بسم الله الرحمن الرحيم

أنا لست ناقدا لكنني كتبت ما أراه حول تشابه لقصيدتين، وأرجو أن ترشدوني ربما أكون مخطئا في ملاحظاتي، إليكم ما كتبته:

تحدَّث النقَّاد العرب عن السرقات الشعرية، وهي كلمة تحمل من الإثارة الإعلامية أكثر مما تحمل من الدقة العلمية، فالسرقة ربَّما تصدق على الإغارة أو الغصب كما يُحكى عن الفرزدق من أنه كان إذا أعجبه بيت غصبه من قائله ورُوي له دونه ، ومن يفعل ذلك إنما " يرى نفسه أولى بذلك الكلام من قائله " ، وأمَّا ما سوى ذلك، فمجال القول أوسع من الوصم بالسرقة، وإذا كان لا يخلو عمل أدبي من آثار لأعمال سابقة، فليس يُعاب ما يوجد من الجميع بلا استثناء.



وقد تفنَّن النقَّد العرب في تقسيم السرقات وتفريعها، فممَّا ذكره ابن رشيق من المصطلحات: الاصطراف، والاستلحاق، والانتحال، والاسترفاد، والاهتدام، والملاحظة، والإلمام، والاختلاس، والموازنة، والعكس، والمواردة، والتلفيق، وهذه الأقسام والفروع تتعلق باعتبارات عدَّة، كاللفظ، والمعنى، وبنية الكلام، ومقدار المأخوذ، والمعاصرة وعدمها.



ضمن هذا السياق تعجَّبت كثيرًا حين قرأت قصيدة بعنوان "بسمة"، كتبها صالح الشاعر، ومنشأ تعجبي أنني أحسست فيها بجمال بسيط، غير معتاد، هو ذلك النوع الذي يذكرك بشيء ما محفور في داخلك لكنك لا تعرف ماهيته ولا تدرك كنهه، دعونا نرى أولا ماذا قال الشاعر:



بَسْمةٌ لا تَزالُ في خاطِرِ الكَوْنِ
ولا زالَ سِرُّها مَجْهُولا
وَسَتَبْقَى يَحْكُونَ عَنْها حَكايا الحُبِّ
جِيلاً في العاشِقِينَ فَجِيلا
فَبِها أَصْبَحَ الكَلامُ عَبِيرًا
وبِها أَصْبَحَ الجَمِيلُ جَمِيلا
*
مَنْ رَأَى بَسْمَةً تَرُوقُ كَهَذي؟
أَتَحَدَّى .. فَما رَأَيتُ مَثيلا!
حِينَما أَشْرَقَتْ هَدَتْ كُلَّ قَلْبٍ
وَأَضَلَّتْ لِلْعاشِقِينَ عُقُولا
*
الكَلامُ انْتَهَى .. وَلا شِعْرَ عِنْدِي
واصِفًا حَقَّ وَصْفِها لأَقُولا
فَاعْذُرِيني .. فَكُلُّ ما كانَ عِنْدِي
صارَ بَهْرًا .. وَدَهْشَةً .. وَفُضُولا
*
أَنا مُنْذُ ابْتَسَمْتِ صِرْتُ أَسِيرًا
أَحْسِني وَارْحَمِي أَسِيرًا نَبِيلا
وَانْثُري ذلكَ الشُّعاعَ عَلَى الكَوْنِ
ضِياءً لَهُ .. نَسِيمًا عَلِيلا
واكْتُمِي السِّرَّ ـ لَوْ سَمَحْتِ ـ عَنِ الشَّمْسِ
كَفَى غَيْرَةً لَها وَأُفُولا
*
هَذِهِ البَسْمَةُ الَّتي سَوْفَ تَبْقَى
فِيكِ سِرًّا .. تَجاوَزَ الْمَعْقُولا
اسْمَحِي لِي تَكُونُ بَيْنَ قَصِيدِي
رُبَّما صِرْتُ في الهَوَى قِنْدِيلا!
***

من باب الفضول اطلعت على سيرة ذاتية للشاعر منشورة في أحد المواقع، وهناك وجدت ضالتي، حيث وجدت من مؤلفاته كتاب "شعر محمد مهدي الجواهري – دراسة نحوية نصية"، كيف لم أتذكر الجواهري؟ نعم، إنها قصيدة "أسعف فمي"، التي نظمها الجواهري في مدح الملك حسين.

وحتى أنصف الشاعر، أقر بأنه كان بارعًا حين اختار تغيير الغرض، وإن كان تغييرا طفيفا، فهل الغزل سوى مديح؟ الذي اختلف هو الهدف المتوجه إليه، بدلا من الملك أصبح ملكة القلب المتوجة.

كما أنه كان بارعًا حين اختار تغيير الوزن الشعري، فاختار بحر الخفيف بدلا من الكامل، والخفيف من البحور التي لا تدركها الأذن بسهولة، فتبدو نثرا إلا للأذن الموسيقية المدربة.

نأتي إذن إلى العنصر الذي كشف عملية الاقتباس، والذي يبدو وكأنه متروك عمدًا ليدل على المصدر، وهو عنصر القافية، والذي لم يكتف فيه شاعرنا بكلمة القافية وحدها، بل أضاف إليها بعض المصاحبات المعجمية، فأخذها من الجواهري "كتلة واحدة".

فنجده يقول مثلاً في البيت الأول:

بَسْمةٌ لا تَزالُ في خاطِرِ الكَوْنِ= ولا زالَ سِرُّها مَجْهُولا

وهو ما سبق إليه الجواهري في قوله:

يُهْدِيهِ ضَوْءُ العبقـريِّ كأنَّــهُ= يَسْتَلُّ منها سِرَّهَا المجهـولا

فقد غدا سر الحياة عند الجواهري سرَّ البسمة عند صالح الشاعر، ثم يقول:

وَسَتَبْقَى يَحْكُونَ عَنْها حَكايا الـ = ـحُبِّ جِيلاً في العاشِقِينَ فَجِيلا

وهو ما قاله الجواهري:

يا ابنَ الهواشِمِ من قُرَيشٍ أَسْلَفُـوا = جِيلاً بِمَدْرَجَةِ الفَخَارِ ، فَجِيلا

فتحول أجداد الممدوح الذين تتابعوا بمدرجة الفخار إلى أجيال من العاشقين تحكي الحكايات عن سر البسمة التي أعجب بها الشاعر.

ثم يقول:

فَبِها أَصْبَحَ الكَلامُ عَبِيرًا=وبِها أَصْبَحَ الجَمِيلُ جَمِيلا

معربا بذلك عن إعجاب بختام قصيدة الجواهري الذي يقول فيه:

ولسوفَ تَعْرِفُ بعـدَها يا سيّـدي = أَنِّي أُجَازِي بالجَمِيلِ جَمِيلا

لكنه حول الأمر من ماديته الفجة إلى روحي معنوي رقيق شفاف، حيث إن البسمة سبب لجمال كل جميل، وليست العلاقة مجرد شاعر يمدح فيُعطَى ليمدح!

ثم يمضي صالح الشاعر في قصيدته، مفضلاً صوته الخاص على الجواهري وقوافيه، وكأنه اكتفى بإرشادها في الأجزاء الأولى من النص، إلى أن يصل إلى ختام قصيدته، فيأبى أن يكون إلا اقتباسًا أيضًا، لكنه هذه المرة استعان بنزار قباني، القائل:

قولي أحبك كي تصير أصابعي= ذهبا وتصبح جبهتي قنديلا

إلا أن الأمر اختلف عند شاعرنا، فهو يريد بذاته كلها أن يصبح قنديلا، بناء على تسجيل هذه البسمة بين قصائده، بعد أن تأذن وتسمح تلك الحبيبة، المحظوظة، التي كُتبت في بسمتها هذه القصيدة.