(2/55)
أحدها: الوقف فيهم، وترك الشهادة بأنهم فى الجنة أو فى النار، بل يوكل علمهم إلى الله تعالى، ويقال الله أعلم ما كانوا عاملين. واحتج هؤلاء بحجج: منها ما أخرجاه فى الصحيحين من حديث أبى هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، كما تنتج البهيمة من بهيمة جمعاءَ، هل [يحسن] فيها من جدعاءَ))؟ قالوا: يا رسول الله، أفرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين))، ومنها ما فى الصحيحين أيضاً عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن أولاد المشركين فقال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)).
وفى صحيح أبى حاتم بن حبان من حديث جرير بن حازم قال: سمعت أبا رجاءَ [العطاردى] يقول وهو على المنبر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال أمر هذه الأُمة قواماً- أو مقارباً- ما لم يتكلموا فى الولدان والقدر)). قال أبو حاتم: الولدان أراد به أطفال المشركين.
وفى استدلال هذه الفرقة على ما [ذهبت] إليه من الموقف بهذه النصوص نظر. فإن النبى صلى الله عليه وسلم لم يجب فيهم بالوقف، وإنما وكل علم ما كانوا يعملون لو عاشوا إلى الله سبحانه وتعالى. والمعنى: الله أعلم بما كانوا يعملون لو عاشوا.
فهو سبحانه وتعالى يعلم القابل منهم للهدى العامل به لو عاش، والقابل منهم للكفر المؤثر له لو عاش، [و] لكن لا يدل هذا على أنه يجزيهم [بمجرد] علمه فيهم بلا عمل يعملونه، وإنما يدل على أنه [سبحانه وتعالى] يعلم منهم ما هم عاملون بتقدير حياتهم.
وهذا الجواب خرج عن النبى صلى الله عليه وسلم على وجهين: أحدهما: جواب لهم إذ سألوه عنهم: ما حكمهم؟ فقال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين))، وهو فى هذا الوجه يتضمن أن الله سبحانه وتعالى يعلم من يؤمن منهم ومن يكفر بتقدير الحياة، وأما المجازاة على العلم فلم يتضمنها جوابه صلى الله عليه وسلم.
(2/56)
وفى صحيح أبى عوانة الإسفراينى عن هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس: كان النبى صلى الله عليه وسلم فى بعض مغازيه، فسأله رجل: ما [تقول] فى اللاهين؟ فسكت عنه، فلما فرغ من [غزوه وطاف] إذا هو بصبى يبحث فى الأرض، فأمر مناديه فنادى: ((أين السائل عن اللاهين))؟ فأقبل الرجل، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الأطفال، وقال: الله أعلم بما كانوا عاملين)).
والوجه الثانى: جواب لهم حين أخبرهم أنهم من آبائهم، فقالوا: بلا عمل؟ فقال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين))، كما روى أبو داود عن عائشة [رضى الله عنه] قالت: قلت: يا رسول الله، ذرارى المؤمنين؟ قال: ((من آبائهم))، فقلت: يا رسول الله، بلا عمل؟ قال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)) [قلت: يا رسول الله، فذرارى المشركين؟ قال: ((هم من آبائهم))، فقلت: يا رسول الله، بلا عمل؟ قال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين])). ففى هذا الحديث ما يدل على أن الذين يلحقون بآبائهم منهم هم الذين علم الله أنهم لو عاشوا لاختاروا الكفر وعملوه به. فهؤلاء مع آبائهم، ولا يقتضى أن كل واحد من الذرية مع أبيه فى النار.
فإن الكلام فى هذا الجنس سؤالاً وجواباً، والجواب يدل على التفصيل، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)) يدل على أنهم متباينون فى التبعية، بحسب نياتهم [فى] معلوم الله فيهم.
بقى أن يقال: فالحديث يدل على أنهم يلحقون بآبائهم من غير عمل، ولهذا فهمت ذلك منه عائشة فقالت: بلا عمل؟ فأقرها عليه السلام فقال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين))، ويجاب عن هذا بأن الحديث إنما دل على أنهم يلحقون بهم بلا عمل عملوه فى الدنيا، وهو الذى فهمته عائشة.
(2/57)
ولا ينفى هذا أن يلحقوا بهم [بأسباب آخر يمتحنهم بها فى عرصات القيامة كما سيأتى بيانه] إن شاءَ الله. فحينئذ يلحقون بآبائهم ويكونون منهم بلا عمل عملوه فى الدنيا، وعائشة [رضى الله عنه] إنما استشكلت لحاقهم بهم بلا عمل عملوه مع الآباءِ، وأجابها النبى صلى الله عليه وسلم بأن الله سبحانه وتعالى يعلم منهم ما هم عاملوه، ولم يقل لها: إنه يعذبهم بمجرد علمه فيهم. وهذا ظاهر بحمد الله لا إشكال فيه.
وأما حديث أبى رجاء العطاردى عن ابن عباس، ففى القلب من رفعه شيء وإن أخرجه ابن حبان فى صحيحه، وهو يدل على ذم من تكلم فيهم بغير علم، أو ضرب النصوص بعضها ببعض فيهم، كما ذم من تكلم فى القدر بمثل ذلك، وأما من تكلم فيهم بعلم وحق فلا.
المذهب الثانى: أنهم فى النار. وهذا قول جماعة من المتكلمين وأهل التفسير، وأحد الوجهين لأصحاب أحمد، وحكاه القاضى نصاً عن أحمد، واحتج هؤلاءِ بحديث عائشة المتقدم، واحتجوا بما رواه أبو عقيل يحيى بن المتوكل عن بهية عن عائشة: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المسلمين أين هم؟ قال: ((فى الجنة))، وسألته عن أولاد المشركين أين هم يوم القيامة؟ قال: ((فى النار))، فقلت: لم يدركوا الأعمال ولم تجر عليهم الأقلام. قال: ((ربك أعلم بما كانوا عاملين))، قلت: يحيى بن المتوكل لا يحتج بحديثه، فإنه فى غاية من الضعف.
وأما حديث عائشة المتقدم فهو من حديث عمر بن ذر، وتفرد به عن يزيد عن أبى أُمية أن البراء بن عازب أرسل إلى عائشة يسألها عن الأطفال، فذكرت الحديث هكذا، قال مسلم بن قتيبة [عنه]، وقال غيره: عن عمر بن ذر عن يزيد عن رجل عن البراء، ورواه الإمام أحمد فى مسنده من حديث عتبة بن ضمرة بن حبيب: حدثنى عبد الله بن أبى قيس مولى غطيف أنه سأل عائشة، فذكرت الحديث. وعبد الله هذا ينظر فى حاله، وليس بالمشهور.
(2/58)
واحتجوا بما رواه عبد الله بن أحمد فى مسند أبيه عن عثمان بن أبى شيبة عن محمد بن فضيل بن غزوان عن محمد بن عثمان عن زاذان عن على قال: سألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدين لها ماتا فى الجاهلية فقال: ((هما فى النار)) رأى الكراهية فى وجهها قال: ((لو رأيت مكانهما لأبغضتهما)) قالت: يا رسول الله، فولدى منك؟ قال: ((إن المؤمنين وأولادهم فى الجنة، وإن المشركين وأولادهم فى النار))، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانِ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}* [الطور: 21].
وهذا معلول من وجهين، أحدهما: أن محمد بن عثمان مجهول، والثانى: أن زاذان لم يدرك علياً. وقال جماعة عن داود بن أبى هند عن الشعبى عن علقمة عن سلمة بن قيس الأشجعى قال: أتيت أنا وأخى النبى صلى الله عليه وسلم فقلنا: إن أمنا ماتت فى الجاهلية وكانت تقرى الضيف وتفعل وتفعل، فهل نافعها ذلك شيئاً؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((لا))، قلنا: فإنها كانت وأدت أُختاً لنا فى الجاهلية لم تبلغ الحنث؟ [فقال]: ((الوائدة والموؤدة فى النار، إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم))، وهذا إسناد لا بأْس به، وبحديث خديجة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولادها الذين ماتوا فى الشرك؟ فقال: ((إن شئت أسمعتك تضاغيهم فى النار))، قال شيخنا: وهذا حديث باطل موضوع.
(2/59)
واحتجوا أيضاً بما روى البخارى فى صحيحه فى حديث احتجاج الجنة والنار عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((وأما النار فينشيء الله لها خلقاً يسكنهم إياها)) قالوا: فهؤلاء ينشؤون للنار بغير عمل، فلأن يدخلها من ولد فى الدنيا بين كافرين أولى. وهذه حجة باطلة، فإن هذه اللفظة وقعت غلطاً من بعض الرواة، وبينها البخارى فى الحديث الآخر وهو الصواب فقال فى صحيحه: حدثنى عبد الله بن محمد انبأنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن همام عن أبى هريرة قال النبى صلى الله عليه وسلم: ((تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة:مالى لا يدخلنى إلا ضعفاءُ الناس وسقطهم؟ قال الله عز وجل للجنة:أنت رحمتى أرحم بك من أشاءُ من عبادى، وقال تعالى للنار: أنت عذابى أعذب بك من أشاءُ من عبادى، ولكل واحدة منكما ملؤها: فأما النار فلا تمتليء حتى يضع الجبار عز وجل رجله، فتقول: قط، قط، فهناك تمتليء ويزوى بعضها إلى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحداً. وأما الجنة فإن الله ينشيء لها خلقاً))، فهذا هو الذى قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا ريب، وهو الذى ذكره فى التفسير [وقال] وفى باب ما جاء فى قوله تعالى: {إِنَّ رَحمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}* [الأعراف: 56]: حدثنا عبد الله بن سعد، حدثنا يعقوب، حدثنا أبى عن صالح بن كيسان عن الأعرج عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((اختصمت الجنة والنار إلى ربهما، فقالت الجنة: يا رب مالها لا يدخلها إلا ضعفاءُ الناس وسقطهم، وقالت النار: إنى أُوثرت بالمتكبرين، فقال الله تعالى للجنة: أنت رحمتى، وقال تعالى للنار: أنت عذابى أُصيب بك من أَشاءُ، ولكل واحدة منكما ملؤها قال: فأما الجنة فإن الله تعالى لا يظلم من خلقه أحداً، وإنه ينشيء للنار من يشاءُ فيلقون فيها، فتقول: هل من مزيد ثلاثاً حتى يضع قدمه فيها فتمتليء ويرد بعضها إلى بعض، فتقول: قط قط قط))، فهذا
(2/60)
غير محفوظ، وهو مما انقلب لفظه على بعض الرواة قطعاً كما انقلب على بعضهم قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم))، فقال: ((إن ابن مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال)).
وله نظائر وحديث الأعرج عن أبى هريرة لم يحفظ كما ينبغى وسياقه يدل على أن رواية لم يقم متنه، بخلاف حديث همام عن أبى هريرة، واحتجوا بما رواه أبو داود عن عامر الشعبى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الوائدة والمؤودة فى النار)).
قال يحيى بن زكريا: فحدثنى أبو إسحاق السبيعى: أن عامراً حدثه بذلك عن علقمة عن ابن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم ويأْتى الجواب عن هذا الحديث إن شاءَ الله. والله أعلم.
المذهب الثالث: أنهم فى الجنة، وهذا قول طائفة من المفسرين والمتكلمين وغيرهم. واحتج هؤلاء بما رواه البخارى فى صحيحه عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم [يعنى] مما يكثر أن يقول لأصحابه: ((هل رأى أحد منكم رؤيا))؟ قال: فنقصّ عليه ما شاء الله أن نقص، وأنه قال لنا ذات غداة: ((إنى أتانى الليلة آتيان- فذكر الحديث، وفيه: فأتينا على روضة [معتمة] فيها من كل لون الربيع وإذا بين ظهرى الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولاً فى السماء وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط- وفيه- وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة))، فقال بعض المسلمين: يا رسول الله وأولاد المشركين؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((وأولاد المشركين))، فهذا الحديث الصحيح صريح فى أنهم فى الجنة، ورؤيا الأنبياءِ وحى.
وفى مستخرج البرقانى على البخارى من حديث عوف الأعرابى عن أبى رجاء العطاردى عن سمرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((كل مولود يولد على الفطرة))، فقال الناس: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين)).
(يتبع...)
(2/61)
@ وقال أبو بكر بن حمدان القطيعى: حدثنا بشر بن موسى، حدثنا هوذة بن خليفة، حدثنا عوف عن خنساءَ بنت معاوية قالت: حدثتنى عمتى قالت: يا رسول الله، من فى الجنة؟ قال: ((النبى فى الجنة والشهيد فى الجنة والمؤودة فى الجنة))؟، وكذلك رواه بندار عن غندر عن عوف.
واحتجوا بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى آدَمَ مِن ظُهوُرِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}* [الأعراف: 172]، وبقوله تعالى: {لا يَصْلاهاَ إِلا الأَشْقَى}* [الليل: 15]، وبقوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلكَافِرِينَ}* [البقرة: 24]، وبقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثْ رَسُولاً}* [الإسراء: 15]، وهؤلاء لم تقم عليهم حجة الله بالرسل فلا يعذبهم [واحتجوا بقوله تعالى {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل}* [النساء: 165]
واحتجوا بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثُ فِى أُمّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا، وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}* [القصص:95]، فإذا كان سبحانه لا يهلك القرى فى الدنيا ويعذب أهلها إلا بظلمهم، فكيف يعذب فى الآخرة العذاب الدائم من لم يصدر منه ظلم؟ ولا يقال: كما أهلكه فى الدنيا تبعاً لأبويه وغيرهم، [فكذلك] يدخله النار تبعاً لهم، لأن مصائب الدنيا إذا وردت لا تخص الظالم وحده بل تصيب الظالم وغيره ويبعثون على نياتهم وأعمالهم كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةٍ}* [الأنفال: 25]، وكالجيش الذى يخسف بهم جميعهم وفيهم المكره والمستبصر وغيره.
(2/62)
فأما عذاب الآخرة فلا يكون إلا للظالمين خاصة، ولا يتبعهم فيه من لا ذنب له أصلاً. وقال تعالى فى النار: {كُلَّمَا أُلْقِى فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ}* [الملك:8،9]، وقال [تعالى] لإبليس: {لأَملأَنَ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}* [النمل: 85]، وإذا امتلأت بإبليس وأتباعه فأين يستقر فيها من لم يتبعه؟ قالوا: وأيضاً فالقرآن مملوءُ من الأخبار بأن دخول النار إنما يكون بالأعمال كقوله تعالى: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}* [النمل: 90]، وقوله تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}*
[الكهف: 49]، {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ، ثُمَّ تُوَفَّى كُلُ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يظلمون}* [البقرة: 281]، وقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوَا هُمُ الظَّالِمِينَ}* [الزخرف: 76] إلى غير ذلك من النصوص. قالوا: وقد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم أن كل مولود [يولد] على الفطرة، وإنما يهوده وينصره أبواه، فإذا مات قبل التهويد والتنصير مات على الفطرة، فكيف يستحق النار؟ وفى صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله: إنى خلقت عبادى حنفاءَ، فجاءَتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللتُ لهم))، وقال محمد بن إسحاق عن ثور بن يزيد عن يحيى بن جابر عن عبد الرحمن بن عائذ عن عياض عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله خلق آدم وبنيه حنفاءَ مسلمين، وأعطاهم المال حلالاً لا حراماً))، فزاد ((مسلمين)).
(2/63)
قالوا: وأيضاً فإن النار دار عدله [تعالى] والجنة دار فضله، فلهذا ينشيء للجنة من لم يعمل عملاً قط، وأما النار فإنه لا يعذب بها إلا من عمل بعمل أهلها. وقالوا: وأيضاً فإن النار دار جزاءٍ، فمن لم يعص الله طرفة عين كيف يجازى بالنار خالداً مخلداً أبد الآباد؟ قالوا: وأيضاً فلو عذب هؤلاءِ لكان تعذيبهم إما مع تكليفهم بالإيمان أو بدون التكليف.
والقسمان ممتنعان: أما الأول فلاستحالة تكليف من لا تمييز له ولا عقل أصلاً، وأما الثانى فيمتنع أيضاً بالنصوص التى ذكرناها وأمثالها من أن الله لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه. وقالوا: وأيضاً فلو كان تعذيب هؤلاءِ لأجل عدم الإيمان المانع من العذاب لاشتركوا هم وأطفال المسلمين فى ذلك، لاشتراكهم فى عدم الإيمان الفعلى علماً وعملاً.
فإن قلتم: أطفال المسلمين منعهم تبعهم لآبائهم [من] العذاب، بخلاف أطفال المشركين، قلنا: الله [تعالى] لا يعذب أحداً بذنب غيره، قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازرِةٌ وِزْرَ أُخْرَى}* [الأنعام: 164]، وقال تعالى: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون}* [يس: 54]، وهذه حجج كما ترى قوة وكثرة، ولا سبيل إلى دفعها وسيأْتى إن شاء الله فصل النزاع فى هذه المسألة، والقول بموجب هذه الحجج الصحيحة كلها، على أن عادتنا فى مسائل الدين كلها دقها وجلها أن نقول بموجبها، ولا نضرب بعضها ببعض ولا نتعصب لطائفة على طائفة بل نوافق كل طائفة على ما معها من الحق ونخالفها فيما معها من خلاف الحق. لا نستثنى من ذلك طائفة ولا مقالة، ونرجو من الله أن نحيا على ذلك، ونموت عليه ونلقى الله به، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(2/64)
المذهب الرابع: أنهم فى منزلة بين المنزلتين بين الجنة والنار فإنهم ليس لهم إيمان يدخلون به الجنة ولا لآبائهم فوز يلحق بهم أطفالهم تكميلاً لثوابهم وزيادة فى نعيمهم، وليس لهم من الأعمال ما يستحقون به دخول النار.
وهذا قول طائفة من المفسرين قالوا: وهم أهل الأعراف. وقال عبد العزيز ابن يحيى الكنانى: ((هم الذين ماتوا فى الفترة))، والقائلون بهذا إن أرادوا أن هذا المنزل مستقرهم أبداً فباطل، فإنه لا دار للقرار إلا الجنة أو النار، وإن أرادوا أنهم يكونون فيه مدة ثم يصيرون إلى دار القرار فهذا ليس بممتنع.
المذهب الخامس: أنهم تحت مشيئة الله تعالى، يجوز أن يعمهم بعذابه، وأن يعمهم برحمته، وأن يرحم بعضاً ويعذب بعضاً بمحض الإرادة والمشيئة، ولا سبيل إلى إثبات شيء من هذه الأقسام إلا بخبر يجب المصير إليه، ولا حكم فيهم إلا بمحض المشيئة. وهذا قول الجبرية نفاة الحكمة والتعليل، وقول كثير من مثبتى القدر وغيرهم.
المذهب السادس: أنهم خدم أهل الجنة ومماليكهم، وهم معهم بمنزلة أرقائهم وممالكيهم فى الدنيا. واحتج هؤلاء بما رواه يعقوب بن عبد الرحمن القارى عن أبى حازم المدينى عن يزيد الرقاشى عن أنس، قال الدارقطنى: ورواه عبد العزيز الماجشون عن ابن المنكدر عن يزيد الرقاشى عن أنس عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((سألت ربى للاهين من ذرية البشر أن لا يعذبهم، فأعطانيهم، فهم خدام أهل الجنة)) يعنى الصبيان.
فهذان طريقان، وله طريق ثالث عن فضيل بن سليمان عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهرى عن أنس، قال ابن قتيبة: اللاهون من لهيت عن الشيء إذ غفلت عنه، وليس هو من لهوت، وهذه الطرق ضعيفة، فإن يزيد الرقاشى واه وفضيل بن سليمان متكلم فيه، وعبد الرحمن بن إسحق ضعيف.
المذهب السابع: أن حكمهم حكم آبائهم فى الدنيا والآخرة فلا يفردون عنهم بحكم فى الدارين، فكما هم منهم فى الدنيا فهم منهم فى الآخرة.
(2/65)
والفرق بين هذا المذهب ومن مذهب من يقول هم فى النار، أن صاحب هذا المذهب يجعلهم معهم تبعاً لهم، حتى لو أسلم الأبوان بعد موت أطفالهما لم يحكم لأفراطهما بالنار وصاحب القول الآخر يقول هم فى النار لكونهم ليسوا بمسلمين لم يدخلوها تبعاً.
وهؤلاء يحتجون بحديث عائشة الذى تقدم ذكره، واحتجوا بما فى الصحيحين عن الصعب بن جثامة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم، فقال: ((هم منهم))، ومثله من حديث الأسود بن سريع. وقد تقدم حديث أبى وائل عن ابن مسعود يرفعه: ((الوائدة والموءودة فى النار))، وهذا يدل على أنها كانت فى النار تبعاً لها. قالوا: ويدل عليه قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا واتبعتهم ذُرِّيتُهُمْ بِإِيْمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِن شَيءِ كُلُّ امْرِيءٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}* [الطور: 21]، فهذا يدل على أن إتباع الذرية لآبائهم ونجاتهم إنما كان إكراماً لآبائهم وزيادة فى ثوابهم وأن الاتباع [إنما يستحق بإيمان الآباء فإذا انتفى إيمان الآباء انتفى اتباع] النجاة، وبقى اتباع العذاب. ويفسره قوله صلى الله عليه وسلم: ((هم منهم)).
وأجيب عن حجج هؤلاءِ: أما حديث عائشة الذى فيه: ((إنهم فى النار)) فقد تقدم ضعفه. وأما حديثها الآخر: ((هم من آبائهم)) فمثل حديث الصعب والأسود بن سريع، وليس فيه تعرض للعذاب بنفى ولا إثبات، وإنما فيه أنهم تبع لآبائهم فى الحكم، وأنهم إذا أُصيبوا فى الجهاد والبيات لم يضمنوا بدية ولا كفارة.
وهذا مصرح به فى حديث الصعب والأسود أنه فى الجهاد، أما حديث عائشة الآخر فضعفه غير واحد. قالوا: وعبد الله بن أبى قيس مولى غطيف رواية عنها ليس بالمعروف فيقبل حديثه. وعلى تقدير ثبوته فليس فيه تصريح بأن السؤال وقع عن الثواب والعقاب.
(2/66)
والنبى صلى الله عليه وسلم قال: ((هم من آبائهم)) ولم يقل هم معهم. وفرق بين الحرفين. وكونهم منهم لا يقتضى [أن يكونوا معهم فى أحكام الآخرة بخلاف كونهم منهم فإنه يقتضى] أن تثبت لهم أحكام الآباءِ فى الدنيا من التوارث والحضانة والنسب وغير ذلك من أحكام الإيلاد، والله سبحانه يخرج الطيب من الخبيث والمؤمن من الكافر.
وأما حديث ابن مسعود فليس فيه أن هذا حكم كل واحد من أطفال المشركين وإنما يدل على أن بعض أطفالهم فى النار، وأن من هذا الجنس- وهن المؤودات- من يدخل النار، وكونها موؤودة [لا يمنع من دخولها النار بسبب آخر وليس المراد أن كونها موءودة] هو السبب الموجب لدخول النار، حتى يكون اللفظ عاماً فى كل موؤدة وهذا ظاهر [ولكن كونها موءودة لا يرد عنها النار إذا استحقتها بسبب]، كما سيأْتى بيانه بعد هذا إن شاء الله. وأحسن من هذا أن يقال: هى فى النار ما لم يوجد سبب يمنع من دخولها النار كما سنذكره إن شاء الله. ففرق بين أن تكون جهة كونها موؤدة هى التى استحقت بها دخول النار، وبين كونها غير مانعة من دخول النار بسبب آخر، وإذا كان تعالى يسأَل [الوائدة] عن وأْد ولدها بغير استحقاق ويعذبها على وأْدها كما قال تعالى: {وَإِذَا المَوءودةُ سُئلَتْ}* [التكوير:8]، فكيف يعذب الموءودة بغير ذنب؟ والله سبحانه لا يعذب من وأَدها بغير ذنب.
وأما قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}* [الطور: 21] فهذه الآية تدل على أن الله سبحانه يلحق ذرية المؤمنين بهم فى الجنة، وإنهم يكونون معهم فى درجتهم.
(2/67)
ومع هذه فلا يتوهم نزول [الأباء إلى درجة الذرية فإن الله لم يلتهم- أى لم ينقصهم من أعمالهم من شيئاً بل رفع ذرياتهم إلى درجاتهم مع توفير أجور] الآباءِ عليهم، [و] لما كان إلحاق الذرية بالآباءِ فى الدرجة إنما هو بحكم التبعية لا بالأَعمال، ربما توهم متوهم أن ذرية الكفار يلحقون بهم فى العذاب تبعاً وإن لم يكن لهم أعمال الآباءِ، فقطع تعالى هذا التوهم بقوله تعالى: {كُلُّ امْرِيءٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}، وتأمل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُم ْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيْمَانٍ}* [الطور: 21]، كيف أتى بالواو العاطفة فى اتباع الذرية وجعل الخبر عن المؤمنين الذين هذا شأْنهم، فجعل الخبر مستحقاً بأمرين: أحدهما إيمان الآباءِ، والثانى إتباع الله ذريتهم إياهم، وذلك لا يقتضى أن كل مؤمن يتبعه كل ذرية له، ولو أُريد هذا المعنى لقيل: [والذين] آمنوا تتبعهم ذرياتهم فعطف الاتباع بالواو يقتضى أن يكون المعطوف بها قيداً وشرطاً فى ثبوت الخبر، لا حصوله لكل أفراد المبتدأ. وعلى هذا يخرج ما رواه مسلم فى صحيحه عن عائشة قالت أُتى النبى صلى الله عليه وسلم بصبى من الأنصار يصلى عليه: فقلت: يا رسول الله، طوبى لهذا لم يعمل شراً، ولم يدره به. قال: ((أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً وخلقها لهم وهم فى أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاً وخلقها لهم وهم فى أصلاب آبائهم))، فهذا الحديث يدل على أنه لا يشهد لكل طفل من أطفال المؤمنين بالجنة، وإن أطلق على أطفال المؤمنين بالجنة، وإن أطلق على أطفال المؤمنين فى الجملة أنهم فى الجنة لكن الشهادة للمعين ممتنعة، كما يشهد للمؤمنين مطلقاً أنهم فى الجنة، ولا يشهد لمعين بذلك إلا من شهد له النبى صلى الله عليه وسلم.
فهذا وجه الحديث الذى يشكل على كثير من الناس ورده الإمام أحمد وقال: لا يصح. ومن يشك أن أولاد المسلمين فى الجنة؟ وتأوله قوم تأويلات بعيدة.
(2/68)
المذهب الثامن: أنهم يمتحنون فى [عرصة] القيامة، ويرسل إليهم هناك رسول وإلى كل من لم تبلغه الدعوة، فمن أطاع الرسول دخل الجنة ومن عصاه أدخله النار. وعلى هذا فيكون بعضهم فى الجنة وبعضهم فى النار. وبهذا يتألف شمل الأدلة كلها. وتتوافق الأحاديث ويكون معلوم الله [عز وجل] الذى أحال عليه النبى صلى الله عليه وسلم حيث يقول: ((الله أعلم بما كانوا عاملين))، يظهر حينئذ ويقع الثواب والعقاب عليه حال كونه معلوماً علماً خارجياً لا علماً مجرداً، ويكون النبى صلى الله عليه وسلم قد رد جوابهم إلى علم الله فيهم، والله [تعالى] يرد ثوابهم وعقابهم إلى معلومه منهم، فالخبر عنهم مردود إلى علمه ومصيرهم مردود إلى معلومه، وقد جاءَت بذلك آثار كثيرة يؤيد بعضها بعضاً: فمنها ما رواه الإمام أحمد [فى مسنده] والبزار أيضاً بإسناد صحيح، فقال الإمام أحمد: حدثنا معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع، ورجل هرم، ورجل أحمق، ورجل مات فى الفترة، أما الأصم فيقول: رب لقد جاءَ الإسلام وأنا ما أسمع شيئاً، وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحدفوننى بالبعر، وأما الهرم [رب لقد جاء الإسلام وما أغفل وأما الذى فى الفترة] فيقول: رب ما أتانى رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه. فيرسل إليم رسولاً أن ادخلوا النار، فوالذى نفسى بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً))، قال معاذ [بن هشام]: وحدثنى أبى عن قتادة عن الحسن عن أبى رافع عن أبى هريرة بمثل هذا الحديث وقال فى آخره: ((فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً ومن لم يدخلها رد إليها)).
(2/69)
وهو فى مسند إسحاق عن معاذ بن هشام أيضاً، ورواه البزار ولفظه عن الأسود ابن سريع عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((يعرض على الله تبارك وتعالى الأصم الذى لا يسمع شيئاً، والأحمق والهرم، ورجل مات فى الفترة، فيقول الأصم: رب جاء الإسلام وما أسمع شيئاً، والأحمق يقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً يقول الذى مات فى الفترة: رب ما أتانى لك رسول، وذكر الهرم وما يقول، قال: فيأخذ مواثيقهم ليطيعنّه، فيرسل إليهم [تبارك وتعالى]: ادخلوا النار، فوالذى نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً))، قال الحافظ عبد الحق فى حديث الأسود: قد جاءَ هذا الحديث، وهو صحيح فيما أعلم، والآخرة ليست دار تكليف ولا عمل، ولكن الله يخص من يشاءُ بما يشاءُ، ويكلف من [يشاء ما شاء] وحيثما شاءَ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
قلت: وسيأتى الكلام على وقوع التكليف فى الدار الآخرة وامتناعه عن قريب إن شاء الله، ورواه على بن المدينى عن معاذ بنحوه. قال البيهقى: حدثنا على ابن محمد بن بشران، أخبرنا أبو جعفر الرازى، أخبرنا حنبل بن الحسين، أخبرنا زيد بن جدعان عن أبى رافع عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم نحوه، ورواه معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن أبى هريرة قوله.
(2/70)
وروى محمد بن المبارك الصورى ثقة، حدثنا عمرو بن واقد ضعيف، حدثنا يونس بن ميسرة ثقة عن أبى إدريس الخولانى عن معاذ يرفعه: ((يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلاً، وبالهالك فى الفترة، وبالهالك صغيراً. فيقول الممسوخ عقلاً: يا رب لو آتيتنى عقلاً ما كان مَن آتيته عقلاً بأسعد منى، ويقول الهالك فى الفترة: يا رب لو آتانى منك عهد ما كان من آتاه منك عهد بأسعد بعهده منى، منى، فيقول الرب سبحانه: لئن أمرتكم بأمر فتطيعونى؟ فيقولون: نعم وعزتك فيقول: اذهبوا فادخلوا النار، فلو دخلوها ما ضرتهم قال: فيخرج عليهم قوابص يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء فيأمرهم الثانية، فيرجعون كذلك ويقولون: يا ربنا خرجنا وعزتك نريد دخولها، فخرجت علينا قوابص من نار ظننا أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء، فيأْمرهم الثانية فيرجعون كذلك ويقولون مثل قولهم، فيقول الله: قبل أن تخلقوا علمت ما أنتم عاملون وعلى علمى خلقتكم وإلى علمى تصيرون، فتأْخذهم النار))، فهذا وإن كان عمرو بن واقد لا يحتج به، فله أصل وشواهد والأُصول تشهد له.
وفى الباب أحاديث غير هذا. وقد رويت أحاديث الامتحان فى الآخرة من حديث الأسود بن سريع وصححه عبد الحق والبيهقى من حديث أبى هريرة وأنس ومعاذ وأبى سعيد.
فأما حديث الأسود فرواه معاذ [عن] هشام عن أبيه عن قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع أن النبى صلى الله عليه وسلم قال معاذ: وحدثنى أبى عن قتادة عن الحسن عن أبى رافع عن أبى هريرة، ورواه أحمد وإسحاق عن معاذ [ورواه] حماد بن سلمة عن على بن زيد بن جدعان عن رافع عن أبى هريرة، ورواه معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبى هريرة موقوفاً عليه، وهذا لا يضر الحديث فإنه إن سلك طريق ترجيح الزائد لزيادته فواضح، وإن سلك طريق المعارضة فغايتها تحقق الوقف، ومثل هذا لا يقدم عليه بالرأْى إذ لا مجال له فيقبل بجزم بأن هذا توقيف لا عن رأْى.
(2/71)
وأما حديث أنس فرواه جرير بن عبد الحميد عن ليث بن أبى سليم عن عبد الوارث عن أنس عن النبى صلى الله عليه وسلم: ((يؤتى يوم القيامة بأربعة: بالمولود وبالمعتوه، وبمن مات فى الفترة، وبالشيخ الفانى كلهم يتكلم بحجته فيقول الرب سبحانه لعنق من جهنم: ابرزى. ويقول لهم: إنى كنت أبعث إلى عبادى رسولاً من أنفسهم وإنى رسول نفسى إليكم. قال: ويقول لهم: ادخلوا هذه. ويقول من كتب عليه الشقاءُ: أَنى ندخلها ومنها كنا نفر؟ فيقول الله: فأنتم لرسلى أشد تكذيباً قال: وأما من كتب عليهم السعادة فيمضى فيقتحم فيها، فيدخل هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار)).
وهذا وإن لم يعتمد عليه بمجرده لمكان ليث بن أبى سليم عن عبد الوارث عن أنس عن النبى صلى الله عليه وسلم [وأما حديث معاذ فتقدم الكلام عليه. وأما حديث أبى سعيد فرواه محمد بن يحيى الذهلى: أخبرنا سعيد بن سليمان عن فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبى سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الهالك فى الفترة والمعتوه والمولود يقول الهالك فى الفترة: لم يأْتنى كتاب، ويقول المعتوه: رب لم تجعل لى عقلاً أعقل به خيراً ولا شراً. ويقول المولود: رب لم أُدرك العقل فيرفع لهم ناراً فيقول: ردوها، قال: فيردها من كان فى علم الله سعيداً لو أدرك العمل، ويمسك عنها من كان فى علم الله شقياً لو أدرك العمل، فيقول: إياى عصيتم، فكيف لو رسلى أتتكم))، تابعه الحسن بن موسى عن فضيل. ورواه أبو نعيم عن فضيل بن مرزوق فوقفه. فهذا وإن كان فيه عطية فهو ممن يعتبر بحديثه ويستشهد به، وإن لم يكن حجة. وأما الوقف فقد تقدم نظيره من حديث أبى هريرة. فهذه الأحاديث يشد بعضها بعضاً وتشهد لها أصول الشرع وقواعده، والقول بمضمونها هو مذهب السلف والسنة نقله عنهم الأشعرى رحمه الله فى المقالات وغيرها.
(2/72)
فإن قيل: قد أنكر ابن عبد البر هذه الأحاديث وقال: أهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب، لأن الآخرة ليست دار عمل ولا ابتلاء وكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك فى وسع المخلوقين، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها؟ [فـ] الجواب من وجوه:
أحدها: أن أهل العلم لم يتفقوا على إنكارها بل ولا أكثرهم، وإن أنكرها بعضهم فقد صحح غيره بعضها كما تقدم.
الثانى: أن أبا الحسن الأشعرى حكى هذا المذهب عن أهل السنة والحديث، فدل على أنهم ذهبوا إلى موجب هذه الأحاديث.
الثالث: أن إسناد حديث الأسود أجود من كثير من الأحاديث التى يحتج بها فى الأحكام، ولهذا رواه الأئمة أحمد وإسحق وعلى بن المدينى.
الرابع: أنه قد نص جماعة من الأئمة على وقوع الامتحان فى الدار الآخرة، وقالوا: لا ينقطع التكليف إلا بدخول دار القرار ذكره البيهقى عن غير واحد من السلف.
الخامس: ما ثبت فى الصحيحين من حديث أبى هريرة وأبى سعيد فى الرجل الذى هو آخر أهل الجنة دخولاً إليها أن الله سبحانه وتعالى يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأله غير الذى يعطيه، وأنه يخالفه ويسأله غيره، فيقول الله تعالى: ((ما أغدر كغدرك))، وهذا الغدر منه هو لمخلفته للعهد الذى عاهد ربه عليه.
السادس: قوله: وليس ذلك فى وسع المخلوقين. جوابه من وجهين:
أحدهما: أن ذلك ليس تكليفاً بما ليس فى الوسع، وإنما تكليف بما فيه مشقة شديدة، وهو كتكليف بنى إسرائيل قتل أولادهم وأزواجهم وآبائهم حين عبدوا العجل، وكتكليف المؤمنين إذا رأوا الدجال ومعه مثال الجنة والنار أن يقعوا فى الذى يرونه ناراً.
والثانى: أنهم لو أطاعوه ودخلوها لم يضرهم، وكانت برداً وسلاماً، فلم يكلفوا بممتنع ولا بما لم يستطع.
السابع: أنه قد ثبت أنه سبحانه وتعالى يأْمرهم فى القيامة بالسجود ويحول بين المنافقين وبينه.
(2/73)
وهذا تكليف بما ليس فى الوسع قطعاً، فكيف ينكر التكليف بدخول النار فى رأْى العين إذا كانت سبباً كما قال أبو سعيد الخدرى هو أدق من الشعرة وأحدُّ من السيف)) رواه مسلم، فركوب هذا الصراط الذى هو فى غاية المشقة كالنار، ولهذا كلاهما يفضى منه إلى النجاة والله أعلم.
الثامن: أن هذا استبعاد مجرد لا ترد بمثله الأحاديث والناس لهم طريقان: فمن سلك طريق المشيئة المجردة لم يمكنه أن يستبعد هذا التكليف، ومن سلك طريق الحكمة والتعليل لم يكن معه حجة تنفى أن يكون هذا التكليف موافقاً للحكم، بل الأدلة الصحيحة تدل على أن مقتضى الحكمة كما ذكرناه.
التاسع: أن فى أصح هذه الأحاديث وهو حديث الأسود أنهم يعطون ربهم المواثيق ليطيعنه فيما يأْمرهم به، فيأْمرهم أن يدخلوا نار الامتحان فيتركون الدخول معصية لأمره لا لعجزهم عنه. فكيف يقال أنه ليس فى الوسع.
فإن قيل: فالآخرة دار جزاءٍ، وليست دار تكليف، فكيف يمتحنون فى غير دار التكليف؟ فالجواب: أن التكليف إنما ينقطع بعد دخول دار القرار، وأما فى البرزخ وعرصات القيامة فلا ينقطع وهذا معلوم بالضرورة من الدين من وقوع التكليف بمسألة الملكين فى البرزخ وهى تكليف.
(2/74)
وأما فى عرصة القيامة فقال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ}* [القلم: 42]، [فهذا] صريح فى أن الله يدعو الخلائق إلى السجود يوم القيامة، وأن الكفار يحال بينهم وبين السجود إذ ذاك، ويكون هذا التكليف، بما لا يطاق حينئذ حساً عقوبة لهم، لأنهم كلفوا به فى الدنيا وهم يطيقونه فلما امتنعوا منه وهو مقدور لهم كلفوا به وهم لا يقدرون عليه حسرة عليهم وعقوبة لهم، ولهذا قال تعالى: {وَقدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ}* [القلم: 43] [يعنى أصحابه لا أحد يمنعهم منه فلما تركوه وهم سالمون] دعوا إليه فى وقت حيل بينهم وبينه كما فى الصحيح من حديث زيد ابن أسلم عن عطاء عن أبى سعيد رضى الله عنه: ((إن ناساً قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا))- فذكر الحديث بطوله، إلى أن قال- ((فيقول تتبع كل أُمه ما كانت تعبد فيقول المؤمنون: فارقنا الناس فى الدنيا أفقر ما كنا إليهم، ولم نصاحبهم. فيقول: أنا ربكم. فيقولون: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئاً- مرتين أو ثلاثاً- حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول هل بينكم وبينه آية تعرفونه بها)) فيقولون نعم، فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً إلا جعل الله ظهره) [طبقة] واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم)) وذكر الحديث.
وهذا التكليف نظير تكليف البرزخ بالمسألة، فمن أجاب فى الدنيا طوعاً واختياراً أجاب فى البرزخ، [ومن امتنع من الإجابة فى الدنيا منع منها فى البرزخ] ولم يكن تكليفه فى الحال وهو غير قادر قبيحاً، بل هو مقتضى الحكمة الإلهية، لأنه كلف وقت القدرة فأَبى، فإذا كلف وقت العجز وقد حيل بينه وبين الفعل كان عقوبة له وحسرة.
(2/75)
والمقصود أن التكليف لا ينقطع إلا بعد دخول الجنة أو النار، وقد تقدم أن حديث الأسود بن سريع صحيح، وفيه التكليف فى عرصة القيامة. فهو مطابق لما ذكرنا من النصوص الصحيحة الصريحة.
فعلم أن الذى تدل عليه الأدلة الصحيحة وتأْتلف به النصوص ومقتضى الحكمة هذا القول والله أعلم.
وقد حكى بعض أهل المقالات عن عامر بن أشرس أنه ذهب إلى أن الأطفال يصيرون فى يوم القيامة تراباً، وقد نقل عن ابن عباس ومحمد بن الحنفية والقاسم بن محمد وغيرهم أنهم كرهوا الكلام فى هذه المسألة جملة.