تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: تحكيم الشريعة طاعةٌ وخيرٌ

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    18

    Arrow تحكيم الشريعة طاعةٌ وخيرٌ

    تحكيم الشريعة طاعةٌ وخيرٌ
    بواسطة: أ. صلاح بن فتحي هَلَل*
    بتاريخ : السبت 26-03-2011 11:16 صباحا


    خاص بالمركز العربي للدرسات والأبحاث
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عن آله وأصحابه أجمعين.

    وبعد:

    فأصل مادةِ الْحُكْم: المنع كما ذكر ابن فارس(1) ، وغيره ، وقال الراغبُ الأصفهاني في «مفردات القرآن»: «حَكَمَ : أصله منع منعًا لإصلاحٍ ، ومنه سُمِّيَتِ اللجام : حَكَمَة الدابة ، فقيل : حَكَمْته وحَكمْتُ الدابة : منعتُها بالْحَكَمَة ، وأَحْكَمْتُها جَعَلْتُ لها حَكَمَةً ، وكذلكَ حكَمْتُ السفيهَ وأحكمتُه»(2) و«العربُ تقول : حكَّمْتُ فلانًا إذا أطلقتُ يدَهُ فيما يشاء»( 3).

    فتحصَّل من ذلك معنيان:

    الأول: أنه المنع لإصلاحٍ ، فالمنع لإفسادٍ يُخالفُ ذلك.

    والثاني: حَكَّمْتُ فلانًا يعني: أطلقتُ يدَهُ فيما يشاء.

    فالحكمُ منعٌ مِنْ مُطْلَقِ اليدِ لإصلاحٍ، ولا يُشكل على ذلك: الأمر؛ لأنَّ الأمر بالشيء نهيٌ ومنعٌ عن ضدِّه على الراجح في أصول الفقه.

    وهذا المعنى المذكور للْحُكْمِ ينطبق تمامًا على حُكْمِ الله عز وجل؛ إِذْ هو حُكْمٌ مِن مطلق اليد لإصلاحٍ ، فهو المتفرِّد بالحكم المطلق في الكون كله ، وهو أيضًا المتفرِّد بصلاح أحكامه وحُسْنِها وجمالها مِنْ كل وجهٍ، فأحكامه عدلٌ وكمالٌ كلها ، لا تشوبها شائبة جَوْرٍ أو نقصٍ أبدًا.

    وقد تفرَّد سبحانه وتعالى بالحُكْمِ المطلق ، وأرسلَ الرسلَ مُبَشِّرِين ومُنْذِرِين لعباده ، وأمرَهم بتبليغ شريعته إلى الناس ، وأسندَ لولاة الأمر بعد الرسل توصيل أحكامه إلى عباده.

    فالحكم في الحقيقة لله سبحانه وتعالى ، وأما الحكام والعلماء وغيرهم من ولاة الأمور فوظيفتهم التبليغ ، وتزول عنهم الصفة الشرعية إذا حادوا عن الصِّراط ، أو تنكَّبوا طريق الشريعة.

    وأصلُ القضية موصولٌ بقضية الألوهية ، وتَفَرُّدِ المولى عز وجل بالحكم دون سواه ، فهو الخالق الرازق المستحق بأن يُفْرَدَ بالرُّبوبية ، وكذا هو الحاكم المتفرِّد بالألوهية.

    وهذه القضية لا يمكن أن ينازع فيها عاقلٌ مُتَجَرِّدٍ؛ إِذ لا يُجادل إنسان في الرجوع لكل صاحب صنعةٍ في صنعته، وتحكيمه في مفرداتها وشئونها، وطاعته فيما يقول، حتى وإِنْ لم يذكر لنا سبب قوله، وعلَّة حكمه، فترى الإنسان يرجع للصانع في صنعته، ولا يُجادله في حكمه؛ وهذا مجمعٌ عليه عند عقلاء البشر جميعهم، فبناء عليه ينبغي أن نرجع لله عز وجل فيما يخص الإنسان؛ إِذ هو سبحانه وتعالى خالق الإنسان وصانعه، فالرجوع إليه ضرورة؛ إِذ هو تبارك وتعالى الخبير العليم بأسرار الإنسان، المحيط بحقيقة نفسه، القادر على إصلاحها، والرجوع إليه سبحانه يعني الرجوع لشرعه ودينه الذي شرعه لعباده.

    ولهذا لا يتلكأ في الرجوع لله عز وجل والاستجابة لشرعه ودينه أحدٌ تجرَّد وأنصف من نفسه، ونجَّاه الله عز وجل من الهوى والعصبية للباطل.

    وقد وردت المقابلة بين المؤمنين والمخالفين في آياتٍ كثيرةٍ، يذكر فيها الله عز وجل المؤمنين، في مقابلة غيرهم ممن يعرضون عن الاستجابة لله عز وجل، ولشرعه ودينه، بحيثُ يمكن لمن يتدبر هذه الآيات الكريمات أن يقف على صفات المؤمنين تجاه ما شرعه الله عز وجل، في مقابلة صفات ودوافع غيرهم تجاه ما شرعه الله عز وجل، وكيف أن عدم الاستجابة لما شرعه الله عز وجل تأتي من اتباع الهوى والشيطان ومرض القلوب.

    فمن ذلك: قوله سبحانه وتعالى: «لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِين َ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ» [النور: 46 - 52].

    ومن ذلك أيضًا: قوله عز وجل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا» [النساء: 59 - 65].

    وقد ذَكَرَ أهلُ العِلْم أَنَّ الأمر بالرَّدِّ إلى الله عز وجل المذكور في صدر هذه الآيات الكريمات: يعني الرَّدَّ إلى كتابه ، وأما الردّ إلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقال العلماء: هو الردُّ إلى السُّنَّة.

    يقول الإمام ابن كثير رحمه الله: «وهذا أمرٌ من الله عز وجل بأَنَّ كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أَنْ يُرَدَّ التَّنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة؛ كما قال تعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) [الشورى: 10] ، فما حَكَمَ به الكتابُ والسنة وشَهِدَا له بالصحةِ؛ فهو الحق ، وماذا بعد الحق إلا الضلال ، ولهذا قال تعالى: (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) [النساء: 59]؛ أي: رُدُّوا الخصومات والجهالات إلى كتابِ الله وسُنَّةِ رسوله ، فتَحَاكموا إليهما فيما شَجَرَ بينكم (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) [النساء: 59] ، فدَلَّ على أَنَّ مَنْ لم يتحاكم في مَحِلِّ النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلكَ فليس مؤمنًا بالله ولا باليوم الآخر ، وقوله: (ذلك خير) [النساء: 59]؛ أي: التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله والرجوع إليهما في فصل النزاع (خير وأحسن تأويلا) [النساء: 59]؛ أي: وأحسن عاقبةً ومآلًا كما قاله السدي وغير واحد ، وقال مجاهد: وأحسن جزاءً ، وهو قريبٌ»( 4).

    في تفسير الآيات المذكورة من سورة النساء: «إن للعقل البشري وزنه وقيمته بوصفه أداة من أدوات المعرفة والهداية في الإنسان، هذا حق، ولكن هذا العقل البشري هو عقل الأفراد والجماعات في بيئة من البيئات , متأثرا بشتى المؤثرات، ليس هناك ما يسمى (العقل البشري) كمدلول مطلق! إنما هناك عقلي وعقلك , وعقل فلان وعلان , وعقول هذه المجموعة من البشر , في مكان ما وفي زمان ما، وهذه كلها واقعة تحت مؤثرات شتى؛ تميل بها من هنا وتميل بها من هناك. ولا بد من ميزان ثابت , ترجع إليه هذه العقول الكثيرة؛ فتعرف عنده مدى الخطأ والصواب في أحكامها وتصوراتها، ومدى الشطط والغلو , أو التقصير والقصور في هذه الأحكام والتصورات. وقيمة العقل البشري هنا هو أنه الأداة المهيَّأة للإنسان , ليعرف بها وزن أحكامه في هذا الميزان. الميزان الثابت , الذي لا يميل مع الهوى , ولا يتأثر بشتى المؤثرات.

    ولا عبرة بما يضعه البشر أنفسهم من موازين. فقد يكون الخلل في هذه الموازين ذاتها، فتختل جميع القيم ما لم يرجع الناس إلى ذلك الميزان الثابت القويم. والله يضع هذا الميزان للبشر , للأمانة والعدل, ولسائر القيم , وسائر الأحكام , وسائر أوجه النشاط , في كل حقل من حقول الحياة: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) [النساء: 59]. وفي هذا النص القصير يُبَيِّنُ الله سبحانه شرط الإيمان وَحَدّ الإسلام، في الوقت الذي يبين فيه قاعدة النظام الأساسي في الجماعة المسلمة؛ وقاعدة الحكم , ومصدر السلطان، وكلها تبدأ وتنتهي عند التلقي من الله وحده؛ والرجوع إليه فيما لم ينص عليه نصا , من جزيئات الحياة التي تعرض في حياة الناس على مدى الأجيال؛ مما تختلف فيه العقول والآراء والأفهام؛ ليكون هنالك الميزان الثابت , الذي ترجع إليه العقول والآراء والأفهام ! إن (الحاكمية) لله وحده في حياة البشر - ما جل منها وما دق , وما كبر منها وما صغر- والله قد سن شريعة أودعها قرآنه، وأرسل بها رسولًا يُبَيِّنها للناس، ولا ينطق عن الهوى . فسُنَّتُه صلى الله عليه وسلم مِن ثَمَّ شريعةٌ مِنْ شريعة الله . والله واجب الطاعة، ومن خصائص ألوهيته أن يسن الشريعة . فشريعته واجبة التنفيذ .

    وعلى الذين آمنوا أن يطيعوا الله - ابتداءً - وأن يطيعوا الرسول - بما له من هذه الصفة، صفة الرسالة من الله ، فطاعته إذن من طاعة الله , الذي أرسله بهذه الشريعة ، وببيانها للناس في سنته، وسنته وقضاؤه - على هذا - جزءٌ من الشريعة واجب النفاذ، والإيمان يتعلق - وجودًا وعدمًا - بهذه الطاعة وهذا التنفيذ - بنص القرآن: (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) [النساء: 59]... ذلك فيما وَرَدَ فيه نصٌّ صريح، فأما الذي لم يرد فيه نصّ، وأما الذي يعرض من المشكلات والأقضية , على مدى الزمان وتطور الحاجات واختلاف البيئات - ولا يكون فيه نص قاطع , أو لا يكون فيه نص على الإطلاق؛ مما تختلف في تقديره العقول والآراء والأفهام - فإنه لم يُتْرَك كذلك تيهًا . ولم يُتْرَك بلا ميزان، ولم يُترك بلا منهج للتشريع فيه والتفريع، ووضع هذا النص القصير منهج الاجتهاد كله , وحدَّدَه بحدودِه ، وأقام (الأصل) الذي يحكم منهج الاجتهاد أيضًا (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) [النساء: 59]؛ رُدُّوه إلى النصوص التي تنطبق عليه ضمنًا، فإِنْ لم توجد النصوص التي تنطبق على هذا النحو ؛ فردوه إلى المبادئ الكلية العامة في منهج الله وشريعته، وهذه ليست عائمة ، ولا فوضى , ولا هي من المجهلات التي تتيه فيها العقول كما يحاول بعض المخادعين أن يقول، وهناك - في هذا الدين - مبادئ أساسية واضحة كل الوضوح , تغطي كل جوانب الحياة الأساسية , وتضع لها سياجا خرقه لا يخفى على الضمير المسلم المضبوط بميزان هذا الدين. (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) [النساء: 59] تلك الطاعة لله والطاعة للرسول , ولأُولي الأمر المؤمنين القائمين على شريعة الله وسنة الرسول، ورَدّ ما يتنازع فيه إلى الله والرسول، هذه وتلك شرط الإيمان بالله واليوم الآخر، كما أنها مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر، فلا يوجد الإيمان ابتداء وهذا الشرط مفقود، ولا يوجد الإيمان ثم يتخلف عنه أثره الأكيد. وبعد أن يضع النص المسألة في هذا الوضع الشرطي؛ يقدمها مرة أخرى في صورة (العظة) والترغيب والتحبيب؛ على نحو ما صنع في الأمر بالأمانة والعدل ثم التحبيب فيها والترغيب، (ذلك خير وأحسن تأويلا) [النساء: 59] ذلك خير لكم وأحسن مآلا، خير في الدنيا وخير في الآخرة، وأحسن مآلا في الدنيا وأحسن مآلا في الآخرة كذلك.

    فليست المسألة أن اتباع هذا المنهج يؤدي إلى رضاء الله وثواب الآخرة -وهو أمر هائل, عظيم - ولكنه كذلك يحقق خير الدنيا وحُسْنِ مآل الفرد والجماعة في هذه الحياة القريبة، إن هذا المنهج معناه أن يستمتع الإنسان بمزايا منهج يضعه له الله، الله الصانع الحكيم العليم البصير الخبير.

    منهج بريء من جهل الإنسان , وهوى الإنسان , وضعف الإنسان، وشهوة الإنسان، منهج لا محاباة فيه لفردٍ , ولا لطبقة , ولا لشعب ، ولا لجنس , ولا لجيل من البشر على جيل، لأن الله رب الجميع , ولا تخالجه - سبحانه - وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا - شهوة المحاباة لفرد , أو طبقة , أو شعب , أو جنس، أو جيل.

    ومنهج من مزاياه أن صانعه هو صانع هذا الإنسان؛ الذي يعلم حقيقة فطرته , والحاجات الحقيقية لهذه الفطرة , كما يعلم منحنيات نفسه ودروبها؛ ووسائل خطابها وإصلاحها ، فلا يخبط - سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا - في تيه التجارب بحثا عن منهج يوافق، ولا يكلف البشر ثمن هذه التجارب القاسية , حين يخبطون هم في التيه بلا دليل! وحسبهم أن يجربوا في ميدان الإبداع المادي ما يشاءون، فهو مجال فسيح جد فسيح للعقل البشري، وحسبهم كذلك أن يحاول هذا العقل تطبيق ذلك المنهج؛ ويدرك مواضع القياس والاجتهاد فيما تتنازع فيه العقول.

    ومنهج من مزاياه أن صانعه هو صانع هذا الكون , الذي يعيش فيه الإنسان، فهو يضمن للإنسان منهجا تتلاءم قواعده مع نواميس الكون؛ فلا يروح يعارك هذه النواميس؛ بل يروح يتعرف إليها , ويصادقها , وينتفع بها، والمنهج يهديه في هذا كله ويحميه.

    ومنهج من مزاياه أنه - في الوقت الذي يهدي فيه الإنسان ويحميه - يكرمه ويحترمه ويجعل لعقله مكانًا للعمل في المنهج، مكان الاجتهاد في فهم النصوص الواردة، ثم الاجتهاد في رَدِّ ما لم يَرِدْ فيه نصٌّ إلى النصوص أو إلى المبادئ العامة للدين، ذلك إلى المجال الأصيل , الذي يحكمه العقل البشري , ويعلن فيه سيادته الكاملة: ميدان البحث العلمي في الكون ; والإبداع المادي فيه .

    (ذلك خير وأحسن تأويلًا) [النساء: 59]، وصدق الله العظيم .
    وحين ينتهي السياق من تقرير هذه القاعدة الكلية في شرط الإيمان وحد الإسلام, وفي النظام الأساسي للأمة المسلمة, وفي منهج تشريعها وأصوله؛ يلتفت إلى الذين ينحرفون عن هذه القاعدة؛ ثم يزعمون - بعد ذلك - أنهم مؤمنون. (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك . يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدً) [النساء: 60] ألم تَرَ إلى هذا العجب العجاب، قوم يزعمون الإيمان ثم يهدمون هذا الزعم في آنٍ؟! قوم يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ثم لا يتحاكمون إلى ما أنزل إليك وما أنزل من قبلك؟ إنما يريدون أن يتحاكموا إلى شيء آخر ، وإلى منهج آخر , وإلى حكم آخر، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت الذي لا يستمد مما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، ولا ضابط له ولا ميزان , مما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، ومن ثَمَّ فهو طاغوت، طاغوت بادِّعائه خاصية من خواص الألوهية، وطاغوت بأنه لا يقف عند ميزانٍ مضبوطٍ أيضًا! وهم لا يفعلون هذا عن جهلٍ , ولا عن ظنٍّ، إنما هم يعلمون يقينًا ويعرفون تمامًا , أَنَّ هذا الطاغوت محرمٌ التحاكم إليه: (وقد أمروا أن يكفروا به) [النساء: 60]، فليس في الأمر جهالة ولا ظن؛ بل هو العمد والقصد، ومن ثَمَّ لا يستقيم ذلك الزعم، زعم أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك! إنما هو الشيطان الذي يريد بهم الضلال الذي لا يرجى منه مآب (ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدًا) [النساء: 60] فهذه هي العلة الكامنة وراء إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت، وهذا هو الدافع الذي يدفعهم إلى الخروج من حد الإيمان وشرطه بإرادتهم التحاكم إلى الطاغوت! هذا هو الدافع يكشفه لهم لعلهم يتنبهون فيرجعوا، ويكشفه للجماعة المسلمة لتعرف من يحرك هؤلاء ويقف وراءهم كذلك.

    ويمضي السياق في وصف حالهم إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله إلى الرسول وما أنزل من قبله، ذلك الذي يزعمون أنهم آمنوا به: (وإذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول , رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا) [النساء: 61].

    يا سبحان الله ! إنَّ النفاق يَأْبَى إلا أن يكشفَ نفسه ! ويأبى إلا أنْ يُنَاقِضَ بديهيات المنطق الفطري، وإلا ما كان نفاقًا.

    إنَّ المقتضى الفطري البديهي للإيمان؛ أن يتحاكم الإنسان إلى ما آمن به , وإلى من آمن به، فإذا زعم أنه آمن بالله وما أنزل , وبالرسول وما أنزل إليه؛ ثم دُعِيَ إلى هذا الذي آمَن به , ليتحاكم إلى أمره وشرعه ومنهجه؛ كانت التَّلْبِيه الكاملة هي البديهية الفطرية، فأَمَّا حين يصُدّ ويَأْبَى فهو يخالف البديهية الفطرية، ويكشف عن النفاق، ويُنْبِئ عن كذبِ الزَّعْم الذي زَعَمَهُ مِنَ الإيمان ! وإلى هذه البديهية الفطرية يحاكم الله سبحانه أولئك الذين يزعمون الإيمان بالله ورسوله، ثم لا يتحاكمون إلى منهج الله ورسوله، بل يصدون عن ذلك المنهج حين يُدْعَوْنَ إليه صدودًا ! ....

    (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله . ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك , فاستغفروا الله , واستغفر لهم الرسول , لوجدوا الله توابا رحيمًا) [النساء: 64]

    وهذه حقيقة لها وزنها، إن الرسول ليس مجرد (واعظ) يُلقي كلمته ويمضي . لتذهب في الهواء - بلا سلطان - كما يقول المخادعون عن طبيعة الدين وطبيعة الرسل؛ أو كما يفهم الذين لا يفهمون مدلول (الدين).

    إن الدين منهج حياة، منهج حياة واقعية، بتشكيلاتها وتنظيماتها , وأوضاعها , وقِيَمِها , وأخلاقها وآدابها، وعباداتها وشعائرها كذلك . وهذا كله يقضي أن يكون للرسالة سلطان، سلطان يحقق المنهج, وتخضع له النفوس خضوع طاعة وتنفيذ، والله أرسل رسله ليطاعوا - بإذنه وفي حدود شرعه - في تحقيق منهج الدين، منهج الله الذي أراده لتصريف هذه الحياة، وما من رسول إلا أرسله الله ، ليطاع , بإذن الله، فتكون طاعته طاعة لله، ولم يرسل الرسل لمجرد التَّأثُّر الوجداني ، والشعائر التعبُّدية؛ فهذا وَهْمٌ في فَهْم الدين؛ لا يستقيم مع حِكْمة الله من إرسال الرسل، وهي إقامة منهج مُعَيَّن للحياة , في واقع الحياة، وإلا فما أهون دنيا كل وظيفة الرسول فيها أَنْ يقف واعظًا لا يُعْنيه إلا أَنْ يقول كلمتَه ويمضي يستهتر بها المستهترون ويبتذلها المبتذلون!»أهـ .

    «وانتهيت من فترة الحياة ف إلى يقينٍ جازمٍ حاسمٍ، أَنَّهُ لا صلاح لهذه الأرض ، ولا راحة لهذه البشرية ، ولا طمأنينة لهذا الإنسان ، ولا رِفْعَة، ولا بَرَكة ، ولا طهارة ، ولا تناسُق مع سُنَن الكون وفِطْرة الحياة إلا بالرجوع إلى الله ، والرجوع إلى الله - كما يتجَلَّى في ظلال القرآن- له صورة واحدة ، وطريق واحد، واحد لا سواه؛ إِنَّهُ العودة بالحياةِ كلِّها إلى منهج الله الذي رسمه للبشرية في كتابه الكريم، إنه تحكيم هذا الكتاب وحده في حياتها، والتحاكم إليه وحده في شؤونها، وإلا فهو الفساد في الأرض ، والشقاوة للناس ، والارتكاس في الحمأة ، والجاهلية التي تعبد الهوى من دون الله: (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين) [القصص: 50].

    إنَّ الاحتكام إلى منهج الله في كتابه ليس نافلةً ولا تطوعًا ولا موضعَ اختيارٍ ، إنما هو الإيمان أو فلا إيمان (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) [الأحزاب: 36] (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون . إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين) [الجاثية: 18 - 19].

    والأمر إذن جدّ. إِنَّه أمر العقيدة من أساسها، ثم هو أمر سعادة هذه البشرية أو شقائها.

    إن هذه البشرية - وهي مِنْ صُنْع الله - لا تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله ؛ ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يخرج من يده - سبحانه - وقد جعل في منهجه وحده مفاتيح كل مغلق، وشفاء كل داء: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) [الإسراء: 82] (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) [الإسراء: 9]»أهـ.

    ولهذا كان الإمام ابن المبارك رحمه الله تعالى يقول: «إذا نطقَ الكتابُ بشيءٍ وإِذا جاءت الآثارُ بشيءٍ جَسُرْنا( 5) عليه»( 6).

    ومِنْ هنا تَعْلَم شناعة التحاكم إلى غير شرع الله سبحانه وتعالى. وقد قال سبحانه وتعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) [المائدة: 44] ، وفي آيةٍ ثانيةٍ: (هم الظالمون) [المائدة: 45]، وفي آيةٍ ثالثةٍ: (هم الفاسقون) [المائدة: 47].

    يصف ربُّنا سبحانه وتعالى مَن لم يحكم بما أنزل الله بهذه الصفات الثلاثة في سياقٍ واحدٍ مِنْ سورة المائدة ، مما يدلّ على عِظَم الجُرْم الذي يرتكبه المخالف لأحكام الله سبحانه وتعالى ، المتَّبع لغير ما أنزل الله، الْمُعْرِض عن تحكيم شرع الله المنزَّه عن النَّقص.

    فالله أسأل أن يهدينا جميعًا لما يحبه ويرضاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    "حقوق النشر محفوظة لموقع "المركز العربي للدراسات والأبحاث"، ويسمح بالنسخ بشرط ذكر المصدر"

    · الهوامش:

    (1) انظر: «معجم مقاييس اللغة» لابن فارس (2/91).
    (2) «مفردات ألفاظ القرآن» للراغب (248 ـ مادة: حكم).
    (3) «تهذيب اللغة» للأزهري (4/114).
    (4) «تفسير ابن كثير» (1/445).
    (5) يعني: أَقْدَمْنا. والمراد: أننا نُقْدِم إذا نطقتْ نصوصُ الكتاب والسُّنَّة ، ونسكتُ إذا سكتتِ النصوص ، فنحن ندور مع النصوص ، سكوتًا وإِقْدامًا.
    ( 6) «اعتقاد أهل السنة» لأبي القاسم اللالكائي (3/431) ، و«العلو» للذهبي (ص/150). وانظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (5/51).

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    18

    Arrow رد: تحكيم الشريعة طاعةٌ وخيرٌ


الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •