اعتراض:
إن زيادة لفظ "بذاته" عند الحديث عن الاستواء وعلو الله مثل أن يُقال: (استوى الله على العرش بذاته) أو (الله فوق عرشه بذاته) وما شابهها، مُنكرٌ وبدعة لم ترِد لا في القرآن ولا في السنة ولا عن السلف الصالح.
الجـواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
أولا: مُجرد عدم ورود لفظ في الكتاب أو السنة لا يعني أنه مُنكر وباطل، فما دام أن معناه صحيحٌ وموافق للنصوص الشرعية بفهم السلف الصالح، ولا يتضمن معنًا باطلا، وكانت هناك حاجة لاستخدامه، فلا حرج في إطلاقه.
وقد ورد عن السلف الصالح ألفاظ في مسائل العقيدة لم ترد في القرآن ولا السنة، ولكنها صحيحة في معناها، مثل قولهم: القرآن غير مخلوق، فلفظ "غير مخلوق" لم يرد في الكتاب والسنة، ولكنه مفهوم ومستنبط من القرآن والسنة.
ثانيا: قد ورد عن عدد من السلف استخدام لفظ "بذاته" أو "بنفسه"، وهما بنفس المعنى. من أمثلة ذلك:
1. قال أبو سعيد عثمان الدارمي (ت. 280 هـ) : «لأنه قال في آي كثيرة ما حقق أنه فوق عرشه فوق سماواته فهو كذلك لا شك فيه فلما أخبر أنه مع كل ذي نجوى قلنا علمه وبصره معهم وهو بنفسه على العرش بكماله كما وصف.» (1)
2. قال محمد أبو جعفر بن أبي شيبة (ت. 297 هـ) : « فهو فوق السماوات وفوق العرش بذاته متخلصا من خلقه بائنا منهم، علمه في خلقه لا يخرجون من علمه.»</SPAN> (2)
3. قال الحارث المحاسبي (ت. 243 هـ) : « وأما قوله {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه : 5] {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام : 18] و{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك : 16]» وذكر عددًا من الآيات، ثم قال: «فهذا يوجب أنه فوق العرش، فوق الأشياء، منزه عن الدخول في خلقه، لا يخفى عليه منهم خافية، لأنه أبان في هذه الآيات أن ذاته بنفسه فوق عباده لأنه قال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ [الملك : 16]} يعني فوق العرش، والعرش على السماء،..»</SPAN> (3)
وقد نسبها إلى السلف بالمعنى عدد من الأئمة ممن جاءوا بعدهم:
4. قال أبو عمر الطلمنكي المالكي (ت. 429 هـ) في كتابه "الوصول إلى معرفة الأصول": (أجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله: {وهو معكم أينما كنتم} ونحو ذلك من القرآن: أنه علمه، وأن الله تعالى فوق السموات بذاته، مستو على عرشه كيف شاء.) (4)
5. قال أبو نصر السجزي الحنفي (ت. 444 هـ) في كتابه الإبانة: (أئمتناكسفيان الثوري، ومالك، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، عبد الله بن المبارك، والفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه متفقون على أن الله سبحانه وتعالى بذاته فوق العرش، وعلمه بكل مكان) (5)
6. قال يحيى العمراني الشافعي (ت 558هـ) : (عند أصحاب الحديث والسنة أن الله سبحانه بذاته، بائن عن خلقه، على العرش استوى فوق السموات، غير مماس له، وعلمه محيط بالأشياء كلها) (6)
7. كتب ابن الصلاح الشافعي (ت 643هـ) على القصيدة في السنة المنسوبة إلى أبي الحسن الكرجي (532 هـ) : «هذه عقيدة أهل السنة وأصحاب الحديث» (7)، ومما جاء في تلك القصيدة:
عقيدة أصحاب الحديث فقد سمت *** بأرباب دين الله أسنى المراتب
عقائدهم أن الإله بذاته *** على عرشه مع علمه بالغوائب
8. أبو زكريا يحيى الصرصَرِي الحنبلي (656 هـ):
نظَم أبو زكريا الصرصري الحنبلي قصيدة أثنى فيها على عقيدة الشيخ عبد الكريم الأثري بعد وقوفه على عقيدته "المعتمَد في المُعتقد"، قال فيها مُبيِّنا عقيدة الشيخ:
ومذهبـه في الاسـتواء كمالــكً ** وكالـسلف الأبـرار أهـل التفضُّلِ
وقـال: استوى بذاتِـه فوق عرشه ** ولا تقُل استـولى فمَـن قال يُبطَـل
ومن الأئمة الذين صرحوا بلفظ "بذاته" أو "بنفسه" عند ذكر اعتقادهم:
9. قال محمد الكرجي القصاب (ت. 360 هـ) : قوله: {يخافون ربهم من فوقهم} دليل على أن الله -جل جلاله- بذاته في السماء [أي فوق السماء] على العرش، وليس في الأرض إلا علمه المحيط بكل شيء.) (8)
10. قال أبو محمد ابن أبي زيد القيرواني المالكي (386 هـ) في مقدمة رسالته المشهورة: (وإنه فوق عرشه المجيد بذاته وهو بكل مكان بعلمه.)
- قال أبو بكر محمد بن موهب المالكي -تلميذ ابن أبي زيد- في شرحه لرسالة الإمام ابن أبي زيد: (فلذلك قال الشيخ أبو محمد: "إنه فوق عرشه" ثم بيَّن أن علوه فوق عرشه إنما هو بذاته لأنه تعالى بائن عن جميع خلقه بلا كيف وهو في كل مكان بعلمه لا بذاته) (9)
11. قال أبو زكريا يحيى بن عمار الحنبلي (422 هـ) في رسالته: (لا نقول كما قالت الجهمية: "إنه تعالى مداخل للأمكنة وممازج بكل شيء ولا نعلم أين هو؟ "، بل نقول: هو بذاته على العرش وعلمه محيط بكل شيء، وعلمه وسمعه وبصره وقدرته مدركة لكل شيء. وذلك معنى قوله {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد : 4]فهذا الذي قلناه هو كما قال الله وقاله رسوله.) (10)
12. قال أبو نصر السجزي الحنفي (444 هـ) : (واعتقاد أهل الحق أن الله سبحانه فوق العرش بذاته من غير مماسة.) (11)
13. قال سعد بن علي الزنجاني الشافعي (ت. 471 هـ) في شرح قصيدته في السنة: (ولكنه مستو بذاته على عرشه بلا كيف كما أخبر عن نفسه، وقد أجمع المسلمون على أن الله هو العلي الأعلى، ونطق بذلك القرآن بقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى : 1]، وأن لله علو الغلبة والعلو الأعلى من سائر وجوه العلو لأن العلو صفة مدح عند كل عاقل، فثبت بذلك أن لله علو الذات، وعلو الصفات، وعلو القهر والغلبة.) (12)
14. قال أبو إسماعيل الأنصاري الهروي الحنبلي (ت. 481 هـ) في كتاب "الصفات" له: (باب إثبات استواء الله على عرشه فوق السماء السابعة، بائنا من خلقه، من الكتاب والسنة). فذكر رحمه الله دلالات ذلك من الكتاب والسنة – إلى أن قال: (في أخبار شتى أن الله عز وجل في السماء السابعة (أي فوقها) على العرش بنفسه، وهو ينظر كيف تعملون، علمه، وقدرته، واستماعه، ونظره، ورحمته، في كل مكان.) (13)
15. عبد الكريم بن منصور الموصلي الشافعي الأثري (651 هـ) :
نظَم أبو زكريا الصرصري الحنبلي قصيدة أثنى فيها على عقيدة الشيخ عبد الكريم الأثري بعد وقوفه على عقيدته "المعتمَد في المُعتقد"، قال فيها مُبيِّنا عقيدة الشيخ:
وقـال: استوى بذاتِـه فوق عرشه ** ولا تقُل استـولى فمَـن قال يُبطَـل
ثالثا: معناها صحيح، وهو أن الله فوق العرش، وأن الاستواء كان بالذات، بصفة تليق بجلاله لا نعلمها. واستواؤه سبحانه ليس كاستواء المخلوقات، فلا يُحيط به العرش ولا غيره، وليس هو بحاجة للعرش ولكنه استوى عليه لأنه {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج : 16]، و{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء : 23]. وهذا المعنى هو المفهوم والمُستنبط من النصوص الشرعية، ومن كلام بقية أئمة السلف ممن لم يستخدموا هذا اللفظ، من أمثلة ذلك:
انظر الأدلة من القرآن والسنة هنـا
- قول الصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «بين سماء الدنيا والتي تليها مسيرة خمس مئة عام وبين كل سماءين مسيرة خمس مئة عام وبين السماء السابعة وبين الكرسي مسيرة خمس مئة عام وبين الكرسي وبين الماء مسيرة خمس مئة عام والعرش فوق الماء والله تبارك وتعالى فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه» إسناده حسن. (14)
- قول الإمام عبد الله ابن المبارك (181 هـ) : قال علي بن الحسن بن شقيق: سألت عبد الله بن المبارك: "كيف ينبغي لنا أن نعرف ربنا عز وجل؟" قال: «على السماء السابعة على عرشه، ولا نقول كما تقول الجهمية: أنه ها هنا في الأرض» (15) إسناده صحيح.
وفي رواية: قال ابن المبارك: «بأنه فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه»(16) إسناده حسن.
- قال الإمام أحمد بن حنبل (241 هـ) : قال يوسف بن موسى القطان: "قيل لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: الله عز و جل فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه وقدرته وعلمه في كل مكان؟
قال: « نعم على العرش وعلمه لا يخلو منه مكان.»</SPAN>" (17)
- قال الحافظ أبو عيسى الترمذي (ت. 279 هـ) صاحب السنن: «عِلْمُ الله وقدرته وسلطانه في كل مكان، وهو على العرش كما وصف في كتابه.» (18)
رابعًا: مثل هذه الألفاظ التي لم ترد في النصوص الشرعية، والتي استخدمها السلف والخلف في مسائل العقيدة المختلفة، كانت لأجل الرد على أهل البدع الذين حرّفوا كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فأوَّلوا النصوص وصرفوها عن ظاهرها، فمثلا في مسألة كلام الله والخلق، قالت الجهمية بأن كلام الله مخلوق، فاضطر السلف للرد عليهم فقالوا: «كلام الله غير مخلوق»، وهو ما حصل في مسألة الاستواء، فقال بعض أهل البدع: «استوى الله على عرشه بقدرته وسلطانه، والله بذاته في كل مكان»، ومنهم من قال: «استواء الله هو استيلاءه على العرش أو الملك»، فرد عليهم السلف وأئمة السنة ممن جاءوا بعدهم بأن الله في كل مكان بعلمه وسلطانه، وهو فوق العرش بذاته. فكان استخدام مثل هذه الألفاظ الزائدة التي لم ترِد في النصوص الشرعية لحاجة، فيُحكم على اللفظ بناءًً على معناه، ولا يُستخدم إلا عند الحاجة، وللرد على أهل البدع، أما إذا كان المُستمع يفهم معناها دون هذه الألفاظ، خاصة عوام الناس الذين لم تنحرف فطرتهم، فالأولى تركها واللتزام بألفاظ النصوص الشرعية.
ولمزيد من أقوال السلف الصالح وأئمة السنة في علو الله واستوائه على العرش يُنظر في المقالات التالية:
- إستواء الله على العرش وعلوه على خلقه (2) : أقوال السلف
- إستواء الله على العرش وعلوه على خلقه (3) : أقوال العلماء بعد عهد السلف
(1) الرد على الجهمية للدارمي (ص44)
(2) العرش وما رُوي فيه لأبي جعفر محمد بن أبي شيبة (ص291-292)
(3) فهم القرآن ومعانيه للحارث المحاسبي (ص349-350)
(4) العلو للعلي الغفار للذهبي (ص246)؛ واجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم (ص142) تحقيق: عواد عبد الله المعتق.
(5) كتاب العرش للذهبي (ج2 ص341)؛ سير أعلام النبلاء أيضا للذهبي (ج17 ص656)، وأيضا كتابه العلو.
(6) الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار للعمراني (ج2 ص607)
(7) كتاب العرش للذهبي (ج2 ص342) قال – بعد ذكر البيت الذي فيه ذكر علو الله على عرشه من قصيدة الكرجي-: "وموجود بها الآن نسخ من بعضها نسخة بخط الشيخ تقي الدين ابن الصلاح، على أولها مكتوب: هذه عقيدة أهل السنة وأصحاب الحديث، بخطه رحمه الله." وذكر مثله في كتابه "العلو للعلي الغفار" عند الحديث عن قصيدة الكرجي.
(8) نكتب القرآن للقصاب (ج2 ص68-69)
(9) العلو للعلي الغفار للذهبي (ص 246)
(10) العلو للعلي الغفار (ص245)، وكتاب العرش له (ج2 ص340 و348)؛ وجزء منه في "الحجة في بيان المحجة" لإسماعيل الأصبهاني (ج2 ص107)
(11) رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص126)، تحقيق: محمد باكريم – دار الراية سنة 1414.
(12) اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم (ص197) تحقيق عواد المعتق – الطبعة الأولى
(13) كتاب العرش للذهبي (ج2 ص364)، وسير أعلام النبلاء (ج18 ص514)
(14) رواه أبو الشيخ في "العظمة" (ج2 ص688-689) قال: حدثنا الوليد، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا حجاج، حدثنا حماد، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن ابن مسعود رضي الله عنه، وذكره. وروى جزءا منه الإمام الدارمي في نقضه على بشر المريسي (1/ 422) : عن موسى بن إسماعيل ثنا حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن ابن مسعود. ورواه أحمد بن مروان الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم" (6 / 406) بسنده؛ واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" (ج3 ص395-396) بسنده، ومن طريقه رواه ابن قدامة في "إثبات صفة العلو" (ص151-152)؛ وغيرهم؛ كلهم من طريق عاصم بن بهدلة. وعاصم صدوق، وقد وثقه جماعة، وحسّن حديثه آخرون. قال الهيثمي في مجمع الزوائد في عدة مواضع: حسن الحديث. وقال الذهبي في ميزان الأعتدال (2 /357) : هو حسن الحديث. وقال أبو بكر البزار: لم يكن بالحافظ، ولا نعلمُ أحدًا تَرك حديثه على ذلك، وهو مشهور. (تهذيب التهذيب لإبن حجر 2 /251)
(15) "السنة" لعبد الله بن أحمد (ج1 ص111) قال: حدثني أحمد بن ابراهيم الدورقي ثنا علي بن الحسن بن شقيق قال سألت عبدالله بن المبارك، وذكره. رواته ثقات والسند صحيح.
(16) الرد على الجهمية للدارمي (ص40) قال: حدثنا الحسن بن الصباح البزار حدثنا علي بن الحسن ابن شقيق عن ابن المبارك. سنده حسن.
(17) شرح اعتقاد أهل السنة للالكائي (3 / 402)؛ ورواه الخلال في كتابه "السنة" عن شيخه يوسف بن موسى القطان عن الإمام أحمد، كما في كتابي الحافظ الذهبي "العرش" (ج2 ص247) و"العلو للعلي الغفار" (ص176)، قال: رواه الخلال عن يوسف، ويوسف بن موسى القطان ثقة، فسنده صحيح.
(18) الجامع الكبير للترمذي (المعروف بسنن الترمذي) (ج5 ص327) تحقيق: بشار عواد معروف –دار الغرب الإسلامي – الطبعة الأولى