وقال الإمام الشاطبي مؤصِّلا ومفصِّلا: "اعلم أن القواعد الكلية هي الموضوعة أولا، والذي نزل بها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم تبعها أشياء بالمدينة، كملت بها تلك القواعد التي وضع أصلها بمكة، وكان أولها الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، ثم تبعه ما هو من الأصول العامة كالصلاة وإنفاق المال([1])وغيرِ ذلك، ونُهيَ عن كل ما هو كفر أو تابع للكفر، كالافتراءات التي افتروها من الذبح لغير الله وللشركاء الذين ادَّعوهم افتراء على الله، وسائر ما حرموه على أنفسهم، أو أوجبوه من غير أصل، مما يخدم أصل عبادة غير الله. وأُمر ـ مع ذلك ـ بمكارم الأخلاق كلها: كالعدل والإحسان، والوفاء بالعهد، و أخذ العفو، والإعراض عن الجاهل،والدفع بالتي هي أحسن، والخوف من الله وحده، والصبر والشكر، ونحوها، ونهي عن مساوئ الأخلاق من الفحشاء، والمنكر، والبغي، والقول بغير علم، والتطفيف في المكيال والميزان، والفساد في الأرض، والزنا، والقتل، والوأد، وغير ذلك مما كان سائرا في دين الجاهلية.
وإنما كانت الجزئيات المشروعات بمكة قليلة، والأصول الكلية في النزول والتشريع أكثر."([2]).
فهكذا تسلسلت آيات القرآن وانبثقت أحكامه، وهكذا تأسست قواعد الشريعة وانبنت فروعها؛ بدأت بشهادة لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن القرآن كلمة الله، ثم تقررت بقية الأصول الإيمانية، وفي مقدمها الإيمان بالبعث والنشور، والحساب والجزاء..


ثم تتابعت المعتقدات التكميلية لتوسع وتعمق من معرفة الناس بربهم وبالغاية من خلقهم وبالعوالم الظاهرة لهم أو المغيبة عنهم...
وبناء على ذلك وبجانبه جاءت الكليات التي تحدد القيم والمثل العليا والغايات والمقاصد العامة للحياة البشرية، مع التطرق أيضا إلى أمهات المفاسد وأصول الانحرافات التي تهدد الإنسان، من عقدية وفكرية ونفسية وسلوكية...
ثم جاءت بعد ذلك بعض الكليات والقواعد التشريعية والتنظيمية للعلاقات البشرية، الفردية والعائلية والجماعية.
وبعدها بدأ تنزيل بعض التوجيهات والتكاليف العملية لكن بصورة مبدئية تمهيدية، وكان هذا أواخر المرحلة المكية، بين يدي الانتقال إلى المرحلة المدنية التي شهدت غزارة في الأحكام التفصيلية والضوابط التطبيقية، مع الاستمرار في تأكيد بعض الكليات وتكميلها والتذكير بها.
فهذه هي الأصول والكليات التي أُحكمت، ثم فصلت، على النهج المشار إليه في قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 24].
ففي البدء كانت ( الكلمة الطيبة )، أي العبارة الأساسية الكلية الجامعة. وعامة المفسرين على أن المقصود بها ( لا إله إلا الله ).ثم تلاها وخرج من رحمها ما يرسِّخ أصلها ويغذيه ويقوي رسوخه في القلوب والعقول والنفوس. ومن هذه وتلك تنبثق الأغصان والفروع والأوراق والثمار... "هكذا في دورة تشريعية معجزة، لا أجد لها تشبيها إلا تلك الدورة الفلكية أو دورة الزروع والثمار المعجزة في الخلقة، التي تظنها قد تقف فينقطع عطاؤها، فكلما طاف بك طائف من شك، أبصرتها تنطلق في دورة جديدة تبدد تلك الشكوك..."([1]).
وعموما يمكن القول: إن الكليات والمحكمات القرآنية قد تكفلت بإرساء الأساس الفلسفي المرجعي، الذي ينبثق منه التشريع الإسلامي، وأن الشريعة الإسلامية قد تفصلت فروعها وجزئياتها، بعدما تأصلت أصولها وكلياتها ( أحكمت...ثم فصلت).
ومما يجدر التنبيه عليه، كون هذه الأصول والكليات ليست على درجة واحدة، لا من حيث كليتها وعمومها، ولا من حيث رتبتها وأولويتها، بل بعضها أولى وأعلى، وبعضها دون ذلك، وبعضها أعم وأشمل، وبعضها دون ذلك. وقد يكون بعضها مندرجا في بعض، وبعضها متفرعا عن بعض. وكذلك يقال في الجزئيات، فمنها جزئيات كبرى تنطوي على غيرها، ومنها جزئيات صغرى تنطوي في غيرها. فالجزئيات الكبرى قد تكون بمثابة كليات لعدد كبير من الجزئيات الصغرى، المتفرعة عنها أو المتعلقة بها.
فإذا أخذنا على سبيل المثال قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [النحل: 90]، نجد فيه الأمر بقضيتين كليتين كبيرتين، هما " العدل والإحسان ". إذ هما تشملان كل شيء وتدخلان في كل شيء، فما من مجال، وما من عمل قلبي أو حسي، إلا ويدخله العدل والإحسان، وما من قول يقوله الإنسان، إلا ويدخله العدل والإحسان، وهما مطلوبان ومأمور بهما في كل المجالات وفي كل الحالات وعلى كل الأحوال.
ثم نجد الأمر "بإيتاء ذي القربى"، وهي قضية جزئية، بدليل أنها داخلة في العدل والإحسان، فإيتاء ذي القربى هو جزء ـ أو جزئي ـ ضِمنَ العدل وضمن الإحسان، ولكن هذا الجزئي يمثل قضية كلية بالنسبة إلى ما ينبثق عنه ويندرج فيه، مثل بر الوالدين، وصلة الأرحام، والإنفاق الواجب أو المندوب على الأقارب المحتاجين، والوصية للأقربين غير الوارثين، وإعطاءِ غير الوارثين عند اقتسام التركة بين الورثة، وتقديم الهدايا للأقارب في مختلف المناسبات، ومواساتهم عند المحن والنكبات...
وفي الجهة الأخرى نجد في الآية النهي عن قضيتين كبيرتين هما "الفحشاء والمنكر"، وهما تجمعان كافة الشرور والمفاسد، ما ظهر منها وما بطن، في المعتقدات والعبادات والمعاملات، بين الأفراد والجماعات.
ثم نهت الآية عن "البغي"، وهو داخل في الفحشاء والمنكر، فهو مسألة جزئية لهما، ولكنه يمثل قضية كلية لما يندرج فيه من أنواع البغي وحالاته وأشكاله وجزئياته التي لا تنحصر.