بسم الله الرحمن الرحيموبه تعالى نستعين
الحمد لله الواحد الأحد العزيز الباقي، وأصلي وأسلم على خير البشر النبي الأمي الهادي، ثم أما بعد..
فهذه فوائد قيدتها حول حديث علقه الإمام البخاري في صحيحه وجدت أنه يحتاج إلى مزيد تقصي وسبرٍ لأمره وحاله؛ فخرجت هذه الفوائد التي أسأل الله تعالى أن يكتب بها الأجر والفائدة آمين.
قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في (الصحيح 4/ 106):
(وَرَوَى عِيسَى، عَنْ رَقَبَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: قَامَ فِينَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَامًا، فَأَخْبَرَنَا عَنْ بَدْءِ الخَلْقِ، حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ، وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ، حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ).
أقول: في هذا السند الذي سيق في مطبوع صحيح الإمام البخاري انقطاعٌ لا شك فيه.. وهنا السؤال؛ أو الأسئلة التي تطرح نفسها:
- هل هذا السند بهذه الصورة صحيح؟!
- هل يوجد فيه انقطاع أصلا؟!
- هل وصل هذا الانقطاع عن الإمام البخاري نفسه؟!
- هل وجد من بين حال هذا السند وفسر عن أمره؟!
- هل إن كان فيه انقطاعٌ = أنه قد فات الإمام البخاري ولم ينتبه له رحمه الله؟!
والأسئلة كثيرة حول هذا الأمر والموضوع؛ ونحن بإذن الله تعالى في هذه الفوائد التالية نحاول تسليط الضوء على كشف غوامض هذا السند بإذن الله تعالى.
قال ابن كثير في (البداية والنهاية ط ابن كثير 1/10، 17/24.. ومسند الفاروق 3/67):
(وقال البخاري في كتاب بدء الخلق من صحيحه: وروي عن عيسى _ يعني ابن موسى غنجار _، عن رقبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب؛ قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما، فأخبرنا عن بدء الخلق، حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه.
هكذا ذكره البخاري معلقا بصيغة التمريض عن عيسى غنجار، عن رقبة _ وهو ابن مصقلة _.
قال أبو مسعود الدمشقي في أطرافه: هكذا قال البخاري، وإنما رواه عيسى غنجار، عن أبي حمزة، عن رقبة. فالله أعلم).
أقول: أول ملاحظات هذا الأمر في كلام الإمام ابن كثير هو الصيغة التي أتت في أغلب نسخه الخطية سواءٌ أكانت "التاريخ"، أو "النهاية وذكر الآخرة"، أو "مسند الفاروق"!! فتكاد تجمع إلا النادر النادر على هذه الصيغة المذكورة التي خالفت ما جاء في الصحيح وفي أكثر وجل وأغلب شروحه _ سواء كانت النسخ الخطية أو المطبوعة _؛ أي: قوله (وروي عن) هكذا بصيغة المبني للمجهول!
بل أفيدك بأن هذه الصيغة المذكورة هي الصيغة التي بخط الحافظ المزي كما في (تحفة الأشراف 7/208 ح10470)!.. فلذلك أتى في النص السابق عند الحافظ ابن كثير التأكيد والتصريح الجازم في العبارة على أن هذا الكلام قد وقف عليه في الصحيح؛ أقله في نسخة اُعتمد عليها؛ حيث قال الحافظ ابن كثير: (هكذا ذكره البخاري معلقا بصيغة التمريض)! ويقرب عندي جدا أن الحافظ ابن كثير اعتمد على ما عند المزي رحمهما الله تعالى.
وحقيقة لم أجد من نبه على الاختلاف في هذا الموقع إلا ما أتى في حاشية التحقيق لكتاب البداية والنهاية في طبعة ابن كثير؛ حيث أشاروا وألمحوا إلى هذا دون توسع.
وإن كان يترجح ويتقوى؛ بل وهو الأولى بالصواب أن تكون الصيغة الصحيحة الثابتة هي ما في صحيح البخاري من قوله: (وروى) بناءً أيضاً على أن عيسى غنجار يحدث عن أبي حمزة السكري عن رقبة بن مصقلة بنسخةٍ.. فيكون الضمير عائدٌ على عيسى مباشرة لأنه من تفرد به ورواه فيما علم.
ويشهد لذلك ويؤيده ما أتى في بعض نسخ الصحيح والتي اعتمدها بعض من اعتنى بالكتاب شرحاً وتهذيبا؛ فقد أتى في كتاب "مختصر الصحيح للمهلب بن أبي صفرة 4/6"، و"عمدة القارئ 15/109"؛ قوله: (ورواه عيسى).. وهي رواية ابن عساكر.
وثاني الملاحظات؛ هي قوله (رقبة)؛ ففي بعض النسخ الخطية للبداية والنهاية أتى الاسم هكذا (رقية)، والذي في الصحيح بكافة نسخة سواء المفردة أو التي مع شروحه الاسم فيه (رقبة) بالباء الموحدة.
إلا ما وجدته في متن الصحيح الذي اعتمد عليه الإمام الدماميني في إخراج شرحه المصابيح 7/37 أتى عنده الاسم (رقية)، وكذا هو عند الزركشي في التنقيح 2/707.. ولا أراه إلا تصحيف للاسم. فليس هو إلا رقبة. فتنبه
وثالث الملاحظات؛ هو هل هذا السند بهذه الصيغة = صحيح متصل لا علة فيه؟
فالذي أثبته كثير من أهل العلم أن هذا السند بهذه الصورة منقطع، وأنه سقط منه راوٍ بين عيسى ورقبة؛ وأن هذا السقط في روايةٍ للصحيح دون رواية.
فلذلك أشار الإمام اليونيني نفسه إلى شيء من هذا؛ فعندما نقل قول الإمام البخاري (وروى عيسى عن رقبة) فقد قام رحمه الله بوضع رمز [صحـ] فوق (عيسى)، ثم وضع رمز [لا] فوق (عن) إشارة إلى وجود سقط هنا، ثم وضع رمز [صحـ] فوق (رقبة).
قال الحافظ الإمام المزي في (تهذيب الكمال في أسماء الرجال 23/41):
(هكذا وقع في "الجامع"، والصواب: عِيسَى، عَن أبي حمزة السكري، عَن رقبة بْن مصقلة، قاله أَبُو مسعود الدمشقي وغيره، وهو الصواب: لأن له عَن أبي حمزة، عَنْ رقبة نسخة كما ذكرنا، وليس له عَنْ رقبة نفسه شيء، والله أعلم).
وقال الإمام الذهبي ف (سير أعلام النبلاء ط الرسالة 8/487):
(قلت: له حديث معلق في "صحيح البخاري"، وهو: روى عيسى، عن رقبة، عن قيس بن مسلم في بدء الخلق، وقد سقط رجل بين عيسى ورقبة، وهو أبو حمزة السكري، وما أدرك غنجار رقبة).
وقد أتى في الطبعة الهندية لصحيح البخاري إشارة إلى أنه في نسخة: (وروى عيسى عن أبي حمزة عن رقبة).
وقد قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري 6/290):
(قوله: "وروى عيسى عن رقبة" كذا للأكثر) فانظر أنه ليس في جميع. فتأمل
ثم قال: (وسقط منه _ أي السند _ رجل، فقال ابن الفلكي: ينبغي أن يكون بين عيسى ورقبة أبو حمزة.
وبذلك جزم أبو مسعود _ وقد مر بك كلامه أعلاه _.
وقال الطرقي: سقط أبو حمزة من كتاب الفربري، وثبت في رواية حماد بن شاكر؛ فعنده عن البخاري: روى عيسى، عن أبي حمزة، عن رقبة. قال: وكذا قال ابن رميح عن الفربري _ أي باثبات أبي حمزة بينهما _.
قلت: وبذلك جزم أبو نعيم في المستخرج _ على صحيح البخاري _ وهو يروي الصحيح عن الجرجاني عن الفربري، فالاختلاف فيه حينئذ عن الفربري _ قلت: لا يلزم أن يتحمل ذلك الفربري وحده، وكلام الحافظ الآتي يوضح هذا المعنى _.
ثم رأيته سقط أيضا _ أي أبي حمزة _ من رواية النسفي، لكن جعل بين عيسى ورقبة ضبة).
أقول: إلى هنا كلام جميلٌ دقيقٌ متقن متثبتٌ فيه.. لكن عقب بعده الحافظ رحمه الله بغلبة ظنٍ لا أراه قد أصاب بظنه هذا رحمه الله تعالى؛ وذلك منه محاولة في غبعاد الاختلاف عن الفربري في روايته للصحيح.. حيث قال:
(ويغلب على الظن أن أبا حمزة ألحق في رواية الجرجاني _ أي السابقة عن الفربري من طريق أبي نعيم _ وقد وصفوه بقلة الإتقان).
هكذا قال رحمه الله، وفي اعتقادي أن هذا ظنٌ ضعيفٌ؛ كيف ولم يتفرد باثبات الزيادة الجرجاني في روايته؛ فقط لأنه خالف بقية الرواة عن الفربري؟! أو لأنه موصوفٌ بقلة الإتقان؟!
أقول: ذكره للزيادة من طريق الفربري لا يعني هذا شذوذٌ من الجرجاني وتفردٌ لم يتابع عليه؛ أقله متابعةً عامة عند غير الفربري.. بل غايته أنه أتى بزيادة معتبرة ممن يحتمل منه التفرد بإذن الله تعالى بالزيادة.. وكل هذا راجعٌ إلى مجالس السماع.
ثم كونه موصوفٌ بقلة الإتقان = فليس هذا عاماً واضحاً ملموساً ظاهراً على روايته رحمه الله!! وأين هذه الأخطاء الكثيرة التي جمعت ونبه عليها الأئمة من طريقه وروايته؟!! لم نر كثيراً من هذا أبدا. فتأمل
فالاعتذار للاختلاف عن الفربري بهذا الأمر أجده اعتذار ضعيف؛ ولا يضر الحافظ رحمه الله ولا يرفعني. والله أعلم
فلذلك تجد أن الحافظ ابن حجر رحمه الله قد خالف في الأمالي المطلقة (ص: 175) كلامه في الفتح؛ حين جعل الأكثر على الإسقاط؛ بينما هنا جعل الأكثر على الإثبات؛ حيث قال:
(هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري تعليقا؛ فقال: "وروى عيسى عن رقبة..." فذكر هذا الحديث.
وتعقبه أبو مسعود في الأطراف؛ فقال: إنما روى عيسى هذا من أبي حمزة عن رقبة.
قلت: وكذا _ أي الإثبات _وقع في كثير من النسخ من الصحيح. وكذا ذكر أبو نعيم في المستخرج أن البخاري ذكره كذلك). فتأمل بارك الله فيك، ولعل هذا الكلام بالنسبة لي أدق وأحرى وأولى.
ويؤيد كلامي السابق ما قاله الحافظ نفسه في (التغليق 3/486):
(قال أبو مسعود في الأطراف: كذا قال البخاري؛ وإنما رواه عيسى عن أبي حمزة عن رقبة.
فيجوز أن يكون السهو من غير البخاري. ثم رأيت عن أبي العباس الطرقي أنه جعل الحذف فيه من غير البخاري؛ فقال: إنه في رواية حماد بن شاكر بإثبات أبي حمزة.
قلت: وهذا يقوي إطلاق أبي نعيم. وفي الجملة فهذا من السهو الذي لا يسلم منه بشر فقد قال الدارقطني _ أي في الأفراد _ إن أبا حمزة وهو محمد بن ميمون السكري تفرد به عن رقبة. وقال أبو نعيم: لا نعرفه لعيسى عن رقبة نفسه).
فلذلك روى الحافظ بسنده من طريق الطبراني في مسند رقبة من تأليفه ما يؤيد هذا الكلام فقال:
(فقد قرأته على فاطمة بنت المنجا بدمشق، عن سليمان بن حمزة، عن محمد بن عبد الواحد المديني كتب إليهم، أن أبا رشيد الأصبهاني أخبرهم، أن أبا طاهر علي بن الفضل بن عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن الذكواني أخبره سماعا، عن جد أبيه أبي بكر أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن جعفر العدل إجازة، أنا أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في مسند رقبة بن مصقلة من تأليفه، ثنا علي بن سعيد الرازي، ثنا محمد بن علي المروزي، ثنا إسحاق بن حمزة المروزي، ثنا عيسى بن موسى الغنجار، ثنا أبو حمزة السكري، عن رقبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب: سمعت عمر يقول: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما فأخبرنا عن بدء الخلق... الحديث.
وأنباني غير واحد من مشايخي، عن الحافظ أبي محمد عبد الكريم بن منير الحلبي، أن أحمد بن شبيب بن حمدان أخبره، أنا عبد القادر بن عبد الله الرهاوي، أنا مسعود بن الحسن الثقفي.. (ح) وأنبأني عاليا محمد بن أحمد بن علي الفاضلي، عن القاسم بن المظفر، عن عبد الله بن عمر بن علي؛ قال: كتب إلينا مسعود، أنا أبو عمرو بن الحافظ أبي عبد الله بن منده، أنا أبي في الجزء الخامس عشر من أماليه، أنا أبو علي الحسين بن إسماعيل الفارسي ببخارى، ثنا صالح بن محمد بن أبي الأشرس، ثنا عمر بن محمد بن حسين البخاري؛ قال: قرأت على جدي رجاء بن محمد وكان ثقة، عن عيسى بن موسى، عن أبي حمزة، عن رقبة بن مصقلة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه.
قال ابن منده: هذا حديث صحيح غريب تفرد به عيسى بن موسى.
قلت: وقع لي من غير رواية عيسى بن موسى؛ أخرجه أبو نعيم في المستخرج، ووجدته في فوائد أبي علي بن السكن أيضا.
فقال أبو نعيم في المستخرج: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن يحيى، ثنا محمد بن المسيب، ثنا النضر بن سلمة، ثنا أحمد بن أيوب النصيبي.. (ح) قال أبو نعيم: وحدثنا محمد بن إبراهيم بن علي، ثنا محمد بن الحسن بن قتيبة، ثنا النضر بن سلمة شاذان؛ وعلي بن الحسن بن شقيق كلاهما، عن أبي حمزة السكري، عن رقبة.. ولفظه: فأخبرنا بأهل الجنة وما يعملون، وبأهل النار وما يعملون، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه. لكن النضر مذكور بسرقة الحديث).
قلت: لم يتفرد به النضر حتى يتهم به!! واستغنى في الفتح عن هذه الكلمة الأخيرة بقوله: (ولم ينفرد به عيسى فقد أخرجه أبو نعيم من طريق علي بن الحسن بن شقيق عن أبي حمزة نحوه لكن بإسناد ضعيف). فتأمل فإنها أولى مما في التغليق
أقول: ومما سبق يتبين لك أهمية الإحاطة والوقوف على جميع ما يمكنك الوقوف عليه أو الإحاطة به من كلامٍ حول الموضوع الذي تريد دراسته حتى تستطيع تفنيد الأمر وترسيخه. فتدبر لهذا ولا ترغب عنه
(فائدة): مما سبق يتضح لك أن قول الإمام أبو علي الجياني في (تمييز المهمل 2/645): (هكذا في النسخ كلها عن البخاري: عيسى عن رقبة) = تعميم غير دقيق ولا يقبل على إطلاقه أبدا.. كيف وقد ثبتت في بعض الروايات!! فتدبر
وبناءً على ما سبق من تحرير:
فإن السند الصحيح؛ والذي لا يخفى مثله على أمير المؤمنين في وقته في الحديث، والذي ثبت في غير ما رواية عنه رحمه الله تعالى = هو ما ورد بإثبات أبي حمزة السكري بين عيسى ورقبة. فتأمل هذا وتدبره، بل وصحح نسختك من الصحيح عليه.
آخر ما أراد الله جمعة وتقييده حول هذا الموضوع. فالحمد لله أولا وآخرا. والله تعالى أعلى وأعلم