الحمدُ للهِ وحدَه ، والصلاةُ والسلامُ على من لا نبيَ بعدَه ..
أمَّا بعدُ .
فإنَّ المُسلمَ فضلاً عن طالبِ العلم لتدعوهُ نفسُه في رمضانَ وغيرهِ للتزوُّدِ من الطاعاتِ ، والفناءِ في العباداتِ .. رحمةَ اللهِ يرجو ، والنجاةَ من أليمِ عقابهِ يطلبُ ، ومحبةَ اللهِ ينشُد .
النُّفوسُ في رمضانَ خُولِفت ، وفُطِمتْ عن بعضِ عوائِدها المشينةِ ـ والفِطامُ عن المألوفِ عسيرٌ ـ !
في هذه اللحظاتِ التي استقْبلْنَا فيها شهراً جديداً .. وودعْنا شهرَ السَّبْقِ والتنافس ، يجدُرُ بنا أن نحافظَ على بعضِ ما استفدنا منه ؛ رجاءَ أن نكونَ من العارفين بالله في كلِّ الشهور ، وتمسُّكاً بما ترَبَّتْ عليه النفسُ ؛ حتى لا نركنَ إلى الدَّعةِ فيتبلَّد الحسُّ ويصعبُ على النفسِ الرجوعُ ..
فالوَحَى الوَحى ؛ فالوقوفُ رجوعٌ !
* وهذهِ بعضُ الوسائلِ المعينة للثبات على الطاعات ؛ بل وللزيادة ، لا تَخضعُ لقانون مفصَّلٍ ، ولا لبرمجةٍ مُنظَّمة ؛ فالإنسانُ أعرفُ بما يناسبُه ، ويتلاءمُ مع إمكاناته وميوله .. ( والمُتَنفِّلُ أميرُ نَفْسهِ ) ..
أولاً : العباداتُ الرمضانيَّةُ المُقَيَّدة .
وأعني بذلك العباداتُ التي حثَّ عليها الشارعُ بإطلاقٍ ، وأوجبها في رمضانَ ، أو استحبَّها استحباباً شديداً يحُرمُ المُسلمُ إبان تركها من الخيرِ العظيمِ ..
وأصولُها أربعُ عباداتٍ :
العبادةُ الأُولى : الصِّـيامُ .
وهيَ عَصَبُ الشَّهْرِ ، ورُوحه .. الكلامُ عن عبادةِ السِّر ذُو تشعباتٍ مختفلةٌ ،
أعظمُ مقاصدِه : تحقيقُ التقوى .
والثباتُ على هذه العبادةِ يكونُ بالآتي :
سهُلَ الصيامُ في آخر الشهرِ ؛ لاعتياده .. فيحسنُ بالمُسلمِ المدوامةُ حتى تنقضي الأيامُ فيثقلُ بعد ذلك ..
وللمُسلمِ التَّخيرُ في الطريقةِ المناسبةِ بحيثُ لا يمرُّ عليه شهرٌ إلاّ وله منه نصيبٌ .
والصيامُ في غيرِ شهرِ رمضانَ ذُو فضلٍ عظيمٍ ، وأجرٍ جسيمٍ ، المحرومُ منهُ محرومٌ ؛ إذِ اليوم الواحد يُباعدُ عن النار سبعينَ خريفاً ، كما في مسلمٍ عن أبي سعيد ـ فكيفَ بكثرةِ الصيام ـ ؟!
أما صيامُ ثلاثة أيامٍ ، فكصيامِ الدهر ـ كما لا يخفى ـ ، وهذا ثابتٌ في الصحيحين عن ابن عمروٍ .
أمّا السابقون السبَّاقون ، فلو بدأَ المسلمُ من غدٍ في صيامِ داودَ فلن يشقَ ذلك عليه .. والأولى التدرج ، والمُسلمُ أعلمُ بنفسه ..
والبّدءُ بصومِ يومٍ وإفطارِ يومين أدعى للخطوِ الجيَّد للحاقِ بركبِ السابقين بالخيرات .
وبهذه الطريقةِ ـ وإن صعُبَت في البَدء ؛ لندرةِ المنافسين ـ إلاَّ أنها ستُحولُ طالبَ العلمِ بعد زمنٍ إلى إلْفِ الصيامِ ، ولن يجدَ بُدّاً من مفارقته ، فينظِمُّ إلى قافلة العلماءِ ( الصُوَّام ) .
فإنْ كان لا يستطيعُ لغلبةِ الأشغالِ ونحو ذلك .. فلا يُغلب على صومِ القليلِ ولو يوماً واحداً .. فالغلبةُ حِرْمان !
العبادةُ الثانية : قِيامُ الليـلِ .
أجْمِل بشرفِ المؤمنِ ، وأحسن بعبادةَ المخلصين ..
ثناءُ الربِّ ، وصِدقُ العبدِ ، ونضارةُ الوجهِ ، وطريقُ الثبات !
كَمْ من طالبِ علمٍ راوحَ بين قديميه كثيراً أثناء التراويح ، لسانُ حالهِ وكثرةُ تفكيرهِ : كمْ ركعةٍ بقيتْ وننتهي ؟!! ـ مع حرصهِ الشديدِ على هذه العبادة ـ لأنه لم يتعرفْ إلى الله في الرخاءِ بالقيامِ على متنِ الشهور والأيامِ ، فجاءتِ الشِّدَّةُ فخُذِلْ .. وقد حفظَ ما حفظَ في فضلِ هذه العبادةِ ، لكنَّه أفنى لياليه بالنقاشات والمجادلات ، تحت غطاء : ( مذاكرةُ ساعةٍ أحبُّ إليَّ من قيامِ ليلة ) !
والله المستعان .
أخي الكريمَ : الآن الآن في في يومِ العيد ، قُمْ ، ولو بمقدار ( حلبِ الشاةِ ) ..
فرصةٌ للثباتِ ,, فالنُّفُوس متروِّضة ،، والهمم متوقدة .. فإذا أقبلتِ النَّفسُ فأحسنْ إليها ..
أما الحافظُ لكتابِ اللهِ ؛ فأمرُهُ متيسِّرُ لو أضاعَ لياليه فقد أضاعَ نفسَه ..
أما من يحفظُ مقداراً يسيراً ، فقمْ به ، ولو أن تتكرره كلَّ ليلةٍ ، فسيثبتُ حفظُك ، وسيُفتحُ لك في التأمل .
فلو كانَ يحفظُ جزءَ عمَّ فقط ، أو سورةَ الكهفِ أو مريم ....
فما المانع من أن يقومَ به كلَّ ليلة ؟
والتدرجُ ـ كما أسلفتُ ـ حسنٌ . ( والمتنفلُ أميرُ نفسه ) ..
أما من لا يصلي حتى الوترَ ، فأحسنَ اللهُ عزائَه !
العبادةُ الثالثةُ : العنايةُ بالقرآنِ ؛ حفظاً ، وتدبراً ، وتلاوةً ، ومطالعةٍ للتفاسيرِ ....
فليحافظُ المسلمُ على ما تعوّد ، ولو بالقليلِ الدائمِ ..
يقول ابن القيِّمِ ـ رحمهُ اللهُ ـ : ( ما أشدها من حسرة ، وأعظمها من غبنة ، على من أفنى أوقاته في طلب العلم ، ثم يخرج من الدنيا وما فهم حقائق القرآن ، ولا باشر قلبَه أسرارُه ومعانيه ) !بدائع الفوائد ( 1/201) .
العبادةُ الرابعةُ : الجُـوْد !
غفرَ الله لنا تقصيرنا ..
لن تنالوا البرَّ حتى تنفقوا مما تحبون !
يُعوّدُ المسلمُ نفسَه على البذل والتضحيةِ والإيثار بعد هذا الشهر الفضيل ..
وانظر موضوعاً لأخي المسيطسر : هنـا
تلكمْ ـ أحبتي في الله ـ عباداتٌ مطلقةٌ محبَّبةٌ لربِّ العالمين ، حَرِصْنَا عليها في شهر رمضانَ ، فليكنْ لنا منها في أيامنا أوفرُ الحظِّ والنصيب .
اللهمَّ لا تعذِّبْ قلباً دلَّ عليك ..
واغفر لي عملاً ادعيتُ أني أردتُ به وجهك ، فخالطَ قلبي ما علمتَ .
وللحديث تتمةٌ يسيرةٌ أُتبِعها ـ إن شاء اللهُ تعالى ـ