بسم الله الرحمن الرحيم
’’ اختيار العلامة ابن باديس في مسألة الحجاب ‘‘
كثير من طلبة العلم عندنا ممن يذهب إلى مذهب العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله في جواز كشف الوجه و الكفين للمرأة، يذكرون العلامة السلفي عبد الحمد بن باديس رحمه الله (ت 1359هـ) فيمن ذهب إلى ذلك أيضا.
و لكن الناظر في كلام الشيخ ابن باديس يجد أنه رحمه الله قد ذكر تفصيلا في المسألة، و أحاط رأيه بقيود كثيرة، لو أخذ بها هؤلاء الطلبة لزال الخلاف، و الله المستعان.
و في هذا المقال أنقل ما قاله الشيخ ابن باديس في المسألة دون مناقشة، لأن الأمر قد بحث كثيرا بما لا مزيد عليه، و لله الحمد.
1- قال رحمه الله: (لما قال الله تعالى: "و لا يبدين زينتهن" عم اللفظ الباطنة و الظاهرة، و لما قال: "إلا ما ظهر منها" خص الظاهرة فجاز إبداؤها و بقيت الباطنة على المنع، و أفادت الآية منع كشف العنق و الصدر و الساق و الذراع و جميع الباطن، و أباحت كشف الظاهر، و هو الوجه و الكفان، إذ هما ليس بعورة من المرأة بإجماع)، "ابن باديس: حياته و آثاره" (2/130).
2- و قال بعد نقله لبعض أقوال العلماء: ( فهذه النقول كلها مفيدة لما دلت عليه الآية من أن الوجه و الكفين ليسا بعورة و أنه لا يجب على المرأة سترهما. نعم نص أكثر الفقهاء مع جميع المذاهب على أن المرأة يجب عليها ستر وجهها إذا خشيت منها الفتنة، و هذا حكم عارض معلل بهذه العلة، فيدور معها وجودا و عدما. و لذا لما كنا تحققنا الفساد بسفور نساء المدن و القرى ـ و حالتنا هي حالتنا ـ لا نرى لهن جواز السفور ما دامت هاته الحال، و نعرف نساء جهات في بادية قطرنا لا يسترن وجوههن و ليس بهن فساد و لم تقع بهن من فتنة؛ فلما سئلنا عن سفورهن أجبنا بتركهن على حالهن أخذا بأصل الجواز )، السابق (2/132).
3- و قال رحمه الله عند كلامه على قول الله تعالى: "يا أيها النبي قل لأزواجك و بناتك و نساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن" [الأحزاب:59]: ( أفادت الآية طلب تقرير المرأة بعض جلبابها و إرخائها و ضمه عليها من ناحية وجهها، و هذا محتمل لأن يكون بتغطية جميع الوجه و بتغطية بعضه)، "آثاره"(2/133-134).
ثم قال (2/134-135): ( قد مضت آية الإبداء مفيدة جواز إبداء الوجه و الكفين على مقتضى ما تقدم من البيان، و جاءت بعدها آية الإدناء محتملة لطلب ستر الوجه كله كما في القول الأول، و تكون عليه معارضة لآية الإبداء المتقدمة؛ تلك تبيح كشف الوجه و هذه تحظره، و محتملة لطلب الإرخاء و الضم لبعض الجلباب على بعض الوجه و هو الجبين كما في القول الثاني و لا تكون حينئذ معارضة لآية الإبداء.
و حملها على ما لا تكون به معارضة بين الآيتين ـ و هو الوجه الثاني ـ أرجح و أولى إن لم يكن متعينا ).
إلى أن قال: ( و بهذا التقرير تكون كل آية مفيدة معنى غير الذي أفادته الأخرى، فآية الإبداء أفادت طلب ستر الأعضاء إلا الوجه و الكفين، و آية الإدناء أفادت طلب الستر الأعلى الذي يحيط بالثياب و يعم الرأس و ما والاه من الوجه و هو الجبين و ينضم على البدن، ليحصل به تمييز الحرائر بالمبالغة في التستر و الاحتشام، و هذا هو المناسب لجوامع كلم القرآن و الله أعلم ).
4- و قال رحمه الله عند شرحه لحديث فاطمة بنت المنذر في الموطأ: "كنا نخمر وجوهنا و نحن محرمات و نحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما": ( تخمير الوجه: تغطيته بغير نقاب و ما في معناه مما يشد على الوجه، و ذلك بأن تسدل الثوب على وجهها نازلا من رأسها. و جاء هذا مبينا في حديث عائشة الذي رواه أحمد و أبو داود و ابن ماجه و غيرهم، قالت: "كان الركبان يمرون بنا و نحن مع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم محرمات، فإذا حاذوا بنا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه")، السابق (2/204).
ثم قال (2/205): ( ستر وجه المرأة عن رؤية الأجنبي مشروع بالتقرير النبوي له في وقت الإحرام الذي هو وقت كشف وجه المرأة، و لذلك كن ـ كما في حديث عائشة ـ يكشفن وجوههن إذا جاوزهن الركبان. و ما نهيت المرأة عن النقاب في الإحرام إلا و قد كان النقاب من شأنها و عادتها، و العادة التي يقرها النبي صلى الله عليه و آله و سلم لمصلحة تصير من الدين باستنادها إلى التقرير النبوي الذي هو أصل من أصول التشريع، و المصلحة المراعاة هنا هي سد ذريعة افتتان الرجال بالنساء بسبب النظر، و دفع هذه الفتنة على اعتباره القول و الفعل النبويان كما في حديث الخثعمية..، و لما لم يكن وقوع الافتتان محققا دائما لم يكن ستر الوجه حتما لازما في كل حال ).
5- و قال رحمه الله: ( ستر وجه المرأة مشروع راجح و كشفه عند أمن الفتنة جائز و عند تحققها واجب، و أمر الفتنة يختلف باختلاف الأعصار و الأمصار و الأشخاص و الأحوال فيختلف الحكم باختلاف ذلك و يطبق في كل بحسبه ).
ثم قال: ( من المسلمين اليوم أقوام ـ معظمهم من غير أهل المدن و القرى ـ ألفوا خروج نسائهم سافرات فلا يلفتن أنظارهم بذلك، فهؤلاء لا يطالبن بستر الوجوه مع بقاء حكم غض البصر و حرمة تجديد النظر. و من المسلمين أقوام ـ معظمهم من أهل المدن و القرى ـ ألفوا ستر وجوه النساء فكشف المرأة بينهم و جهها يلفت الأنظار إليها، و يغري أهل الفساد بها، و يفتح بابا للقال و القيل في شأنها و شأن أهلها و عشيرتها، فهؤلاء يجب عليهن ستر وجوههن؛ اتقاء للشر و للفتنة و الوقيعة في الأعراض)، "آثاره" (2/206-207).
و من هذه العبارات يتلخص لنا قول ابن باديس في المسألة على النحو التالي:
1- ستر وجه المرأة مشروع راجح.
2- كشفه عند أمن الفتنة جائز، كحال أهل البادية.
3- ستره عند تحقق الفتنة واجب، كحال أهل القرى و المدن.
و هذا التفصيل لو قال به إخواننا لزال الخلاف عمليا، و هو المطلوب حتى نقطع الطريق على أهل تحرير و تخريب المرأة من الذين لا يألون جهدا في البحث عن الأقوال الشاذة في المسائل التي تعيق تحررهم، ثم يشهرونها لا حبا في الحق و لا اتباعا له و لكن لضرب أقوال أهل العلم بعضها ببعض، نسأل الله أن يكفي المسلمين شرهم و مكرهم.
و للفائدة أنقل لكم رد الشيخ ابن باديس رحمه الله على أحد دعاة إفساد المرأة في زمانه و هو الطاهر الحداد صاحب كتاب "امرأتنا في الشريعة و المجتمع"، حيث قال عنه و عن كتابه: ( كان صاحب هذا الكتاب حدثنا عنه أيام إقامتنا بتونس بالصيف الماضية ففهمنا من حديثه أنه يتكلم فيه عن النهوض بالمرأة نهوضا صحيحا و تعليمها تعليما مفيدا في حدود إسلامها؛ التي هي بنظر كل عاقل منصف حدود الإنسانية الكاملة. و ما توقعنا منه أنه يكون ممن يدعون إلى الذهاب بها في تيار المدنية الغربية إلى ما يخرجها عن حدود دينها، و وظيفة أنوثتها، فإذا بنا لما أهدى إلينا كتابه و طالعناه وجدنا ما هو أدهى من ذلك و أمر؛ وجدناه يدعو إلى إبطال أحكام عديدة من أحكام القرآن الصريحة القطعية الإجماعية، و تعطيل آيات عديدة من آياته بدعوى أنها غير لائقة بالنساء في هذا العصر.
و هذا هو الجحود نفسه لبعض القرآن، و جحود بعضه كجحود كله في مفارقة الإسلام، أفيجهل هذا الأصل الشيخ الحداد أم رضي لنفسه بانطباقه عليه ؟
نحن لا نخشى على المسلمين من دعوته شيئا لأنه من المعلوم الضروري عندهم أن جحود شيء من القرآن كفر به، و إنما نخشى عليه أن يستمر على عقيدته فيكون من الهالكين )، "ابن باديس: حياته و آثاره" (3/475).
فرحم الله الشيخ ابن باديس رحمة واسعة، و جزاه عن الإسلام و المسلمين ـ في الجزائر خاصة ـ على ما قام به من بيان للحق و ووقوف في وجه كل من يريد بأمتنا شرا، و أي شر أكبر من محاولة صرفنا عن إسلامنا و عروبتنا، و الأمر لله.
فريد المرادي.
الجزائر العاصمة في 26 رمضان 1428هـ.