د.شيرين حامد فهمي
كلما ذهبتُ إلى الجامعات الخاصة – لكي أقوم بالتدريس للطلاب المصريين - اعتصرني الألم وخنقتني الحسرة على أمرٍ قد يراه البعض أنه "سفسطة" أو "تطرف"؛ إلا أني لا أراه كذلك. إنه الأمر الذي يتعلق بإجبار المدرس على استخدام اللغة الإنجليزية في التدريس، وعدم استخدام اللغة العربية "إلا في الضرورة القصوى"، على الرغم من أن جميع الطلاب مصريون أباً عن جد، وعلى الرغم من كون عربيتهم هي اللغة الأم.
حينما سألتُ عن المنطق في ذلك، قيل لي أن اللغة الإنجليزية هي لغة العصر، وأنها هي المفتاح الحقيقي لأي وظيفة، ولاسيما في البنوك ومكاتب المحاماة والشركات العابرة للجنسيات. ثم قيل لي أن خريجي الجامعات الخاصة لابد وأن يكونوا متقنين للغة الإنجليزية ليرفعوا "بريستيج" جامعاتهم عالياً، وأن هؤلاء الخريجين – كما يؤكد مبررو ذلك الأمر - لا يمكن أن يدفعوا كل هذه المصاريف ليتكلموا العربية في النهاية، أو تتم مساواتهم بخريجي الجامعات الحكومية.
تفكرتُ وتأملتُ في تلك الحجج، فأخذت أُفندها حجة حجة، محاولةً الوصول إلى حقيقة تلك الحجج التي تُقدم إلينا كمدرسين، والتي تُقدم إلى طلاب تلك الجامعات، وإلى أولياء أمورهم. أولاً، إن اعتبار اللغة الإنجليزية لغة العصر لا يعكس إلا تحيزاً وتعنتاً ضد اللغات الأخرى، وبالتالي الثقافات الأخرى، حيث ترتكز اللغة في قلب الثقافة. وهذا التحيز يمثل استبداداً فكرياً لا يجوز القبول به على أي حالٍ من الأحوال. لا يجوز قبوله من قبل العرب، ولا من قبل غيرهم. بمعنى آخر، إن قبوله يمعتبر إهانةً واضحةً لجميع الثقافات غير الإنجليزية؛ سواءً كانت الثقافة العربية أو اللاتينية أو الهندية أو الإفريقية أو الفرنسية أو الألمانية أو النرويجية...إلخ.
ثانياً، إن اعتبار اللغة الإنجليزية هي المفتاح الحقيقي لأي وظيفة إنما يمثل واقعاً أليماً ومخزياً في مصر، بل في منطقتنا العربية بأسرها. فما معنى أن تنتشر البنوك والشركات والمؤسسات الأجنبية والعابرة للجنسيات في ربوع منطقتنا، لتصير بعد ذلك موطناً أساسياً لخريجي الجامعات الخاصة الناطقين بالإنجليزية؟ فمن يخدم هؤلاء الخريجون في النهاية؟ هل يخدمون أجندتنا الوطنية الداخلية أم الأجندات الأجنبية خارجية؟ وإلى أين يتم توجيه تلك المنظومة التعليمية الخاصة؟ إلى تنمية وطنية ناهضة ورافعة أم تنمية مستوردة مجهضة ومحبطة؟
ثالثاً، إن وضع خريجي تلك الجامعات في خانة "مميزة" – حتى يصيروا مختلفين عن خريجي الجامعات الحكومية – لهو أمرٌ مشين في جباهنا المصرية؛ أمرٌ يُكرس عنصريةً عفنة في داخل مجتمعاتنا. إذ كيف يتم تمييز طالب مصري على طالب مصري آخر، لمجرد أن الأول يتقن الإنجليزية بطلاقة، ويستطيع إنفاق آلاف الجنيهات في العام الدراسي الواحد؟ كيف يتم التمييز – في محراب العلم - على أساس "الفًرنًجة" و"لي اللسان" و"من يدفع أكثر"؟ كيف يصير اتقان اللغة العربية وضيق اليد معيارين سلبيين في التقييم؟ إن مثل هذا التمييز الظالم يُكرس الإزدواجية والفرقة في وسط مجتمعاتنا، وهو ما يعرقل أية خطوات جادة نحو تنمية وطنية حقيقية. وما أزاد الطين بلة، أن تم زرع تلك الفرقة في داخل الجامعات الحكومية ذاتها؛ حيث صارت هناك أقسام إنجليزية – المتضمنة للطلاب "المتميزين" ذوي الوفرة المالية - في كثير من الكليات...الهندس والحقوق والاقتصاد.
نحن بحاجة إلى تغيير بل "نسف" تلك المنظومة التعليمية القائمة على "تقديس" اللغة الأجنبية وامتهان لغتنا العربية. نحن بحاجة إلى إعادة لغتنا العربية إلى مكانتها الشامخة، كما كانت دائماً شامخة؛ فهي ليست لغة "بيئة" أو "غير مودرن" كما يروج أولئك من تتملكهم "عقدة الخواجة".
وكما جاءت ثورة 25 يناير لنقتلع سوياً قلاع الفساد من جذورها، فلنقتلع أيضاً قلعة الفساد في منظومتنا التعليمية الخَرِبة التي هونت وأهانت من شأن ثقافتنا ولغتنا؛ لتستبدل مكانها ثقافة ليست بثقافتنا، ولغةً ليست بلغتنا، ووجهة تنموية ليست بوجهتنا. لابد من عودة العربية كثقافة أساسية، وكلغة تدريس أساسية في مدارسنا وجامعاتنا ومؤسساتنا، وكمعيار أساسي لتوظيف خريجينا من الجامعات...ولابد من عودة الإنجليزية – أو أي لغة أجنبية أخرى - إلى مكانها الحقيقي والطبيعي..أن تعود كلغة أجنبية فقط يتم استخدامها للاطلاع والبحث عن الأدبيات والبحوث غير العربية، وليس كثقافة.
فليكن شعارنا بعد ثورة 25 يناير "إرفع لغتك فوق..إنت عربي
http://www.almesryoon.com/news.aspx?id=52479