حقيقة الترك الكلي


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه .... أما بعد :
الترك في اللغة : تخلية الشيء وإهماله , يقال : تركه تركًا وتركانًا واتَّركه : خلاّه وأغفله.
قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة : ( ترك ) : التاء والراء والكاف: الترك التخلية عن الشيء .
وقال الأزهري في تهذيب اللغة : قال الليث: التَرْكُ: ودعك شيئاً تتركه تركًا .انتهى

وترك الأمر قد يكون كليًا وقد يكون جزئيًا, والجزئي يكون ترك دون ترك .
ومن ذلك ترك العمل التعبدي أو العادي, فقد يكون تركك له تركًا كليًا أو ترك دون ترك, وهذا معلوم في الواقع مما يغني عن ضرب المثال .
والترك على التحقيق هو فعلٌ إذا قُصد, وقد حقق ذلك الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله في مذكرته لأصول الفقه, وذكر الأدلة من الكتاب والسنة واللغة على ذلك, وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (10/631) .

ومعنى أن الترك فعل : أي أنه وجودي, أي مفتقر إلى عمل قلبي من نية وإرادة وحب وبغض, فلا يقوم بالبدن فعل بدون هذه الأعمال القلبية, فالترك فعل من هذه الجهة, لذلك كان وجودياً على الصحيح .

وفصّل ابن القيم رحمه الله في الترك وجعله قسمان, فقال في الجواب الكافي ص136 : " أما عدم الفعل فتارة يكون لعدم مقتضاه وسببه, وتارة يكون بوجود البغض والكراهة المانع منه, وهذا متعلق الأمر والنهى وهو يسمي الكف, وهو متعلق الثواب والعقاب, وبهذا يزول الاشتباه في مسألة الترك هل هو أمر وجودي أو عدمي .
والتحقيق أنه قسمان : فالترك المضاف الى عدم السبب المقتضي عدمي, والمضاف الى السبب المانع من الفعل وجودى " . انتهى


وهذا التحقيق حقيق بالاختيار, ولا يعارض ما ذهب إليه ابن تيمية والشنقيطي والأكثر من أهل العلم, فهم متفقون على أن الترك المقارن للقصد هو وجودي ويسمى فعلًا, وإنما ابن القيم رحمه الله نبه إلى التروك التي لم تقترن بقصدٍ للترك, وهذه خارج البحث, لأن الترك المجرد عن القصد, سواء كان لعدم المطالبة بالفعل, أو لعدم العلم بالأمر, فهذا لا يسمى فعلًا, ولا يثاب أو يعاقب عليه صاحبه, ولذلك قرر الزركشي في المنثور قاعدة : " التركُ فعلٌ إذا قُصد " .

فإن تقرر هذا, علمنا أن الترك الكلي للأعمال المطلوبة من المكلف, التي يؤثم على تركها لا يقوم ذلك الترك الكلي بالبدن إلا أن يكون مسبوقاً باعمال قلبية مثل النية والإرادة .
لأن فعل المطلوب من المكلف كـ (( الصلاة )) مفتقر لنية وإرادة وقدرة, فمتى وجدت مع انتفاء المانع وقع الفعل المطلوب ولابد .
فإنّ تخلُّفَ الفعل المطلوب كـ (( الصلاة )) مع وجود النية والإرادة والقدرة, لا يكون إلا بسبب مانع منع من وقوع الفعل مثل الذهول عنها بنوم أو غفلة أو النسيان لها أو اعتراض الشهوة أو الكسل, وهذا مناط الترك الجزئي وهو مطلق الترك ويسمى (( ترك دون ترك )).
وأما الترك الكلي للفعل كـ (( الصلاة )) وهو الترك المطلق, فلا يمكن بحال أن يقع وفي القلب نية وإرادة جازمة على الفعل مع وجود القدرة, لأن المطالبة بها متكررة بواقع خمس مرات في اليوم والليلة, فلا يقوم بالبدن تركًا كليًا تجاه هذه المطالبة المتكررة إلا مع انتفاء الإرادة الجازمة على الفعل وحلول الإرادة الجازمة على الترك محلها مسبوقة بنية الترك, وذلك إما لانتفاء التصديق بها, أو بسبب العناد والاستكبار .

قال ابن القيم رحمه الله في كتاب الصلاة ص60: " لا يصر على ترك الصلاة إصرارًا مستمرًا من يصدق بأن الله أمر بها اصلًا, فإنه يستحيل في العادة والطبيعة أن يكون الرجل مصدقًا تصديقًا جازمًا أن الله فرض عليه كل يوم وليلة خمس صلوات, وأنه يعاقبه على تركها أشد العقاب, وهو مع ذلك مصرٌ على تركها, هذا من المستحيل قطعًا, فلا يحافظ على تركها مصدق بفرضها أبدًا فإن الإيمان يأمر صاحبه بها فحيث لم يكن في قلبه ما يأمر بها فليس في قلبه شيء من الإيمان .
ولا تصغ إلى كلام من ليس له خبره ولا علم بأحكام القلوب وأعمالها, وتأمل في الطبيعة بأن يقوم بقلب العبد إيمان بالوعد والوعيد والجنة والنار, وأن الله فرض عليه الصلاة, وأن الله يعاقبه معاقبة على تركها, وهو محافظ على الترك في صحته وعافيته, - مع - عدم الموانع المانعة له على الفعل " . انتهى


فالإنسان المؤمن بأمر ما يجب عليه أولًا العلم بذاك الأمر ثم تصديقه ومن ثما الإقرار به, ثم طلبه وإرادته, فإن وجدت القدرة مع ما تقدم وجب وجود المراد إلا لمانع, فإذا وجد المانع غاب الفعل, حتى زوال المانع, فإذا زال المانع, يُقطع بوجود الفعل لوجود مقتضاه من العلم والتصديق والإقرار والنية والإرادة والقدرة .
والمانع كاعتراض الشهوة أو مجرد الكسل أو الشغل أو الضجر أو غيرها من الموانع, فهذه الموانع لا ترتقي لئن تكون سببًا لترك كلي لمطلوب متكرر كـ (( الصلاة )) مثلًا التي تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات, فالموانع إنما هي مؤقتة وتزول بزوال بواعثها .
يقول ابن القيم في كتاب الصلاة ص41: " والانسان قد يترك الصلاتين لكسل أو ضجر أو شغل يزول قريبًا ولا يدوم, فلا يسمى بذلك تاركًا للصلاة, فإذا كرر الترك مع الدعاء إلى الفعل علم أنه إصرار " .انتهى


وهذا البحث مفيد جدًا إن شاء الله في تحرير مقصود أهل العلم من أهل السنة بترك الصلاة كسلًا وتهاونًا, فلا يختلط على الباحث الفرق بين تارك للصلاة بالكلية الترك المطلق وهو الذي لا يفعلها مطلقًا, وبين تارك للصلاة تركًا دون ترك, وهو الترك الجزئي أو مطلق الترك المتضمن لفعلها تارة وتركها تارات, والسبب الباعث لهذا الترك الجزئي هو مانع من الموانع كالكسل أو الإلتهاء بغيرها من شهوات الدنيا, مع إيمانه بها وبفرضيتها.
وقد بيّن شيخ الإسلام محل النزاع في الخلاف في تارك الصلاة فقال : (( أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا مُلْتَزِمًا ؛ لَكِنْ تَرَكَهَا كَسَلًا وَتَهَاوُنًا ؛ أَوْ اشْتِغَالًا بِأَغْرَاضِ لَهُ عَنْهَا فَهَذَا مَوْرِدُ النِّزَاعِ )) . انتهى من الفتاوى [20/97-98]
وقد ذكر في موطن أخر رحمه الله أن الترك الكلي للصلاة مع زعم الإيمان بها كفر بإتفاق المسلمين, فلا يدخل الترك الكلي في الترك تهاونًا وكسلًا عنده بيقين .
يقول شيخ الإسلام (مجموع الفتاوى 5/83) : " ومتى امتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل لم يكن في الباطن مقرًا بوجوبها، ولا ملتزما بفعلها، وهذا كافر باتفاق المسلمين " . انتهى
ويقول أبو الحسن العسكري في الفروق اللغوية (1887) : (( الفرق بين قولك لهيت عن الشئ وقولك تركت الشئ: أنه يقال لهيت عنه إذا تركته سهوًا أو تشاغلًا، ولا يقال لمن ترك الشئ عامدًا أنه لهى عنه )). انتهى المقصود


إذن فالسبب المعول عليه في الترك الكلي هو عمل القلب بعمومه والإرادة بخصوصها وهي التي تعقب النية, فمن المحال أن يوجد عمل القلب الباعث على الفعل ومع ذلك يقع الترك الكلي للفعل, فالإرادة إما أن تكون إرادة جازمة على الفعل أو إرادة جازمة على الترك, ولا تجتمع الإرادتان المختلفتان المتضادتان في قلب بني آدم, ولكن يسبق الإرادة الجازمة على الفعل أو الإرادة الجازمة على الترك مقدماتهما كالهاجس أو الخاطر أو حديث النفس أو الهم .

ويغلط من يتصور أن الإرادة قد تضعف فيضعف بسببها العمل, والصواب أن الإرادة إذا كانت غير جازمة فلن يوجَد حينئذ العمل, وأما إذا كانت جازمة وانتفى المانع وجد العمل ضرورة .
فلا يُعتد بإرادة لا تثمر عن عمل , ومن الغلط أصلًا أن يسمى هذا النوع غير المثمر عن العمل إرادة, ولكن هي مقدمات للإرادة غير معتد بها, ومنها الهم والخاطر والهاجس وحديث النفس وكلها لا يتعلق بها ثواب أو عقاب وقد جمعها الناظم في قوله :

مراتب القصد خمس هاجس ذكروا *** فخاطر فحديث النفس فاستمعا
يليه هم فعزم كلها رفعــــت *** سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا


فالإرادة المعتبرة في وجود الفعل أو تركه بالكلية هي المرتبة الخامسة من مراتب القصد التي هي العزم الذي يؤاخذ بها في الفعل أو الترك, وهي صفة وحالة للقلب يكتنفها أمران : علم وعمل, والعلم يقدمه لأنه أصله وشرطه والعمل يتبعه لأنه لازمه وفرعه الغير منفك عنه .
فلا إرادة بلا علم, ولا عمل بلا إرادة, ومتى وجد العلم والإرادة وجد العمل ضرورة .
والله تعالى أعلم وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصبه وسلم والحمد لله رب العالمين .

وكتب / أبو طارق علي بن عمر النهدي
9 شعبان 1430 للهجرة وزاد فيه ونقص متممًا له في ذي الحجة 1431 للهجرة