بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، واتبع هداه، أما بعد: فهذا هو الجزء الرابع من كتاب العجالة في شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني رحمه الله، وقد ضم خمسة أبواب وفق ترجمة المصنف، وهي أبواب البيوع وما شاكل البيوع، وباب الوصايا والمدبر والمكاتب والمعتق وأم الولد والولاء، وباب الشفعة والهبة والصدقة والحبس والرهن والعارية والوديعة واللقطة والغصب، وباب أحكام الدماء والحدود، وباب الأَقضية والشهادات، وقبل الشروع في المقصود أذكر أمورا رأيت ذكرها مفيدا:
أولها أن الفقه في اصطلاح العلماء هو استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، وهذا يختلف عن المراد الشرعي من معنى الفقه، فإنه يضم الإيمان والإسلام والإحسان، ولك أن تقول إنه يشمل العقائد الحقة، والأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة، وهي كما ترى منظومة متكاملة يصلح بها ظاهر الإنسان ويزكو بها باطنه، وتنضبط بها علاقاته بغيره، والفقه بهذا المعنى هو الذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم به لابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حيث قال: "اللهم فقهه في الدين"، وهو الذي قال فيه: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"، رواه الشيخان عن معاوية رضي الله عنه، وهو الذي تضمنته آية البر في قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَة ِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) } (البقرة:177)، وهو الذي جاء في وصية لقمان عليه السلام لابنه في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} (لقمان:13)، وقوله تعالى: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) } (لقمان:16-19)، وهو الذي ضمه حديث جبريل عليه السلام في معالم الدين الثلاثة التي هي الإيمان والإسلام والإحسان، وكل تال من هذه الأقسام الثلاثة مبني على المتلو منها، فلا تصح الأعمال، ولا الأخلاق بدون عقيدة، وما أقل ثمرة الأعمال إذا لم تترتب عليها الأخلاق، وأين مصداق العقيدة إذا لم يبرهن عليها بالعمل؟، ولك أن تقول أيضا إن كل اضطراب في الأعمال يدل على خلل ما في العقيدة، كما أن فساد الأخلاق يدل على أن القائم بالعمل لم يتمسك منه إلا بالصورة والشكل، قال الله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ }(الحج:37)، وقال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) } (العنكبوت:45)، وقال الله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) } (البقرة189)، فدخول البيوت من ظهورها فعل لم يشرعه الله ولا رسوله فكان مذموما، ولو تقرب به الناس وتواطأوا عليه، ودخولها من أبوابها هو الحق، لكن ينبغي أن تصحبه التقوى أيضا، ففاعل غير المشروع محتاج إلى التقوى ليقلع عن بدعته، وفاعل المشروع محتاج كذلك إليها كي لا تصير الصور عنده هي المقصودة، وينسى ما شرعت لأجله، وقال الله تعالى: { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) } (البقرة:203)، فلا بد لكل من المتعجل والمتأخر من التقوى، لا ينفعه اليوم الرابع دونها، ولا يضره نقصانه معها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "التقوى هاهنا"، وأشار إلى صدره ثلاث مرات، وهو في مسند أحمد وصحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم، ويقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية،،،"، الحديث، وفي الصحيح أيضا عن علي رضي الله عنه قال، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم،،، الحديث، فانظر كيف جمع النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء بين سفه العقل وهو طيشه وخفته، وبين إحكام صورة الطاعة وإتقانها، وهو مطلوب على كل حال، لكنه ليس دليلا كما تشاهد على استقامة الحال، وإذا كان الخروج من الدين والمروق منه متوقعا بل واقعا كما أخبر الصادق مع ذلك الحرص فكيف بما دونه من سوء الخلق وظلم العباد ونشر الفساد تحت ستار خادع تعمده الفاعل أو جهله؟، إن التزام الطاعات عموما والعبادات خصوصا في الصورة لا يغني وحده إذا لم يترتب عليه أثره، وإن كنا ندعو إليه، ونحرص عليه، ونتألم أن نرى كثيرا من المتهاونين فيه مع علمهم به، يجمعون إلى التفريط في تزكية أنفسهم به، التهاون في الإتيان به على صورته، فهم بتصرفهم وصنيعهم ينهون عنه وينأون عنه، وقد روى أحمد والبزار وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يارسول الله إن فلانة تكثر من صلاتها وصدقتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها"، قال: "هي في النار"، قال: "يارسول الله فإن فلانة يُذكر من قلة صيامها وصلاتها وأنها تتصدق بالأثوار من الأقط، ولا تؤذي جيرانها"، قال: "هي في الجنة"، وهو في صحيح الترغيب للألباني رحمه الله، وأثوار الأقط هي قطعه، والأقط بفتح الهمزة وكسر القاف هو اللبن المجفف، ولا ريب أن هذا الذي ذكر عن المرأتين في الصلاة والصيام والصدقة المتطوع بها، لا في المفروض منها، والمكثر من النوافل غالبا يحافظ على الفرائض، ومع ذلك ما أغنت عنه الكثرة في النجاة من النار .

والذي يعتد به من الفقه ويلزم عدم الخروج عنه ما كان منه مستندا إلى الدليل، على اختلاف العلماء فيما بعد الكتاب والسنة والقياس والإجماع المستيقن من الأدلة إثباتا ونفيا، ومع ذلك فإن مساحة العفو والحيز المتروك لاجتهاد العلماء في معظم أبواب الفقه واسع، ومما يمثل فيه هذا دلالات النصوص التي يفتح الله منها على من يشاء من عباده ما يشاء، وكذا الغوص على المقاصد والمصالح التي ما جاء الشرع إلا لجلبها وتكميلها، ودرء مضادها من المفاسد وتقليلها، فكل من كان غرضه طاعة الله تعالى والتزام شرعه مع توفر آلة الاجتهاد له، أو كان طالب علم مجدا فإنه مأجور فيما ذهب إليه أصاب أو أخطأ، فيسعه القول به ويبقى منسوبا إليه، لكنه لا يصبح بذلك دينا يعبد به الله تعالى، ويلزم الأخذ به ولا بد، فإنما ذلك لما قام الدليل عليه من الكتاب والسنة، اللذين ألزمنا ربنا باتباع ما فيهما كما قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)} (النساء:61)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض"، رواه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه، وكثيرا ما يكون الدليل الذي يساق إنما يتناول بيان حكم المسألة الأم، ثم تختلف أنظار الفقهاء بعد ذلك فيما ينبغي أن يقال عن التفاصيل التي تعرض والاحتياطات التي يلجأ إليها لتحقيق ما رمى إليه الشرع من وراء ذلك الحكم حسب ظن الناظر، ولا مناص لمن تصدى لشرح مصنف فقهي مذهبي راغبا في الجمع بين الحكم المقول به في ذلك المذهب وبين الدليل من التغاضي عن كثير من التفاصيل التي يوردها علماء هذا المذهب في المسألة الأم المستدل لها، ولا يعني ذلك بحال أنه يميل إلى كل ما أثبت، فإن المزاوجة بين شرح المصنفات والاستدلال لها أشد على المرء من أن يكتب في المسألة مستقلا غير مراع إلا ما يوصله إليه الدليل، لكننا في بلادنا محتاجون إلى هذا العمل لأسباب ذكرتها في غير هذا الموضع .
وبعد هذا فإن الواجب على المسلمين أن يرجعوا فيما يأتونه من الأعمال إلى دينهم قبل الإقدام عليها، فإن الله تعالى قد قال: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) } (الإسراء:36)، وقال النبي: "طلب العلم فريضة على كل مسلم"، وقال: "قتلوه قاتلهم الله، هلا سألوا إذ لم يعلموا أما كان شفاء العي السؤال"، وقال البخاري رحمه الله: "باب العلم قبل القول والعمل لقول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } (محمد:19)، فبدأ بالعلم"، انتهى، ولو راعى المسلمون هذا المبدأ لقامت حياتهم على الهدى الذي أنزله الله، ولنجوا من الضلال والشقاء كما وعد الله، ولواكبت النهضة العلمية عندهم النهضة المادية التي يخدمون بها مصالحهم، فلا تند دنياهم عن حظيرة الخير والصلاح، ولا يفلت زمامها من أيديهم عما خلقوا من أجله، وهو توحيد الله وطاعته، والمؤمنون من غير شك مطالبون بهذه المزاوجة بين خدمة دنياهم وخدمة أخراهم، يشير إلى ذلك قول الله تعالى: { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ } (البقرة:319و220)، وقوله: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) } (القصص:77)، ولا يتم لهم هذا المبتغى إلا إذا تلقى كل مسلم من علم دينه ما لا بد له منه مما تصح به عقيدته، وتصلح به أعماله، وتحسن أخلاقه، ومرد ذلك إلى ما يعرف عند العلماء بالضروري من علوم الدين الذي لا يجوز أن يكون موضع اختلاف كما نشاهد اليوم، كيف هو الميثاق الذي يضمن وحدة المسلمين وتماسكهم، ولا ضير عليهم أن يتخصص كل منهم بعد هذا القدر الذي لا بد لهم منه فيما يميل إليه ويرغب من علوم الدنيا أو علوم الدين، وإلا فلا يبعد أن تتحول تلك العلوم إلى معاول لهدم الدين ممن يظنون أنهم مسلمون .

لكن الحياة العامة اليوم من غير شك ناكبة عن الصراط المستقيم في معظم دول المسلمين، وما برح الحيز المقام من الحياة على الشرع يضيق بمرور الأيام، والبقية الباقية من الدول التي ما تزال حياتها مصونة إلى حد ما إذا قورنت بغيرها تتجه إليها أنظار الغرب الكافر وتجوس قواه ومكايده خلال ديارها بشتى الوسائل لتلحقها بالركب الناكب، والكفار لا يكتفون بهذا الذي فعلوه ويفعلونه، بل يريدون أن يصلوا إلى نهاية المطاف وهو أن يكفر الجميع كما كفروا، قال ربنا سبحانه: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً }(النساء:89) .

ووسائل الكفار والمنافقين المحسوبين على الإسلام والجاهلين بأحكامه إلى ذلك كثيرة، فإذا فقدوا ويئسوا من جدوى المكايسة والتغيير الهادئ المتعقل تحت غطاء العولمة وتبادل المصالح وحرية الأديان وحقوق الإنسان والإصلاح المزعوم والتوفيق بين الحضارة والدين اخترطوا سيوفهم وجردوا أسلحتهم فقاتلوا المسلمين حتى يردوهم عن دينهم، وقد جاء مصداق هذا في هذه العقود الأخيرة بعد أن ظن الناس أن الاستدمار قد تولى إلى غير رجعة، فإذا به يعود في صور أخرى وبوسائل مبتكرة، وتحت أغطية ما كانت تخطر بالبال، والمظنون أنها ستتطور وتتدعم وسيصبر الماكرون والكائدون على الأمد الذي يتحقق فيه مرادهم ولو طال، وخبراء الغرب يعدون الدراسات عن المستقبل ويقترحون على قادتهم ودوائر القرار عندهم ما يرونه معينا ومحققا لأغراضهم وإن كانوا يبدون للمسلمين من طرف الألسنة حلاوة، ويصرحون أنهم لا يحاربون الإسلام، ومن عجيب ما قرأته في تقرير لمؤسسة "راند"، ضمن "استراتيجيات غربية لاحتواء الإسلام"، للكتور باسم خفاجي دعوتهم إلى تقوية بعض المذاهب السنية المتبوعة التي نحب أئمتها ونكبر جهودهم في خدمة الدين، فهم يقترحون نشر الفتاوى الحنفية لتقف في مقابل الحنبلية التي ترتكز عليها الوهابية كما يزعمون، وهكذا دعوتهم إلى دعم الاتجاهات الصوفية وهو يرمون من وراء ذلك إلى توسيع المساحة التي يتحرك فيها الرأي عند المسلمين في دينهم لكون ذلك المذهب من أكثر المذاهب اعتمادا على القياس، وبطبيعة الحال فهم لا يقبلون أن يحكم الناس لا هذا المذهب ولا غيره، ولا بالتصوف أيضا، ولكنهم يعتمدون مبدأ شر الشرين وخير الخيرين، وإنما دعوا إلى هذا لأنه يوفر لهم موقعا في ذهن المسلم لإقناعه أكثر مما يوفر لهم ذلك مذهب آخر كما يحسبون، أما التصوف فلأنه كما هو مشاهد من وسائل التخدير والسكوت عن الباطل، بل والركون إلى أهله، والتحالف مع القائمين عليه، واعتماد مبدإ أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، ولما فيه من نشر العقائد الفاسدة، والمناهج المنحرفة، فكيف إذا كان غالبه تجاريا هم أصحابه المكاسب الزائلة، وقد كان المتصوفة ولا سيما في عهدهم الأول من أكثر الناس زهدا في متاع الدنيا وزخرفها، وأشدهم ابتعادا عن مظاهرها، وقد غدوا اليوم من المسرفين في الإقبال عليها، والركون إلى الظالمين فيها، واهتبال الفرص للإيقاع بخصومهم، واستعداء الحكام عليهم .

وثاني الأمور وهو مبني على الأول أن الأحكام الشرعية قد خاطب الله تعالى بها عموم المؤمنين لا خصوص العلماء والحكام منهم والقادرين، ممن ترجع إليه إقامة تلك الأحكام، وهذه هي القاعدة التي جرى عليها كتاب الله تعالى، ولو ذهبنا نذكر أمثلة لها لطال بنا المقام، فإنك قل أن تجد في كتاب ربك توجيه الخطاب إلى الفرد كيفما كان حاكما أو عالما، وهذا مطرد معلوم في أصول دينك من توحيد الله والإخلاص له، ولزوم طاعته وطاعة رسوله، والاستجابة لهما، والنهي عن تحكيم غيرهما، والأمر بالرد عند التنازع إليهما، والدخول في السلم كافة، وإقامة العدل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وكذلك في الفروع عبادات ومعاملات، كإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنكاح، والطلاق، وإحصاء العدة، ورعاية الأيتام، والجهاد، والإصلاح بين الناس، والقصاص، والمواريث، والآداب والسلوك، وغيرها، وسبب هذا التعميم في النداء أن علاقة المسلم بأحكام الله تعالى منازل ومراتب، فقد يقدر المسلم منها على واحد فيتعين عليه، وقد يقدر على أكثر منه فيلزمه، والمبدأ أن جميع المسلمين مطالبون باعتقاد مشروعية الحكم متى علموه من وجوب أو ندب أو حرمة أو كراهة أو إباحة أو رخصة أو عزيمة أو صحة أو فساد، كما أنهم مطالبون بتصديق أخبار الغيب والإيقان بها، ومجرد هذا الاعتقاد يثاب عليه المؤمن من ربه، ومن العجب أن بعض المنسوبين للعلم وهم يرون أحكام الله تعالى معطلة لا يفتأون يجتهدون في التهوين من شأن بعضها في نفس المؤمن، فمجرد اعتقاد كونها حكم الله المنزل يقلقهم، أو يقلق غيرهم ممن يرومون إزالة الحواجز التي تبعدهم عنهم كما يقولون عن الحدود إنها ليست لها الأولوية، وأن ما ينبغي أن يقام قبلها من الأحكام كثير حتى يوصل إليها، ويقولون عن المرتد إنه لا يقتل في الإسلام، إذ لا إكراه في الدين، وهكذا، واعتقاد المؤمن حكم الشرع يقتضي علمه أنه جالب للمصلحة دافع للمفسدة، وأن الأمر والنهي عنوان على ذلك، والأمر الثاني أن المسلمين جميعا مطالبون بالعمل على وفق حكم الله حسب استطاعتهم، لأن الله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } (التغابن:16)، والثالث أنهم مطالبون بالإعانة عليه وتشجيع فاعله ومحبته، والرابع النهي عن الباطل وتثبيط مريده، وكراهة فاعله بقدر ما هو عليه منه، فإن الحب في الله والبغض في الله من الإيمان، لكن من غير أن تنفصم عروة الولاء والبراء التي تجمع بين أهل الإيمان، بسبب ذلك التفريط والعصيان، قال تعالى:{فَمِنْهُم ْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) } (فاطر:32) .

ولا يخفى عنك أن من أحكام الله تعالى ما يتمكن الفرد المسلم من القيام به دون أن يتوقف ذلك على غيره، وهذا ظاهر في الكثير من فروض الأعيان، وهي أساس الإصلاح، الذي ينبغي أن يتقدم على غيره من أنواع الإصلاح، وهذا كالذي يجب على المسلم أن يعتقده من العقائد الحقة، أو يقوله ويفعله من الصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها، أو يلتزمه في اكتسابه الرزق وبيعه وشرائه وسائر معاملاته، أو ما يسير عليه ويسلكه في صلته بالناس، لكن ينبغي أن تدرك أن بعض هذا القسم كثيرا ما يكون مضيقا على المسلم فيه من محيطه المنحرف عن سنن الهدى بسبب التشريعات الوضعية التي تزاحم الشرع، والأمثلة لا نخفى عنك، والقسم الثاني هو فرض الكفاية الذي إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وما أكثر فرائض الكفاية المفرط فيها في هذا الزمان في جانب الإصلاح العام:

ولم أر في عيوب الناس شيئا ... كنقص القادرين على التمام

ومن الحكمة في توجيه تلك النداءات إلى المؤمنين كافة أن الأمة متضامنة متكافلة يخاطب مجموعها بما يخاطب به أفرادها، لأن فساد بعضها أو تقصيره يعود يالضرر على غيره، فالأمة كركاب السفينة الواحدة لا يجوز بحال لمن استبد بطابق منها أن يخرق فيه خرقا بحجة أنه له، لأنه ممنوع من الإضرار بنفسه، ولأن الضرر مع ذلك يلحق غيره، وقيام الأفراد في الأمة بحقوق الشرع لا يتم ولا يكتمل إلا بالتعاون والتكافل والآئتمار والتناهي، فلو لم يأتمر البعض كان لازما على الباقين أن يحملوهم على الائتمار والانكفاف، ولهذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبا على كل مسلم حسب استطاعته، وفي حدود ما يعلمه ويشرع له، وكل مسلم عالم ببعض أحكام الله فيتعين عليه الحرص عليها والدعوة إلى ما يعلمه منها، قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُو َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) } (التوبة:71)، وقال الله تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ }(المائدة:2)، وهذا التعاون على القيام بالأحكام الشرعية مما لا ينبغي أن يختلف فيه إلا أن يقع الاختلاف في كيفية الحمل المفتقرة إلى البيان لما طرأ على أوضاع المسلمين في هذه الأزمان، ولا شك أنها تابعة لما هو مشروع وفي الإمكان، ولنتعجل القول بأننا لسنا ممن يرون هذا الحمل بالقسر والعنف أو بالخروج على الحاكم أو بالتشنيع عليه الذي هو المقدمة لما وراءه من الشر، ولا نعتقد أن التنظيمات الحزبية طريق يوصل إلى هذا الذي نصبو إليه، ولا أنها مشروعة في ذاتها، بل إن على من يرون مشروعيتها أن يقروا بفشلها وفسادها قبل غيرهم، وعلى كل حال فليس هذا منهجنا ولا مقصدنا .

ولا يفوتني هنا أن أنبه إلى أن هناك بونا واسعا وفرقا شاسعا بين القول بأن مناهضة الحاكم لا تشرع، وأن التشنيع عليه لا يقبل، لكونه مقدمة إلى الشر والفساد، وبين السكوت عن الباطل فضلا عن الركون والرضا به ومداهنة فاعله، وترك المطالبة والمناصحة بالوسائل المشروعة، والسعي الجاد في استغلال ما هو متاح من الإمكانات المعاصرة، ولا يخفى أنه قد تعذر على معظم الناس الاتصال بالحكام ومخاطبتهم كفاحا، فينبغي أن ينظر فيما جد من الوسائل، ومنها ما يدعى عند المعاصرين بالمجتمع المدني الذي كثيرا ما يصنع سياسات الدول، ويعدل من منهجها لما له من الثقل في أوساط الناس، والدعوة إلى الله لم تستفد منه في معظم بلدان المسلمين، ومنها بلدي، وأنا أعرف أن مجرد هذا القول قد يعرض صاحبه للطعن فيه، لكني أعرف أيضا أن على المسلم أن لا يهين نفسه بأن يترك قول الحق الذي يراه هيبة من الناس، وبيان المانع المتوهم عند الممتنعين لا يتسع المقام لرده، ومن تلك الوسائل الرسائل المفتوحة التي تنشرها الجرائد، وكل الجهات تعمل بها، فما المانع من اعتمادها إذا تولى تحريرها أهل العلم والمعرفة والتجربة، واستعانوا بها في توجيه رغباتهم لحكامهم كلما دعا الأمر إلى ذلك، وقد أقر الحاكم هذا الأسلوب في البلد منذ عشرين عاما، وما زال المعنيون بالدعوة مترددين في اصطناعه يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى، والمتكلمون إنما يعنون بالامتداح والدعاء بالتوفيق للحاكم وإصلاح حاله، وأن يهيء الله البطانة الصالحة، ونحن معهم فيما عدا الأول، لكن أين المناصحة المطلوبة؟ .

فإذا علمت هذا فينبغي أن تعلم أيضا أن التعليم والتأليف في منظومة الشرع التي هي العقائد والأعمال والأخلاق غيركاف في الدعوة إليه سبحانه، وليس المراد التقليل من أهمية التعليم، ولا يجوز لأحد أن يستهين بما يبذله علماء الأمة والدعاة من الجهود في التعليم والتوجيه والتأليف لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أحكام الله تعالى التي يكتنفها الكفر العملي في بلاد المسلمين من كل الجهات، ويضيق عليها باستمرار، وإنما المقصود أن العلم لا يراد لذاته، وإنما لكونه طريقا لإصلاح النفوس وإصلاح الحياة في مختلف جوانبها، وقد يسوغ القول إن المكتبة الإسلامية قد بلغت في بعض ما يكتب حد الترف الفكري والتخمة في التأليف والتسجيل في مقابل تقصير كبير في جوانب تفتقر الدعوة إليها أكثر من غيرها وهي المرتبطة بالإصلاح العملي الميداني، فإن الله تعالى إنما أنزل كتبه وأرسل رسله ليقام ما فيها ويتبع الناس هديها، ويعيشوا أحكامها، ولم ينزلها لتكتب وتتعلم وتتدارس فحسب، فكيف إذا غلا الناس في مباحثها ودقائقها داخل محيط مقفل لا صلة له بالحياة العامة، في مقابل غفلة مطبقة عن الإصلاح الفعلي الميداني، إن التعليم أمر مطلوب مرغوب لا بد منه في كل زمان، لأنه بداية الطريق الحق إلى إقامة تلك الأحكام في الأنفس تسليما واقتناعا وعملا، ثم في الحياة العامة مظهرا ونظاما، لكننا نظن أن الجهد الذي يبذل فيه قد تجاوز الحد المطلوب، وأن ما يبذل في شق الإصلاح العملي قليل جدا، و"العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل"، كما كان سلفنا يقولون، وقال مالك بن أنس: "أدركت الناس وما يعجبهم القول، ولكن يعجبهم العمل"، وانظر إلى المواضيع التي تتناولها البحوث والرسائل الجامعية أو تلك التي يكتبها الأفراد وأنا منهم، وأحص ما يرجع منها إلى هذا الذي نتحدث عنه فستجده قليلا أو منعدما، وهذه المؤسسات التعليمية ولاسيما تلك المتخصصة في علوم الشرع من المفروض أن تكون هي رائدة الإصلاح، وأن يوجه القائمون عليها طلابهم هذه الوجهة التي تخدم بها شريعة محمد صلى الله عليه وسلم خدمة عملية .

ولعل من الخير أن أضرب أمثلة لهذا الذي أدعو إليه من العمل على إيجاد وسائل التمكين لأحكام الله تعالى، فلو أنك بذلت جهدك في تعليم الناس المضار التي تنشأ عن الربا، وما توعد الله تعالى به متعاطيه من العذاب في الآخرة، وما أخبر به من محقه سبحانه البركة منه، فإن كثيرا من الناس لا يتجاوزون الاقتناع بذلك، واعتقاد هذا الحكم، فإن مستهم الحاجة وقد لا تمسهم لجأوا إلى الاقتراض بالربا، لكنك لو اجتهدت في تأسيس جمعية للقرض الحسن، وأعددت لها قانونا أساسيا تبين فيه طريقة التمويل، وكيفية ضمانها للقروض من مانحيها للمحتاجين، ووافق عليه أولو الأمر، وأشعت بذلك القرض الحسن في الأمة، لكنت قد سسننت سنة حسنة وقاومت مقاومة ناجعة الاقتراض بالربا، وهب أنك تحدثت طويلا عن مضار ومفاسد الاختلاط بين الرجال والنساء فإن هذا وإن كان نافعا فقد لا يلتزمه إلا أفراد قلائل وما أحسب أنهم يتمكنون من الحياة إلا أن يقوم غيرهم على مصالحهم، لكن سعيك في إيجاد نموذج عملي صالح للاقتداء أنفع بكثير، فلتؤسس شركة للنقل أو مدرسة للتعليم أو غيرها من الهيآت وتسن فيها نظاما يفصل بين الرجال والنساء، إن عملك هذا يكون أنفع بكثير للأمة مما تقدم، وإذا كنت تشكو وتتألم من الحكم بغير ما أنزل الله فما تنفعك الشكوى مثل ما إذا سعيت في الإصلاح بين الناس بعيدا عن المحاكم التي تخالف شرع الله، إنك بهذا ومثله توفر نموذجا حيا تدعم به دعوتك، وتسعى في امتدادها إلى ساحة الحياة، وتوفر به جماعة تطبق بعضا من أحكام الله تعالى التي تعلمتها ولعلها تكون نواة لتطبيق أوسع لها في المستقبل .

إن كل مؤمن مسؤول عن هذا الأمر حسب استطاعته، ولا يسقط عنه واجب التمكين لأي حكم من أحكام الله وهو قادر عليه كيفما كان موقعه في جماعة المسلمين، وأهل العلم والدعوة هم المقدمون بعد الحكام يقع عليهم من المسؤولية في هذا الأمر ما لا يقع على غيرهم من عامة المسلمين، وليس تخلي الحكام عن هذا الأمر بمعف غيرهم ولاسيما العلماء من المسؤولية، ولا هو بالعذر المقبول في هذه الشريعة، قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) } (الحديد:25)، والسبيل إلى هذا الذي ندعو إليه لا يكون إلا بصرف بعض الجهد في البحث عن وسائل التمكين للأحكام الشرعية في الحياة العامة والخاصة، وأحسب والله أعلم ان الاجتهاد في هذا العصر مرده إلى هذا الأمر، وأن الوعد الوارد في حديث أبي هريرة عند أبي داود والحاكم وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس مائة كل سنة من يجدد لها أمر دينها"، يتناول في هذا العصر ذلك المعنى قبل غيره، إذا ما فائدة الاجتهاد الذي يجعل صاحبه نصب عينيه التوفيقَ بين حياة ناكبة عن الحق ودين جاء يقودها فغدت تستدرجه لتنحل عراه عروة عروة :

نرقع دنيانا بتقطيع ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع

وثالثها أن بعض الإخوة أخذ علي أني لم أحافظ على مراد المصنف بما كتبته في هذا الشرح، وأني ذكرت فيه ما لم يرده مصنفه، ومن قرأ ما كتبت بعين الإنصاف علم أني جمعت في هذا الذي دونته بين أمور، أولها: بيان معنى كلام المؤلف مع ذكر مشهور المذهب في المسألة، والثاني الاستدلال لأمهات المسائل حسب ما تيسر لي بذكر الأدلة من الكتاب والسنة والآثار ولاسيما تلك التي في الموطإ، وشرح ما يحتاج منها إلى شرح، وذكر وجه الدلالة فيها، والثالث أني قد أذكر ما وقفت عليه من الروايات المنقولة عن الإمام المخالفة للمشهور، وبيان ما رأيته يرجح على غيره منها، فإن لم يتيسر لي ذلك اكتفيت بقولي معلقا على ما أثبته: فيه نظر، فالظاهر من كلام هؤلاء الإخوة هداهم الله أنهم يريدون أن أكتب شرحا على الطريقة المذهبية الخالصة، فلا أتجاوز حل ألفاظ المؤلف، وذكر تفاصيل المسألة في المذهب وتفريعاتها، أما ما عدا ذلك فمحظور علي ولو كان حقا في مقابل قول ضعيف في المذهب، أو رواية غير مشهورة عن مالك جاء الدليل عاضدا لها وناصرا، ولو كان هذا هو المراد ما أقدمت على هذا العمل والله، لأن شروح الرسالة قد بلغت العشرات كما ذكرت ذلك في الجزء الأول، وما في تلك الشروح من التفاصيل والتفريعات والآراء لا مزيد عليه، وليس ما كتبته ببالغ معشاره، ففيم التعني إذن وقد كفانا ذلك من تقدمنا رحمهم الله، وخدموا الفقه بما كان مناسبا لزمانهم، أو بما كانوا يظنونه كذلك، وهذا الأمر قد بينته في رسالتي المسماة كيف نخدم الفقه المالكي؟، وأنا لا أزعم أني قمت بكل ما كنت أرغب في القيام به، لكني فعلت ما أستطيعه مما تمنيته، وما كل ما يتمنى المرء يدركه، ثم إن هذه المزاوجة بين شرح مصنف وبين ذكر الدليل والانتصار له ولو كان مخالفا لما في المصنف ليست بالأمر الجديد، فقد سلكها كثير من الناس في مختلف الفنون في النحو والصرف ومصطلح الحديث وأصول الفقه، وفي الفقه نفسه، فكثير من أهل العلم يذكرون الأقوال المخالفة ويقارنون بينها وبين المذهب الذي يتبعون كما تراه في المعونة للقاضي عبد الوهاب، وفي تآليف ابن العربي والقرطبي وفي شرح الشوكاني المسمى بالسيل الجرار، بل وفي الحواشي التي كتبت على الشروح كحاشية الشيخ على الصعيدي العدوي على شرح أبي الحسن على الرسالة، والحواشي على شراح مختصر خليل، لكن كثيرا من أصحاب تلك الحواشي لا يذكرون الروايات المخالفة للمشهور إلا بالإشارة العابرة، فتبين أن هذا الذي يريده بعض إخواننا قصدوه أولم يقصدوه ليس غير التعصب الذي ينبغي أن يمقت، فإن من اعتبر كل ما قيل في مصنف من المصنفات الفقهية حقا كله تحت زعم احترام الأئمة المتبوعين فإنه بفعله هذا يزري على غير الإمام الذي يتبع مذهبه، فيكون أول من لا يقيم وزنا لغير إمامه، ومخالفُه ممن يفعل فعله هو مثله في هذا الإزراء، فالعلة التي يعتمدون عليها للتمسك بكل ما في مذهب ما باطلة، لأنها تخرم أصلها كما يقول أهل الأصول .

ومن العجب أن هؤلاء لما أجبتهم ببعض ما ذكرت هنا زعموا أن هذا فيه خدمة لمن يقولون بعدم المذهبية، وأن ما كتبته يفرحهم، فهل لي أن أقول لأصحاب هذه الدعوة أيتعين على الواحد منا إذا قال ما يراه حقا وكان ذلك سببا في فرح أحد أن ينكص على عقبيه، فيقول الباطل ليغضب هذا الذي فرح بالحق؟، نعوذ بالله من الحور بعد الكور، إن من فعل هذا لا يختلف عن ذلك الذي أراد أن يغيض امرأته فخصى نفسه، ثم ما لي وللجماعات المتنازعة المتناحرة التي كثيرا ما يكون الباعث لها على هذا النزاع والمهاترات الكلامية هو حظوظ النفس وحب الظهور والصراع على النفوذ الوهمي، بئس الغرض من التأليف إن كان إغضاب هذا وإرضاء الآخر، إن غرضي أن أحصل بهذا العمل المتواضع على المثوبة من ربي، وأنا بعد وإن كنت آخذ على بعض الناس ولاسيما الشباب أمورا أشرت إلى بعضها في كتاب لي صدر منذ سنين، فلا بد من القول إن الحق هو التمسك بعقيدة السلف ومنهجهم، والأمة كلها ينبغي ان تلتقي على هذا، ولا يقبل من المفرط أن يجمع إلى التفريط إنكار الحق، ولا يصح أن نحتج بنزق أفراد وعجلتهم وتنطعهم فتنكر للحق الذي يدعون إليه، فإن رعونات الأفراد تحسب عليهم ومنهج السلف منها براء .

أما الذين ينكرون على الناس أن يخدموا مذهب مالك هذه الخدمة تحت غطاء الخوف عليه وكأنه بيضة يخشى عليها الكسر، فينبغي لهم أن ينظروا فيما هم عليه أيلتقي مع ما كان عليه مالك رحمه الله عقيدة ونهجا وسلوكا؟، أم أن غرضهم ليس غير الوقوف في وجه من يظنونهم خصوما فلم يعد لهم هم غير محاربتهم، مع أنهم لم ينازعوهم مصالحهم الفانية ونفوذهم المؤقت، والأيام دول، وعليهم بعد ذلك أن يتأملوا في موقف مالك نفسه من موطئه، وهو الذي اشتغل به نحو الأربعين سنة: يدرسه ويتلقاه عنه الناس من مختلف بقاع الأرض، وغالبه نصوص مرفوعة وموقوفة أو أقوال للتابعين وتابعيهم من شيوخ مالك، ومن فوقهم، أو أقوال لمالك نفسه، ومع ذلك لما اقترح عليه أبو جعفر المنصور تعميمه وإلزام الناس به في أرض الخلافة قال: "يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل، وسمعوا أحاديث وروايات وأخذ كل قوم بما سبق لهم، وعملوا به، ودالوا به من اختلاف أصحاب رسول الله وغيرهم، وإن ردهم عما اعتقدوا لشديد، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم"، انتهى، وهو في ترتيب المدارك للقاضي عياض (1/19و193)، وفي رواية أخرى وهي في مناقب مالك للشيخ عيسى بن مسعود الزواوي على هامش المدونة (1/25) قال: "ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين أن تحمل الناس على أقوال رجل يخطئ ويصيب، وإنما الحق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تفرقت أصحابه في البلدان، وقلد أهل كل بلد من صار إليهم"، انتهى، قال كاتب تلك المناقب معلقا على قول الإمام: "فانظر إنصاف مالك رضي الله عنه، وصحة دينه وحسن نظره للمسلمين، ونصيحته لأمير المؤمنين، ولو كان غيره من الأغبياء المقلدين، والعتاة المتعصبين، والحسدة المتدينين، لظن أن الحق فيما هو عليه، أو مقصورا على من ينسب إليه، وأجاب أمير المؤمنين إلى ما أراد، وأثار بذلك الفتنة، وأدخل الفساد"، انتهى .
ومما اشتهر عن مالك رحمه الله قوله: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه"، وقال: "ليس أحد بعد النبي إلا ويؤخذ من قوله ويترك، إلا النبي صلى الله عليه وسلم"، وانظر المدارك للقاضي عياض (1/146)، وجامع بيان العلم لابن عبد البر رحمهما الله .

ولنسأل هؤلاء عن جهودهم للتمكين لمذهب مالك في الحياة العامة وهم على صلة قوية بأصحاب القرار في بلدنا، ونقول لهم إذا توصلتم إلى فرض فقه مالك في الحياة العامة، وجعل مذهبه مهيمنا يقضى به ويرجع إليه في شؤون الحياة كما كان في الأندلس وفي أفريقية في غابر الأزمان، فسيسجل لكم ذلك في سجل المبرات إن شاء الله، ويومها ما أحسب أن تجدوا من يعترض على عملكم ممن يريدون قيام الشرع في الحياة، أما أنكم لا تذكرون مذهب مالك إلا لتردوا على من تظنونهم خصوما لكم مستغلين وسائل الاتصال والبث التي مكنتم منها وغدت مراتع لكم تصولون فيها وتجولون، وتستدعون إليها من ينصرونكم وينتصرون، أو يداهنونكم فيسكتون، وتزاوجون فيها بين أمرين متنافرين كل التنافر: دعوى اتباعكم مذهب مالك، والترويج لبدعكم وضلالاتكم التي لا تلتقي مع ما كان عليه أئمة المذاهب السنية المتبوعة، فإن هذا لا يقبل منكم، وبعد هذا الذي قلته فلا ضير أن يستدرك علي مستدرك ما يرى أني قد جهلته أو أخطأت فيه أو سهوت عنه، فإنه ما من أحد إلا ويؤخذ من كلامه ويرد عير المعصوم صلى الله عليه وسلم .

ورابعها هو ما أخذه علي بعض الإخوة منهم الناصح والكاشح من أنني نقلت في بعض ما كتبت عمن لا يرتضى منهجهم، وأنني نوهت بذكرهم، وأضفيت عليهم ألقابا ما كان لي أن أضفيها عليهم، وذكروا أحمد بن محمد بن الصديق الغماري رحمه الله، وجوابي أن أدعو لإخواني أن يجزيهم الله على نصحهم، وما قصدوه من بيان الحق حسبما تبين لهم، أما الكاشحون الذين نبزوني فإني أسكت عنهم، بل أسأل الله أن يرزقني وإياهم وسائر المؤمنين عفة اللسان عن إخوانهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يضمن لي ما بين لَحييه ورجليه أضمن له الجنة"، وأقول للفريقين إن الدافع لي إلى ذلك هو أني لم أقف على من استدل لأمهات مسائل رسالة ابن أبي زيد كما فعل الغماري في كتابه مسالك الدلالة، على ما في كتابه من السكوت أحيانا عن ضعف الأحاديث، وقد انحصرت استفادتي غالبا في إشارته إلى الأدلة، ومعظم ما ذكره من التعليل وبيان مناطات الأحكام هو لمن تقدمه من شراح الرسالة، والمؤلفين ولاسيما الباجي في شرحه للموطإ المسمى بالمنتقى، والمحذور الذي لا نختلف فيه هو أن ينقل المرء الباطل ويقره بالسكوت عنه كيفما كان مصدره، وأنا لم أنقل عن أحد شيئا أعلم أن فيه مخالفة للحق ثم سكت عنه، حاشا الآراء التي تذكر في طوايا المسائل لما في تتبعها من الطول، وقد ذكرت هذا في الجزء الأول من هذا الشرح، ثم إنه لا يصح أن يقام بين المسلم وأخيه حواجز تقطع الصلة بينهما، فله أن ينقل عن غيره ما هو حق، وأن ينتقد ما خالف الحق ويرده، ولا ينبغي أن نتلقى كل ما يشاع في مسألة ما ويروج على أنه من المسلمات التي لا يجوز أن يخرج عنها، وقد دخلت علينا من هذا الباب باب التسليم مفاسد جمة، وكثيرا ما ترى من ينقمه على الجماعة التي يخالفها يعتمد عليه في جماعته، وبإمكانك أن تقف على أمثلة لما تعقبته فيه في الجزء الثاني والثالث من هذا الشرح، وهذه إشارة إلى بعض هذا التعقب الوارد في هذا الجزء وحده، فانظر المواضع الآتية عند قول المصنف: ولا يجوز طعام بطعام إلى أجل"، وعند قوله: "ولا بأس بالفواكه والبقول وما لا يدخر متفاضلا"، وعند قوله: "ومن ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه"، وقوله: "ويحق على من له ما يوصي به،،،"، وقوله: "ومن استهلك عرضا فعليه قيمته"، وقوله: "ويؤدب الشريك في الأمة يطؤها"، وقوله: "ولا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلإ"، وقوله: "واليمين بالله الذي لا إله إلا هو".
ونبينا صلى الله عليه وسلم لم يمنعنا أن نحدث عن بني إسرائيل، فقد قال: "بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"، رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وإذا كان هذا في اليهود فكيف بالمسلمين؟، فالأصل في علاقة المسلم بأخيه هو هذا، وغيره عارض مسبب، لكننا مع هذا نفرق بين من له القدرة على التمييز بين الحق والباطل، وبين غيره من المبتدئين الذين يخشى عليهم الزيغان، فهؤلاء نقول لهم عليكم بالكتاب الفلاني أو العالم الفلاني إن أردتم العلم الشرعي المصفى، واجعلوا القاعدة في معرفة ما تقرأون إن لم تكن لكم القدرة على التمييز الرجوعَ إلى من تثقون فيهم لتتبينوا الحق، فإن العلم إنما يؤخذ من الرجال، فلم لا تراعى هنا مصلحة تأليف القلوب واجتناب اشتداد الشحناء والخلاف بين المسلمين، فيأخذ الناس بعضهم عن بعض فيما علموا أن الذين يخالفونهم قد أصابوا فيه، فتخف وطأة الاختلاف، ولا ريب أن إنكار كل ما مع الخصم من غير تمييز بين حق وباطل وصواب وخطإ من أعظم أسباب اشتداد الخلاف والشقاق، وقد وجدت الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله ينقل صفحات عن بعض الكتاب المسلمين المشهورين في أمور لهم فيها كلام حق، نقله عنهم ونوه بكلامهم، وذلك في كتاب مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/311 -321) قال: "ولنختم الكلام في هذا المقام بنبذة من كلام الكاتب المصري الشهير تعلق بالقومية قد أجاد فيها وأفاد، وقال في ختام نقله: "انتهى المقصود من كلامه، ولعظيم فائدته نقلته، ههنا"، انتهى .
وقال الشيخ محمد جمال الدين القاسمي رحمه الله في تفسيره المسمى (محاسن التأويل) (15/262) وهو بصدد ذكر ما يترتب على المسارعة إلى تبديع الناس وتكفيرهم: "ولعمر الحق إن هذا مما فرق الكلمة ونفر حملة العلم عن تعرف المشارب والآراء حتى أصبح باب التوسع في العلم مرتجا، ومحيطه بعد مده منحسرا، إذ هجرت كتب الفرق الأخرى، بل أحرقت، وأهين من يتأثلها، ورمي بالابتداع أو التزندق، كما يمر هذا كثيرا بمطالع كتب التاريخ وطبقات الرجال، فلا جرم نسيت الأقوال البافية، وعدت من الشاذ غير المقبول، وإذا ألصق اسم الإلحاد بقائلها فما ذا يكون حالها؟، وهذا كما لا يخفاك حيف على قواعد العلم، وغل للأفكار"، انتهى .
وقد يقال إن جمهورالمحدثين على عدم الأخذ عن المبتدع الداعي إلى بدعته، وإن اختلفوا في أخذ الحديث عنه إذا كان فيه رد لبدعنه، ويذكر ما قاله أهل العلم في هذا الأمر، قال في مقدمة فتح الباري الفصل السابع ص550: "وعلى هذا إن اشتملت رواية المبتدع سواء كان داعية أو لم يكن على ما لا تعلق له ببدعته أصلا هل ترد مطلقا أو تقبل مطلقا؟، مال أبو الفتح القشيري إلى تفصيل آخر فيه فقال: "إن وافقه غيره فلا يلتفت إليه هو للاستغناء عنه إخمادا لبدعته وإطفاء لناره، وإن لم يكن ذلك العلم عند غيره، ولم يوافقه أحد بحيث لا يوجد ذلك الحديث إلا عنده مع ما وصفنا من صدقه، وتحرزه عن الكذب واشتهاره بالدين، وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته، فينبغي أن تقدم مصلحة تحصيل ذلك الحديث، ونشر تلك السنة على مصلحة إهانته وإطفاء بدعته"، انتهى، وأقول لإخواني إن كلام أهل العلم ما لم يكن إجماعا لا ينبغي أن نعامله نفس المعاملة التي نعامل بها كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ونظير هذا كلام السلف في هجران المبتدع، وطريقة معاملته، فإنها تختلف باختلاف الأحوال والأزمان، فالمسألة كما ترون ليس فيها هذا الحجر الذي يسعى بعض الناس إلى فرضه على إخوانهم حتى إنني أعلم من الدعاة من ينصح بالاستفادة من الكتاب الفلاني لكن من غير العزو إليه خوفا من هذه المطاعن، وأعرف بعض الكتب في التفسير وغيره لم يستفد منها بعض الناس لهذا السبب، فلا حول ولا قوة إلا بالله .

وخامسها أن هذا الجزء قد اشتمل على بعض الأحكام التي لم تعد موجودة كثبوت القتل بالقسامة وأحكام الرق الذي قد يستثقله بعض القراء، فيقولون ما جدوى التعرض له وإنفاق الوقت في بيانه، والتعني في شرح مسائله المعقدة ومدارستها؟، والجواب أن الشارح تابع للمصنف الذي يشرحه، وأنا لم أستسغ أن أترك شيئا منه من غير بيان، وقد رأيت بعض من ألف مستقلا في الفقه في هذا العصر لا يتعرض للرق إلا في الأمور التي لا بد منها كالعتق في كفارات الإفطار في رمضان والحنث في اليمين والظهار والقتل الخطإ وشروط القصاص والشهادات وشروط وجوب صلاة الجمعة والزكاة والحج، ونحو ذلك، ومع أن هذا مسلك حسن فإن أصحابه كما ترى لم يجدوا بدا من أن يتعرضوا لبيان هذه الأحكام واختلاف الأحرار فيها عن المملوكين، ثم إن هذا الأمر هو في كتاب الله تعالى الذي نعبد الله بتلاوته ونتقرب إليه بتدبره، فلا مناص لنا من أن نتعلمه، ولهذا الأمر شبه بهذا الذي يطالبنا به من ينصحوننا أن نكف ألسنتنا عن اليهود والنصارى وسائر الكفار، فنقول لهم لو سكتنا عنهم فيما نختار من الكلام، فهل المطلوب منا أن نترك تلاوة كلام ربنا وهو يلعنهم ويبين مكايدهم وشرورهم؟.
ليس بنا من أسف على انقراض الرق في معظم بلدان العالم ونتوقع أن ينقرض في الباقي منها، لكن معرفة أحكام الشرع الخاصة به تمكن المسلم أن يقف على تشوف هذا الدين لتحرير الإنسان، وما أولاه لهذا الأمر الذي تعارفته البشرية وكان نظاما فيها قبل الإسلام بآلاف السنين، فلما جاء الله بهذا الدين اعتبر تحرير الرقاب من أعظم ما يتقرب به إلى الله تعالى كما قال سبحانه: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) }(البلد:11- 13)، وجعل عتق الرقبة كفارة لقتل النفس خطأ، والحنث في اليمين، وكفارة الظهار، وسن لتحريرها وسائل كثيرة منها الحض على العتق، واعتباره من الطاعات العظيمة التي يترتب عليها العتق من النار، لا فرق بين أن يكون المعتق مسلما أو كافرا، ومنها إدخال تحريرها في مصارف الزكاة، ومنها العتق بالمكاتبة والاستسعاء والتدبير والاستيلاد وتمثيل المالك بمملوكه، وتكميل عتق الشقص، والعتق جبرا بملك ذي الرحم، وبملك الكافر للمسلم، وغير ذلك، فالإسلام بهذا وغيره هو الذي أنهى الرق من العالم ولم ينهه من نسب إليهم من الكفار، وإن سنوا في ذلك قوانين وأصدروا قرارات، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .