجماجمُ سلّط عليها البلى دُودَهُ الظّالمَ المنهومَ ، ولكن يأبى النّاسُ إلا حشوَ تلك الأفواه ، وهذه الجماجم بالفضّة والذّهب ، في حين يرجمون نفوسَ اليتامى الأحياء باللّعنة والغضب !!
فأينَ هذا من دين الله يا عبيدَ القبور ، وأحلافَ الموت والعدم ؟ !!
بيراع ربيع بن المدني من كتاب [دعوة الحق 177 . 178 ] للعلاّمة المصري عبد الرحمن الوكيل طيّب الله ثراه ...