ابن القيم / مدارج السالكين
و لقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أمورا عجيبة و ما لم أشاهده منها أعظم و أعظم و وقائع فراسته تستدعي سفرا ضخما
و قد أخبر أصحابه بدخول التتار الشام سنة تسع وتسعين وستمائة ,و أن جيوش المسلمين تكسر و أن دمشق لا يكون بها قتل عام و لا سبي عام ,و أن كلب الجيش و حدته في الأموال : وهذا قبل أن يهم التتار بالحركة
ثم أخبر الناس و الأمراء سنة اثنتين و سبعمائة لما تحرك التتار و قصدوا الشام : أن الدائرة و الهزيمة عليهم
و أن الظفر و النصر للمسلمين, و أقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينا فيقال له : قل إن شاء الله
فيقول : إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا
وسمعته يقول ذلك قال : فلما أكثروا علي قلت : لا تكثروا كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ : أنهم مهزومون في هذه الكرة ,و أن النصر لجيوش الإسلام
قال : و أطعمت بعض الأمراء و العسكر حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو
و كانت فراسته الجزئية في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر
و لما طلب إلى الديار المصرية و أريد قتله بعد ما أنضجت له القدور و قلبت له الأمور : اجتمع أصحابه لوداعه و قالوا : قد تواترت الكتب بأن القوم عاملون على قتلك فقال : والله لا يصلون إلى ذلك أبدا قالوا : أفتحبس قال : نعم و يطول حبسي ثم أخرج و أتكلم بالسنة على رؤوس الناس سمعته يقول ذلك
و لما تولى عدوه الملقب بالجاشنكير الملك أخبروه بذلك و قالوا : الآن بلغ مراده منك فسجد لله شكرا و أطال فقيل له : ما سبب هذه السجدة
فقال : هذا بداية ذله ومفارقة عزه من الآن وقرب زوال أمره
فقيل له : متى هذا؟
فقال : لا تربط خيول الجند على القرط حتى تغلب دولته فوقع الأمر مثل ما أخبر به سمعت ذلك منه
و قال مرة : يدخل علي أصحابي وغيرهم فأرى في وجوههم وأعينهم أمورا لا أذكرها لهم
فقلت له أو غيري لو أخبرتهم؟
فقال : أتريدون أن أكون معرفا كمعرف الولاة
و قلت له يوما : لو عاملتنا بذلك لكان أدعى إلى الاستقامة والصلاح؟
فقال : لا تصبرون معي على ذلك جمعة أو قال : شهرا
وأخبرني غير مرة بأمور باطنة تختص بي مما عزمت عليه ولم ينطق به لساني
و أخبرني ببعض حوادث كبار تجري في المستقبل ولم يعين أوقاتها وقد رأيت بعضها وأنا أنتظر بقيتها وما شاهده كبار أصحابه من ذلك أضعاف أضعاف ما شاهدته و الله أعلم