منقول من كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي ، الليلة السادسة

قال شبيب بن شبة : إنا لوقوفٌ في عرصة المربد - وهو موقف الأشراف ومجتمع الناس وقد حضر أعيان المصر - إذ طلع ابن المقفع ، فما فينا أحد إلا هش له ، وارتاح إلى مساءلته ، وسررنا بطلعته ؛ فقال : ما يقفكم على متون دوابكم في هذا الموضع ? فوالله لو بعث الخليفة إلى أهل الأرض يبتغي مثلكم ما أصاب أحداً سواكم ، فهل لكم في دار ابن برثن في ظلٍ ممدود ، وواقيةٍ من الشمس ، واستقبال من الشمال ، وترويحٍ للدواب والغلمان ، ونتمهد الأرض فإنها خير بساط وأوطؤه ، ويسمع بعضنا من بعض فهو أمد للمجلس ، وأدر للحديث.
فسارعنا إلى ذلك، ونزلنا عن دوابنا في دار ابن برثن نتنسم الشمال ، إذ أقبل علينا ابن المقفع ، فقال : أي الأمم أعقل ? فظننا أنه يريد الفرس ، فقلنا : فارس أعقل الأمم ، نقصد مقاربته ، ونتوخى مصانعته.
فقال : كلا، ليس ذلك لها ولا فيها ، هم قوم علموا فتعلموا ، ومثل لهم فامتثلوا واقتدوا ، وبدئوا بأمر فصاروا إلى اتباعه ، ليس لهم استنباط ولا استخراج.
فقلنا له : الروم. فقال : ليس ذلك عندها ، بل لهم أبدانٌ وثيقة وهم أصحاب بناء وهندسة، لا يعرفون سواهما، ولا يحسنون غيرهما.
قلنا : فالصين. قال : أصحاب أثاثٍ وصنعة ، لا فكر لها ولا روية.
قلنا : فالترك. قال: سباع للهراش.
قلنا : فالهند. قال : أصحاب وهم ومخرقة وشعوذة وحيلة.
قلنا : فالزنج ، قال : بهائم هاملة.
فرددنا الأمر إليه.
قال : العرب. فتلاحظنا وهمس بعضنا إلى بعض، فغاظه ذلك منا، وامتقع لونه ، ثم قال : كأنكم تظنون فيَّ مقاربتكم ، فوالله لوددت أن الأمر ليس لكم ولا فيكم ولكن كرهت إن فاتني الأمر أن يفوتني الصواب .
ولكن لا أدعكم حتى أبين لكم لم قلت ذلك ، لأخرج من ظنة المداراة ، وتوهم المصانعة .
إن العرب ليس لها أولٌ تؤمه ولا كتابٌ يدلها ، أهل بلد قفر ، ووحشةٍ من الإنس ، احتاج كل واحد منهم في وحدته إلى فكره ونظره وعقله ؛ وعلموا أن معاشهم من نبات الأرض فوسموا كل شيء بسمته ، ونسبوه إلى جنسه وعرفوا مصلحة ذلك في رطبه ويابسه ، وأوقاته وأزمنته ، وما يصلح منه في الشاة والبعير .
ثم نظروا إلى الزمان واختلافه فجعلوه ربيعياً وصيفيا ً، وقيظياً وشتويا ً؛ ثم علموا أن شربهم من السماء ، فوضعوا لذلك الأنواء ؛ وعرفوا تغير الزمان فجعلوا له منازله من السنة ؛ واحتاجوا إلى الانتشار في الأرض ، فجعلوا نجوم السماء أدلةً على أطراف الأرض وأقطارها ، فسلكوا بها البلاد ؛ وجعلوا بينهم شيئاً ينتهون به عن المنكر ، ويرغبهم في الجميل، ويتجنون به على الدناءة ويحضهم على المكارم ؛ حتى إن الرجل منهم وهو في فجٍ من الأرض يصف المكارم فما يبقى من نعتها شيئاً ، ويسرف في ذم المساوىء فلا يقصر ؛ ليس لهم كلام إلا وهم يحاضون به على اصطناع المعروف ثم حفظ الجار وبذل المال وابتناء المحامد ، كل واحد منهم يصيب ذلك بعقله ، ويستخرجه بفطنته وفكرته فلا يتعلمون ولا يتأدبون ، بل نحائز مؤدبة ، وعقولٌ عارفة فلذلك قلت لكم : إنهم أعقل الأمم ، لصحة الفطرة واعتدال البنية وصواب الفكر وذكاء الفهم .
انتهى كلام ابن المقفع

ثم قال أبو حيان بعد ذلك :
فللفرس السياسة والآداب والحدود والرسوم ؛
وللروم الحكمة ؛
وللهند الفكر والرؤية والخفة والسحر والأناة ؛
وللترك الشجاعة والإقدام ؛
وللزنج الصبر والكد والفرح ؛
وللعرب النجدة والقرى والوفاء والبلاء والجود والذمام والخطابة والبيان.
ثم إن هذه الفضائل المذكورة ، في هذه الأمم المشهورة ، ليست لكل واحد من أفرادها ، بل هي الشائعة بينها ؛ ثم في جملتها من هو عارٍ من جميعها ، وموسوم بأضدادها ، يعني أنه لا تخلو الفرس من جاهل بالسياسة ، خالٍ من الأدب ، داخلٍ في الرعاع والهمج ؛ وكذلك العرب لا تخلو من جبانٍ جاهلٍ طياش بخيلٍ عيي وكذلك الهند والروم وغيرهم ....

إلى آخر كلامه الممتع الشائق ...