مُحَاولةُ عَيْشٍ وبَارِقَةُ أمَل ...قصّة قصيرة
بقلم / ربيع الأديب المغربي
كَانتِ السَّاعَةُ تُشِيرُ إِلَى السّادِسَةِ مَسَاءً عِنْدَمَا انْطَلَقَ زَيْدٌ مِنْ بَيْتِهِ إلَى مَكَانِ عَمَلِهِ لاَ يَلْوِي عَلَى شَيءٍ وعَرَقُهُ يَتَصَبّبُ بِغَزَارَةٍ جرَّاءَ عَرَبَتِهِ الّتي يَدْفَعُهَا بِبُطْئٍ وَالّتِي يَحْمِلُ عَلَيْهَا الكُتُبَ والأسْفَارَ والعُطورَ والسّجاداتِ وغيرَ ذَلكَ منْ لَوازِم المُسْلمِ !! التِي هُو يُتَاجِرُ فِيها في أحد الشّوَارعِ الْعَامَّة من شَوارِعِ مَدِينَتِهِ مَدِينَةِ الْكَبَائِرِ ...انْطَلَقَ عَلَى كُرْهٍ منْهُ كَعَادَتِه لاَ لأنَّهُ يَكْرَهُ التِّجَارَةَ ولَكِنْ لأنَّ مَكَتَبَتَهُ الْمَنْزِليَةَ الّتِي يُنْفِقُ فِيهَا السّاعَاتِ الطِّوالَ بينَ القِراءَةِ والْبَحْثِ والكِتَابَةِ سَيَتْرُكُهَا لِمُدّةِ خَمْسِ سَاعَاتٍ كَامِلَةٍ !! ....
فَهُوَ عِنْدَ خُرُوجِهِ إِلَى الشَّارِعِ العَام المُخْتَلطِ بالغوغَاء والدَّهْمَاء والمتَبَرِّجات.. .يَقَعُ لَهُ إحباطٌ أيُّما إحْباطٍ لأنّهُ ترَكَ في بَيْتِه العُلَمَاءَ والأدَبَاءَ والشُّعَراءَ الذينَ كَانَوا يَمْلَؤُونَ جَوانِبَ بيْتِهِ منْ خِلاَلِ مُؤّلفاتهم وكُتُبِهِم وَدَوَاوِينِهم ..... لِيَجِدَ ((مِنْ أَجْلِ لُقْمَةِ الْعَيْشِ))الإِن ْسَانَ الْمُتَمَرِّدَ عَلَى رَبِّهِ الطَّاغِي فِي أرْضِهِ مُنْتَشِراً كَالْجَرَادِ فِي كُلِّ مَكَانِ ...
المُهمّ اسْتَقَرَّ كَباقِي الأيّام في مَكانٍ مَعْرُوفٍ لَدَيْهِ ..وَبَدَأَ في ترْتِيبِ كُتُبِه على العَرَبةِ وتنظيمِها عَلَى شَكْلٍ يُغرِي الْقُرّاءَ ، وَعَرْضِ الْعَنَاوين الشّهِيرَةِ قَصْدَ بيْعِ أَكْثَر عَدَدٍ مِنَها ..لأنّهُ هوَ فِي حَاجَةٍ إِلَى الْمَالِ هَذِهِ الأَيَّام لأنّها آخرُ الشّهرِ ويَجِبُ عَلَيْهِ أنْ يدْفَعَ ثَمنَ الكُوخِ الّذي هوَ سَاكِنُهُ وكذَلِكَ دفعُ ثَمنِ الإضاءة والماءِ وغير ذَلِك من لَوازم الحيَاة أَو الْمَوْتِ !! ....انتَهَى منْ تَرْتِيبِ شُؤُونِهِ وَانطَرحَ عَلَى كُرْسيٍّهِ بَعْدَمَا تَنَفَّسَ الصُّعَداءَ ، وَأخَذَ كِتاباً كانَ مَعَهُ فِي مِحْفَظَتِهِ الْيَدَويةِ ...وَفِي ظَنِّي أنَّ هَذَا الْكِتابَ لِطَهَ حُسَين فقَدْ كَانَ صَاحِبُنَا كَلِفاً بِأُسْلُوبِهِ مُعْجَباً بِسَلاَسَةِ لُغَتِهِ وَغَيْرَ عَابِئٍ بِزَنْدَقَتِهِ وَتَبَجُّحِهِ وَكُفْرِهِ لأَنَّهُ مَا فَكَّرَ قطُّ أنْ يَتَلَقَّى عَنْهُ عُلُومَ الشَّرِيعَةِ أَوْ دُرُوسَ الأَخْلاَقِ .... وغَالباً ما كانَ يأخذُ معهُ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْكُتبِ لأنّها لا تَحتَاجُ في الْغَالِبِ إلى تَرْكِيزٍ... معَ العِلمِ أنهُ ينبَغِي لَهُ أنْ يَجْمَعَ بيْنَ القِراءةِ وَمُرَاقبةِ السِّلْعَة الْمعْروضةِ على العَرَبَة ..عَلّقَ عَيْنَيْهِ في كِتَابِه غَيْرُ عَابِئٍ بمَنْ يَمُرُّ أمَامَهُ منَ الْمُتَبَرِّجَا تِ السَّافِرات ..ولِمَ يَلْتَفِتُ إليْهم وهو فِي وادٍ وهم فِي وادٍ آخَرَ !!؟؟ ...
جَلَسَ عَى كُرْسِيِّهِ ما شَاءَ اللهُ لهُ أنْ يَجْلِسَ لَمْ يُسَاوِمْهُ فِي كُتِبِهِ أَحَدٌ مِنَ السَّابِلَةِ .. وَيُوجَدُ أَمَامَهُ مَطْعَمٌ للأكلاتِ الْخَفِيفَةِ مُكْتَظٌّ بِالنَّاسِ الّذِينَ يَأْكُلونَ بِطَرِيقَةٍ وَكَأنَّهُم الْحَيَواناتِ الْمُفْتَرِسَةُ ...واسْتَبَدَّ الْقَلَقُ بِهِ وَحَطَّ عَلَى قَلْبِهِ هَمٌّ ثَقِيلٌ ...مَاذَا يَفْعَلُ والأَفْواهُ الْجَائِعَةُ الصّغِيرَةُ لاَ تَعْرِفُ الصَّبْرَ ..وَجَيْبُهُ لَيْسَ فِيهِ دِرْهَمٌ واحِدٌ ...!!!
وَلَمَّا آذنَتِ الشَّمْسُ بِالْمَغِيبِ بَدَأَ صَاحِبُنَا يَتَأهَّبُ للْذَهَابِ إلَى الْمَسْجِدِ لِصَلاَةِ الْمَغْرِبِ وَهُوَ يَتَحَسَّرُ عَلَى أُنَاسٍ لاَ هَمَّ لَهُمْ إلاَّ أَنْ يَأكُلُوا مَرِيئاً وَيَشْرَبُوا هَنِيئاً ..ولاَ يُبَالُونَ بِكُتُبِ العِلْمِ الْمَنْشُورَةِ أمَامَهُم ...فَجْأَةً أَيْقَظَهُ مِنْ تَحَسُّرِهِ وتَفْكِيرِه الذي كانَ غَارِقاً فيهِ صَوتُ رَجُلٍ ذي لِحيَةٍ مُهْمَلَةٍ وَقَمِيصٍ قَصِيرٍ وقَلَنْسُوةٍ صَغِيرَةٍ جِدّاً تُشْبِهُ إِلَى حَدٍّ كَبِيرٍ شَاشِيَةَ الْيَهُودِ وَتَتَدَلَّى مِنْ عُنُقِهِ سُبْحَةٌ طَوِيلَةٌ .. قَالَ لَهُ بِنَبْرَةِ واثِقٍ منْ نَفْسِهِ : هلْ يُوجَدُ عِنْدَكَ كَتَابُ دَلاَئِلِ الْخَيْرَاتِ ، فَأجَابَهُ صَاحِبُنا بِقَوْلِهِ لاَ يُوجَدُ يَاسيِّدِي ..فقالَ : وكتابُ الرّحمة فِي الطبِّ وَالحِكمةِ . فَأجَابَهُ بِالنّفْي كَذَلِكَ ..فقَالَ وكِتَابُ الْحَلالِ وَالْحَرَامِ للْقَرْضَاوِي ، فأجَابَهُ بِالنّفي كذَلكَ ..فَخَرَجَ الرّجُلُ عَنْ طَوْرِهِ وصَاحَ فِي وجْهِ صَاحِبِنَا ألاَ يُوجَدُ عِنْدَكَ شَيْءٌ ..؟ فأجَابَهُ صَاحِبُنا : يُوجَدُ عِنْدِي الْكَثِيرُ كما تَرى مِنْ كُتُبِ أهْلِ السّنّةِ والجَمَاعَة ...أمّا هَذِهِ الْكُتُب ُالّتِي ذَكَرْتَ فَلاَ يَجُوزُ لِي بيْعُهَا لأنّنِي طَالَعْتُها فَوَجَدْتُ أنَّ أصْحَابَهَا ضُلاّلٌ مُبْتَدِعُونَ ....فَغَضِبَ الرَّجُلُ غَضَباً جُنُونياً فأرغَدَ وَأَزْبَدَ ..وبَعْدَ هُنَيْهَةٍ سُمِعَ الأّذَانُ في سَمَاءِ الْمَدينَةِ بِصوْتٍ مُرْتَفِعٍ ..مِمَّا دَفَعَ صَاحِبَناَ إلَى التَّخَلُّصِ من هَذَا الرّجُلِ وتَرَكَهُ فِي مَكَانِهِ كَما يَتْرُكُ السِّكِيرُ قَرُورَةَ خَمْرٍ فَارِغَةٍ ... وَانْطَلَقَ إلَى بَيْتِ رَبِّهِ الْكَريمِ كأنَّهُ السّهْمُ ..وَهُوَ يُرَدِّدُ : اللهُمّ اجعَل فِي قَلْبِي نُوراً ، وفِي لِسَانِي نُوراً ، واجْعَلْ فِي سَمْعِي نوراً ، واجْعَلْ فِي بَصَرِي نُوراً ، ومنْ فَوْقِي نُوراً ، ومنْ تَحْتِي نُوراً ، وعَنْ يَمِينِي نُوراً ، وعَنْ شِمَالِي نُوراً ، ومنْ أَمَامِي نُوراً ......
وَمَضَى لَيلُ الْمَدِينَةِ الرّهِيبُ ...وَصَاحِبُنا يَسْتَعِدُّ للْرُجُوعِ إلَى بَيْتِهِ بَعْدَما بَاعَ أشْيَاء يَسيرَةً منْ سِلْعَتِهِ الّتِي قَدْ لاَ تَسُدُّ حَاجِيَاته الضّرُوريةِ ...ولَكنْ هُنَاكَ بَارِقَةُ أَمَلٍ تَعْرِضُ لَهُ فِي الأفُقِ كُلَّ لَيْلَةٍ فَيَنْتَابُهُ شُعُورٌ بالْفَرَحِ كُلّمَا تَذَكَّرَ أنّهُ سَيَعُودُ لِيُجَالسَ العُلَمَاءَ والأدَبَاءَ والشّعَرَاءَ الْقَابِعِينَ في بيْتِهِ مِنْ خلاَلِ كُتُبِهِم وَأسْفَارِهِم ....
وَكَتَبَ ربيع الأديب في آخر أسبُوع من شَهرِ شعبَان 1431 هـ