المبحث الثاني

آيات القرآن بين الإحكام والتفصيل


يقول الله عز وجل في مطلع سورة هود: {الَـركِتَابٌأُ ْكِمَتْآيَاتُه ثُمَّفُصِّلَتْ ِنلَّدُنْحَكِي ٍخَبِيرٍ}[سورة هود: 1]
فمجموع القرآن الكريم هو عبارة عن آيات أحكمت، ثم فصلت آيات، تَـم إحكامها، ثم وقع تفصيلها، وكل ذلك من لدن حكيم خبير، فهو الذي أحكم المـحْكمات بحكمته، وفصل المفصَّلات بخبرته.
وقد ذكر الله تعالى أن آيات القرآن منها آيات محكمات،وأنها هي عمدة الكتاب العزيز، وذلك في قوله سبحانه:{مِنْهُآي َاتٌمُّحْكَمَات ٌهُنَّأُمُّالْك ِتَابِوَأُخَرُم ُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]
قال العلامة ابن عاشور:" صِنفُ المحكمات يتنزل من الكتاب منزلة أمِّه، أي أصْلِه ومرجعه الذي يُرجع إليه في فهم الكتاب ومقاصده"([1]). وقال أيضا: "فالمحكمات هي أصول الاعتقاد والتشريع والآداب والمواعظ))([2]).
فالآيات المحكمات هي أصول وأمهات لغيرها، مما يندرج فيها أو يتفرع عنها أويخضع لها، من التفصيلات والجزئيات والتطبيقات. فمجمل الدين وشريعته مؤسَّس على هذه المحكمات الكليات ونابع منها.
والقرآن الكريم باعتباره الأصل الأول والمرجع الأعلى للإسلام وشريعته، لا بد وأن يكون هو مستودع هذه الكليات الأساسية ومنجمها، ولابد أن تكون هذه الكليات مقدمة في الترتيب والاعتبار، كما تشير إلى ذلك الآيتان من سورة هود،

وسورة آل عمران (أحكمت.... ثم فصلت)، (منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات...).
بل حتى في التنزيل والتبليغ، جاءت الآيات المحكمة الكلية سابقة على آيات الأحكام التفصيلية، فالقرآن المكي بدأ تركز بالدرجة الأولى على الكليات والمبادئ والأحكام العامة. ثم بدأ يتطرق إلى بعض الأحكام العملية غير المفصلة، أواخر المرحلة المكية، وأما الأحكام التفصيلية والتطبيقية فقد تأخر نزول معظمها ـ أو كلها تقريبا ـ إلى المرحلة المدنية وإلى القرآن المدني، ثم جاءت بدرجة أكثر تفصيلا في السنة النبوية.
يقرر ذلك الإمامُ ابن تيمية ويوضحه من خلال هذا المثال: "وقد استدل كثير من المتأخرين من أصحابنا و غيرِهم على وجوب تطهير الثياب بقوله سبحانه {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}، حمْلاً لذلك على ظاهر اللغة التي يعرفونها؛ فإن الثياب هي الملابس، و تطهيرها بأن تصان عن النجاسة و تُجنَّبَها، بتقصيرها و تبعيدها منها، و بأن تماط عنها النجاسة إذا أصابتها. و قد نُـقل هذا عن بعض السلف، لكن جماهير السلف فسروا هذه الآية بأن المراد: زَكِّ نفسك و أصلح عملك. قالوا: و كَنَّى بطهارة الثياب عن طهارة صاحبها من الأرجاس و الآثام، و ذلك أن هذه الآية في أول سورة المدثر، و هي أول ما نزل من القرآن بعد أول سورة اقرأ. و لعل الصلاة لم تكن فرضت حينئذ، فضلا عن فرض الطهارة التي هي من توابع الصلاة. ثم هذه الطهارة من فروع الشريعة وتتماتها، فلا تفرض إلا بعد استقرار الأصول والقواعدِ كسائر فروع الشريعة، وإذ ذاك لم تكن قد فرضت الأصول و القواعد.
ثم إن الاهتمام في أول الأمر بجُمَل الشرائع و كلياتها دون الواحد من تفاصيلها و الجزءِ من جزئياتها هو المعروف من طريقة القرآن، و هو الواجب في الحكمة. ثم ثياب النبي صلى الله عليه وسلم لم تعرض لها نجاسة إلا أن تكون في الأحيان، فتخصيصها بالذكر دون طهارة البدن و غيره، مع قلة الحاجة و عدم الاختصاص بالحكم في غاية البعد. الى فرصة اخرى بحول الله