لا أحد يشكك في عظمة علماء النحو وتمكنهم من أدوات البحث العلمي كالتحليل والاستنباط والتعليل.. وحرصهم على اطراد قواعدهم وانتظام المنجز اللغوي داخل تلك القواعد ،كما ينتظم الخيط حبات الخرز.. إلا أنهم وفي غمرة هذا الاستغراق في طرد تلك القواعد، وإخضاع كل ما قد يبدو متمردا عليها لسلطانها.. يغفلون أحيانا عن جانب مهم من جوانب اللغة وهو السياق، فما يعنيهم هو اطراد القواعد واتساقها، ولذلك فهو يوؤلون تارة ويقدرون تارة أخرى.. دون أن يضعوا في الاعتبار تأثير تلك العمليات التي يقومون بها على أسيقة النصوص وأغراض المتكلمين.. أذكر في هذا الصدد تناولهم للبيت الشعري القائل:
حتى إذا جن الظلام واختلط..
جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط..
فقد وجد النحويون أن هذا البيت يتعارض مع قاعدة عامة عندهم، وهي أنه لا يجوز الوصف بالجملة الإنشائية، لذلك فقد جعلوا تقدير الكلام: جاؤوا بمذق مقول فيه: هل رأيت الذئب قط.. ولا شك أن هذا التقدير وإن كان يطرد قاعدتهم النحوية إلا أنه يقتل معنى البيت قتلا، ويصرفه عن مراد الشاعر، ويشوه الصورة البلاغية الجميلة فيه، ومن المناسب هنا الإشارة إلى أن هذا الأسلوب لا يزال مستخدما في بادية نجد، فالبدوي يلجأ إليه أحيانا عند الرغبة في تقريب الصورة إلى ذهن المستمع، أو ربما لفقر قاموسه اللغوي وعجزه عن الاستطراد في التشبيه، فيلجأ إلى أقرب شئ في بيئته البدوية ويشبهه به، في قالب استفهامي مباشر لا يحتاج معه المستمع إلى مزيد إيضاح.. كأن يقول في معرض وصفه لعدو رجل: أنت شفت الضبعة؟!! أو في معرض وصفه لجمال امرأة: أنت شفت الظبي؟!!
أذكر أيضا مما استوقفني في هذا الجانب.. إصرار جلّ النحويين على طرد القاعدة النحوية التي تقول بضرورة أن يكون صاحب الحال معرفة ، وتشذيذهم النصوص التي جاء فيها الحال نكرة، في تجاهل غريب لسياق الكلام وأغراض المتكلمين.. فكيف بالله عليكم أو (عليهم )يفعل من يريد أن يصف حال النكرة؟!! ماذا أفعل إذا كان رجل من الرجال لا أعرفه دخل ضاحكا أو باكيا، وأريد لسبب أو لآخر إخبار محدثي بحالته عند دخوله، لا حالته قبلها، كما هو الحال لو كنت أروم وصف ذلك الرجل؟!! والعجيب في هذه المسألة أن النحويين يجيزون مجئ الحال نكرة إذا تقدمت على صاحبها، كأن تقول: (دخل ضاحكا رجل) لأنها في هذه الحال لا تلتبس بالصفة، أو بعبارة أخرى لا يمكن أن تعرب صفة!! فهل أدركتم حجم هذا التغييب المطبق للمعنى أو السياق، وحجم طغيان القواعد النحوية على عقول النحاة؟!!
ومن الطريف هنا أن ابن هشام في شرحة لألفية ابن مالك، وفي مستهل استعراضه للشواهد التي شذت عن القاعدة قال ما نصه (وقد جاءت نكراتٌ أحوالًا) !!! فهل تأملتم حجم المفارقة؟!! وهل رأيتم كيف وقع ابن هشام في الفخ دون أن يدري؟!! لا شك أن ابن هشام الذي نطق بهذه العبارة شخص آخر غير ابن هشام النحوي.. إنه متكلم عربي فصيح أراد أن يعبر عن معنى في نفسه فجاءت هذه العبارة على لسانه بشكل عفوي ،كما أتت على لسان الصحابي الذي قال: (وصلى خلفه رجال قياما) ولو أن عقلية النحوي كانت حاضرة في تلك اللحظة في ذهنه لراغ عنها إلى عبارة أخرى كأن يقول: (وجاءت بعض النكرات) لكن الله أراد أن يجري الحق على لسانه ولو كره النحويون، وهو أولهم
ما سبق هواجس خطرت بذهني فنقلتها إليكم.. فلا تخرجوها عن (سياقها) ولا تحمّلوها فوق ما تحتمل.. وتذكروا ما سبق أن قلت من أن المسألة ليست قصورا في إدراك النحويين.. بل إنشغال منهم بما رأوه أهم، وهو ـ عندي ـ ليس كذلك..
وفقكم الله وبارك فيكم.. وبانتظار مطارحاتكم يا شيوخنا الكرام