من رسالة ابن القيم رحمه الله تعالى إلى أحد إخوانه :
" .. ولهذا وصى بعض الشيوخ فقال احذروا مخالطة من تضيع مخالطته الوقت وتفسد القلب فإنه متى ضاع الوقت وفسد القلب انفرطت على العبد أموره كلها وكان ممن قال الله فيه (( ولاتطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا))ومن تأمل حال هذا الخلق وجدهم كلهم إلا أقل القليل ممن غفلت قلوبهم عن ذكر الله تعالى واتبعوا أهواءهم وصارت أمورهم ومصالحهم فرطا أي فرطوا فيما ينفعهم ويعود بصلاحهم واشتغلوا بما لا ينفعهم بل يعود بضررهم عاجلا وآجلا .
وهؤلاء قد أمر الله سبحانه رسوله ألا يطيعهم فطاعة الرسول لاتتم إلا بعدم طاعة هؤلاء فإنهم إنما يدعون إلى ما يشاكلهم من اتباع الهوى والغفلة عن ذكر الله.
والغفلة عن الله والدار الآخرة متى تزوجت باتباع الهوى تولد ما بينهما كل شر وكثيرا ما يقترن أحدهما بالآخرة ولا يفارقه ومن تأمل فساد أحوال العالم عموما وخصوصا وجده ناشئا عن هذين الأصلين فالغفلة تحول بين العبد وبين تصور الحق ومعرفته والعلم به فيكون من الضالين واتباع الهوى يصده عن قصد الحق وإرادته واتباعه فيكون من المغضوب عليهم
وأما المنعم عليهم فهم الذين من الله عليهم بمعرفة الحق علما وبالانقياد إليه وإيثاره على ما سواه عملا وهؤلاء هم الذين على سبيل النجاة ومن سواهم على سبيل الهلاك ولهذا أمرنا الله سبحانه أن نقول كل يوم وليلة عدة مرات اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
فإن العبد مضطر كل الاضطرار إلى أن يكون عارفا بما ينفعه في معاشه ومعاده وأن يكون مؤثرا مريدا لما ينفعه مجتنبا لما يضره فبمجموع هذين يكون قد هدي إلى الصراط المستقيم فإن فاته معرفة ذلك سلك سبيل الضالين وإن فاته قصده واتباعه سلك سبيل المغضوب عليهم وبهذا يعرف قدر هذا الدعاء العظيم وشدة الحاجة إليه وتوقف سعادة الدنيا والآخرة عليه.. " .