وأما السبب الثاني : فهو الحواجز من الموج الداخليوالموج الخارجي والسحاب.فهذه كلها حواجز ، تمنع مرور الشعاع الضوئي إلىالأسفل .

والموج الداخلي هو الذي يعلو البحرَ اللُّجّيَّ ويُغطيه، ويعكس معظم مابقي من الأشعة الشمسية الساقطة على أسطح البحار والمحيطات ، ويحول دون الوصول إلىأعماقها . وبذلك يكون السبب الرئيس في إحداث الإظلام التام فوق قيعان البحاراللجيّة . ويتكون هذا الموج الداخلي عند الحدود الفاصلة بين كل كتلتين مائيتينمختلفتين في الكثافة . ويبدأ تكوُّنه على عمقِ أربعين مترًا ، تقريبًا ، من مستوىسطح الماء في المحيطات ؛ حيث تبدأ صفات الماء فجأة في التغير من حيث كثافتها ودرجةحرارتها , وقد تتكرر على أعماق أخرى ، كلما تكرر التباين بين كتل الماء فيالكثافة .
ومن فوق هذا الموج الداخلي موج آخر ، يسمَّى بالموج السطحي ، الذي يعدُّأحد العوائق أمام مرور الأشعة الشمسية .
وبذلك يُعَدُّ أحدَ الأسباب في إحداث ظلمةِتلك الأعماق , هذا بالإضافة إلى تحلُّلِ تلك الأشعة إلي أطيافِها، وامتصاصِهابالتدريج في الماء .
ومن فوق هذا الموج السطحي يأتي السحاب ، الذي يَمتصُّ حواليتسعة عشر جزءاً بالمئة من الأشعة الشمسيّة المارّة من خلاله . ويَحجُب بالانعكاسوالتشتيت نحو ثلاثين جزءًا بالمئة من هذه الأشعة , فيُحدث قدْرًا من الظلمةالنسبيّة التي تحتاجها الحياة على سطح الأرض . وبذلك تجتمع ظلمةُ الموج الداخليِّ ،وظلمةُ الموجِ السَطحِيِّ ، وظلمةُ السحاب مع ظلمات الأطياف السبعة، التي يُحدثُهاامتصاصُ الماء لتلك الأطياف .
والله{سبحانه} عندما يصف هذه الظلمات ، ينسبُهاإلى عمق البحر اللجيِّ : (( أو كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌمِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ )) .
ثم يقول{سبحانه}:(( ظُلُمَاتٌبَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ)) وكأنّه يقول لنا:
هذهالظلمات الكثيفة المتراكبةسببها الأعماق ، وسببها الحواجز . ومن المعروف أن لفظ {ظُلُمَاتٌ} من جُموع القِلّة.
وجمعُ القِلَّة يشمل من ثلاثةٍ إلى عشرةٍ، فأنت تقول : ظلمة ، وظلمتان ، وثلاث ظلماتإلى عشرِ ظلماتٍ .
والظلمات التي تتحدّث عنها الآيةُ الكريمة هي عشرُ ظلمات : سبعٌمنها للألوان ، وثلاثٌ للحواجز {الأمواج الداخلية ، والأمواج السطحيّة ،والسحاب} .
ثم عقَّب{سبحانه} على ذلك بقوله:(( إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْيَكَدْ يَرَاهَا )) مبالغة في بيان شدّة هذه الظلمات . والمعنى: إذا أخرج منابتُليَ بهذه الظلمات يده من كُمِّه ، لم يكد يراها . وجاز إضمارُ الفاعل ـ هنا ـمن غير أن يتقدّم ذكرُه ، لدلالة المعنى عليه دلالة واضحة . وكذا تقديرُ ضميرٍيرجِع إلى ظلماتٍ . واحْتيجَ إليه ؛ لأنّ الجملة في موضع الصفة لظلمات ، ولا بدّلها من رابط . وقيل : ضميرُ الفاعلِ عائدٌ على اسمِ الفاعل المفهوم من الفعل أي : إذاأخرج المُخرِجُ فيها يدَه ، لم يكد يراها .
واختَلف علماءُ اللُّغة والتفسير فيقولِه تعالى : (( لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا )) هل يقتضي أنّ هذا الرجلَ المقدَّرَ في هذهالأحوال ، إذا أخرج يده من كُمِّه ، لم يرَها البتّة . أمْ رآها بعد عُسْرٍوشِدَّةٍ ؟ فقالت فِرقةٌ منهم : لم يَرَها البتّة ؛ وذلك لأنَّ {كاد} معناها : قارب ؛فكأنّه قال : "إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ" لم يقارب رؤيتَها.
وهذا يقتضي نفيَ الرؤيةِجملةً . وقالتْ فُرقة من العلماء: بل رآها بعد عُسْرٍ وشِدَّةٍ ، وكاد أن لا يراها . ووجه ذلك : أن {كاد} إذا صحِبَها حرفُ النفي ، وَجَبَ الفعلُ الذي بعدها . وإذا لميصحبْها ، انتفى ذلك الفعل .
وهذا القول يكون لازمًا ، إذا كان حرف النفي بعد {كاد} داخلاً على الفعل ، الذي بعدها . تقول : كاد زيدٌ يقوم ، فالقيام منفي . فإذاقلت : كاد زيد أن لا يقوم ، فالقيام واجبٌ واقع . وتقول :كاد النعام يطير . فهذايقتضي نفي الطيران عنه . فإذا قلت: كاد النعام أن لا يطير ، وجب الطيران له .
أماإذا كان حرف النفي مع {كاد} فالأمر محتمل ، مرة يوجب الفعل ومرة ينفيه . تقول : المريض لا يكاد يسكن .
فهذا كلام صحيح ، تضمّن نفيَ السكون . وتقول : رجلٌ متألِّملا يكاد يسكن . فهذا كلام صحيح ، يتضمن إيجاب السكون بعد جهد .
ويشهد لذلك قولهتعالى حكايةً عن فرعون : (( أَمْ أَنَا خَيْرٌ منْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ولايَكادُ يُبِينُ )) . (28) أي : لا يكاد يَظهرُ كلامُه للثغةٍ في لسانِه بسبب الجمرةِ. التي تناولها في صغره.وهو سيدُنا موسى {عليه السلام} وقولُ تأبّط شرًّا:
فأُبْتُ إلى فَهْمٍ،وما كِدْتُ آيِباً
وكم مثلها فارقتُها وهيتصفر
يقول:رَجَعتُ إلى قبيلتي {فَهْمٍ} وكدت لا أرجِع ؛ لأنني شارفتُ على التلَفَ .
ومما يحمل على الاحتمالين قولُه تعالى عن اليهود في
السورة التي يَذكر فيهاالبقرة : (( فَـذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ )) . (29) أي : وما كادوا يذبحون .فكنَّى عن الذبح بالفعل ؛ لأن الـ {فَعَلَ} يكنّى بها عن كل فِعْلٍ . والنفيُمع {كاد} ـ هنا ـ يتضمَّن وُجوبَ الذبحِ بعد جُهدٍ ويتضمن نفيَه البَتّةَ . وبيانُذلك أنّ جملةَ : (( وَ مَا كَادُوا يَفْعَلُونَ )) تحتمل الحال والاستئناف . والأوّلُأَظهر وأوضحُ إشارةً إلى أنّ مماطلتَهم قارنت أوّلَ أزمنةِ الذبح .. وعلىالاستئناف يصح اختلاف الزمنين : زمان نفي المقاربة ، وزمان الذبح ؛ إذ المعنى : وماقاربوا ذبحها قبل ذلك . أي : وقع الذبح بعد أنْ نفى مقاربتَه . فالمعنى : أنهم تردّدوافي ذبحها ، ثم ذبحوها بعد ذلك .
قيل : والسبب الذي لأجله ما كادوا يذبحون هو : إمَّاغلاءُ ثمنِها ، وإمَّا خوفُ فضيحةِ القاتل ، وإمَّا قلّةُ انقيادٍ لأمر الله وتعنتٌمن اليهودِ على الأنبياء {عليهم السلام} وكذلك كان دأبَهم مع الأنبياء وعلى مرِّالعصور
ونحو ذلك قولُه تعالى في هذه الآية : (( لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا )) فإنّهنفيٌ مع {يَكاد} يتضمّن ـ في أحدِ التأويلين ـ نفيَ الرؤيةِ .
ويتضمن ـ فيالاحتمال الآخر ـ وجوبَ الرؤيةِ بعد عُسْرٍ وشِدَّةٍ ؛ وبالعودة إلى موضوعنا الذيعنه نتحدّث ، فإنَّ الكائنَ في ظُلماتِ البحرِ اللُّجيِّ ، التي ما زال فيها شيءٌمن ضوءٍ ، لا يَرى يدَه إلاّ بصعوبةٍ . لكن إذا غاص إلى الأعماق التي تغرق فيالظلام الشديد ، ومد يدَه أمامَ عينيْه ، فإنّه لن يراها أبداً .
ولهذا ، ونحوِه، قال سيبويه {رحمه الله} : إن أفعال المقاربة لها نحوٌ آخر . بمعنى : أنّها دقيقةُالتصرُّف .
أمّا قولُ ابنِ الأنباري وغيرِه ، ممن اعتقد زيادة {يَكَدْ} وأنّالمعنى:لم يرها ، فليس بصحيح ولا وجهَ له ، والله أعلم .
ثم يختم الله { تباركوتعالى} الآية الكريمة بهذه الحقيقة المعنويّة الكبرى ، فيقول { سبحانه } : (( وَمَنلَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ )) .
ثم تفاجئناالبحوثُ العلمية أخيرًا بواقعٍ ماديٍّ ملموسٍ لهذه الحقيقة المعنوية , فقد كانالعلماءُإلى عهدٍ قريبٍ جدًّا لا يتصوّرون إمكانيةَ وجودِ حياةٍ في أغوارِالمحيطات العميقة , للظلمة التامّة فيها , ولبرودة مائها الشديدة , وللضغوط الهائلةالواقعة عليها ، ولملوحة ذلك الماء المرتفعة جدّاً في بعض الأحيان ؛ ولكن بعد تطويرغوَّاصات خاصّة لدراسة تلك الأعماق ، فوجئ دارسو الأحياء البحريّة بوجودِ البلايينمن الكائنات الحيَّة ، التي تنتشر في تلك الظُلْمة الحالكة ، وقد زوّدهاخالقُها { سبحانه } بوسائل إنارة ذاتيّةٍ في صميم بنائها الجسدي تُعرَفُ باسمِ الإنارةالحيويّة .
والسؤال الذي يفرض نفسَه هنا : مَن غيرُ اللهِ الخالقِ يُمكنُه أنْيُعطيَ كلَّ نوعٍ من أنواع تلك الأحياء البحرية ذات الأعماق السحيقة , هذا النورالذاتي ؟ وهنا يتضح البعد الماديُّ الملموس لهذا النصِّ القرآنيِّ المعجزِ , كمايتّضح بعدُه المعنويُّ الرفيعُ : (( وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَالَهُ مِن نُّورٍ )) فمن لم يُنوِّرُ اللهُ تعالى قلبَه بنورِهِ ، الذي أضاء الوجودَكلَّه ويَهديه إليه فهو باقٍ في ظلماتِ الجهلِ والغيِّ والضلال ، لا يهتدي أبدًا .
وكيف يهتدي ، وهو لا يملك شيئًا من النور ، الذي هو سبب الهداية لتأكيد هذاالمعنى جيء بعد { مَا } النافية، بـ { مِن } التي يدلُّ وجودُها على استغراق النفيِوشمولِه لكلِّ جُزءٍ من أجزاء النور .
ولو قيل : "فَمَا لَهُ نُّورٍ"، بدون {مِن} ماأفاد هذا المعنى، الذي دل عليه وجودُها .
ولنبيِّ الله سيِّدنا نوحٍ { عليهالسلامُ } في القرآن الكريم مع البحر ، قُصَّةٌ أخرى ، حيث أصبحت الأرضُ ، كلُّ الأرضبحراً له ليخلِّصه اللهُ من قومه الذين كذّبوه وكفروا برسالته ، ولِيُنْجِيَهُاللهُ ، ومَنْ آمَنَ معَهُ ، ويُغرق الأرضَ بما فيها ، ومن عليها لأنّها مُلئتْكفراً وظلماً وجوراً ، فلم يستجبْ أهلُها لدعوةِ الإيمان بالله وبرسالته التي حملَهاإليهم نبيُّهُم نوحٌ {عليه السلام} ، فأمر الله نبيَّه، أنْ يصنعَ سفينةً عظيمةً ،ويحمل عليها ـ بالإضافة إلى المؤمنين بالله ورسوله ـ زوجين اثنين {ذكراً وأنثى} منكلِّ نوعٍ من أنواعِ الحيوانات والنبات كذلك ، حتى لا تَنْقرِضَ هذه الأنواع ، وذلكاستجابةً لدعاء نبيّه نوح الذي بقي /950 / عاماً يدعوهم إلى الله وهذه المدّةُالطويلةُ ، التي قاربت الألف سنةً، ما زادتهم إلاّ نُفوراً وإعراضاً وعتوّاً عنأمره {سبحانه} قال الله في كتابه العزيز : (( قال ربِّ إنّي دعوتُ قومي ليلاً ونهاراً * فلم يَزِدْهم دعائي إلاّ فراراً * وإنِّي كلَّما دَعَوْتُهم لتغفرَ لهم جعلواأصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصَرّوا واستكبروا استكباراً * ثمَّ إنّيدَعَوْتُهم جهارا * ثمّ إنّي أعلنتُ لهم وأسررتُ لهم إسراراً * فقلتُ استغفروا ربَّكمإنّه كان غفّاراً * يرسلِ السماء عليكم مِدْراراً * ويُمْدِدْكم بأموالٍ وبنينَويجعلْ لكم جنّاتٍ ويجعلْ لكم أنهاراً * ما لكم لا تَرْجونَ لله وَقاراً * وقد خلقكمأطواراً * )).(30)
لقد أصرّوا على كفرهم ولم يلتفتوا إلى نُصْحِ نبيِّهم ، وأعلمَاللهُ نبيَّه بأنّه لا أمل في هداهم وليس في أصلابهم من سوف يؤمن بالله ولذلك دعاعليهم فقال : (( وقال نوحٌ ربِّ لا تَذَرْ على الأرضِ من الكافرين ديّاراً * إنّكَ إنتذَرْهم يُضِلُّوا عِبادَك ولا يَلِدوا إلاَّ فاجراً كفّارا * ربِّ اغفرْ ليولوالديَّ ولمن دَخَلَ بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات ولا تَزِدِ الظالمين إلاّتَبَارى )) . (31) ودعوةُ الأنبياءِ مستجابَةٌ ، لأنهم لا يفعلون شيئاً ولا يتكلّمونإلاّ بإذن اللهِ ووحيِهِ ، فأمرَ اللهُ نبيَّه بأنْ يصنَع السفينة . قالتعالى : (( واصْنعِ الفُلْكَ بأعيُنِنا ووحيِنا )) . (32)
ويبدأ نوح ٌ بصُنعِالسفينة ـ وكان نجّاراً ـ ويمُرُّ به كفرةُ قومِهِ فيستهزئون به وبما يصنعُ ،شأنَ الكفّار في كلِّ أمّة وفي كلِّ زمن ، وأنّى لهم أنْ يصدِّقوا وَعيدَهُ وهملم يؤمنوا برسالته أصلاً ؟ قال {تعالى} في محكم كتابه : (( ويصنع الفلكَ ، وكلّما مرَّعليه ملأ من قومه سخروا منه )) . (33) ويصنعُ السفينةَ ويَركبُ فيها كلُّ المؤمنينالذين قضى الله بنَجاتهم وسعادتهم بسسبب إيمانهم ، ويحملُ نوحٌ ـ بأمرٍ من العليمالخبير ـ من كلِّ نوعٍ من أنواع الحيوان زوجين ، ومن النبات كذالك ، مع أهلِه ومَنآمن به وبرسالة ربّه ، إلاّ ابنَه لأنّه كان كافراً : (( قلنا احمل فيها من كلٍّزوجين وأهلَكَ ، إلاَّ من سبق عليه القولُ ، ومن آمن ، وما آمن معه إلاّ قليلٌ )) (34) ويأمرُ اللهُ القادرُ السماءَ بأنْ تنصبَّ ماءً ، والأرضَ بأن تنبع ماءًكذالك ، حتى تغرق الأرضُ بمن فيها ، و يعلو الماءُ الجبالَ حتى تنعدِمَ الحياةُ علىوجهِ الأرضِ ، بما في ذلك ابنُ نوحٍ الذي لجأ إلى جبلٍ مرتفعٍ ليعصمه من الماء ،علوّاً منه واستكباراً ، ظنّاً منه بأنه سوف يكون بمنجى من الغرق فوق الجبل ، قال {سبحانه} : (( حتى إذا جاء أمرُنا وفار التنّور ، قلنا احملْ فيها من كلٍّ زوجيناثنين وأهلَكَ ، إلاّ مَن سَبَقَ عليه القولُ ، ومَن آمن ، وما آمن معه إلاَّ قليلٌ * وقال اركبوا فيها بسم الله مَجريها ومُرساها ، إنَّ ربّي لغفورٌ رحيم * وهي تجريبهم في موجٍ كالجبال ، ونادى نوحٌ ابنَه ، وكان في مَعْزِلٍ ، يا بُنيَّ ارْكَبْمعَنا ولا تَكُنْ مع الكافرين * قال سآوي إلى جَبَلٍ يعصمني من الماء * قال لاعاصمَ اليوم من أمرِ اللهِ إلاّ مَنْ رَحِمَ ، وحال بينهما الموجُ فكان منالمغرَقين)) (35) وكان فَوَرانُ تَنُّورِ الخَبّازِ بالماءِ الإشارةَ ببدءِالمعركة ، وكان لسيدِنا نوح {عليه السلام} أمارةَ الأمرِ بركوب السفينة ، وما أقساه منمنظرٍ أنْ وما أصعبها من لحظات يرى الرجلُ فيها ابنَه يغرقُ أمامَ عيْنَيْهِ وهو لايستطيعُ فعلَ شيءٍ ، إنّه قضاءُ اللهِ وقَدَرُهُ ، وإنّها العقيدةُ التي فرَّقَتْبين الأبِ وابنِهِ العاقِّ الذي لم يُطعْ ربّه ولم نُصحَ والدِهِ فهَلَكَ ، وإنّهصبرُ أولي العزم على الابتلاءِ والامتحان الذي ابْتلى بهما اللهُ عبدَه نوحاً { عليهالسلامُ } فصبر وشكر ، وتغلَّب حبُّهُ لربِّهِ على حبِّه لوَلَدِه ، وهذا مِصداقُقولِ اللهِ {تبارك وتعالى} في كتابِهِ العزيز : (( قُلْ إنْ كان آباؤكم وأبناؤكموإخوانُكم وأزواجُكم وعَشيرتُكم وأموالٌ اقْتَرَفْتُموها وتِجارةٌ تَخْشَوْنَكَسادَها ومَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إليكم من اللهِ ورسولِهِ وجهادٍ فيسبيلِهِ فتربّصوا حتّى يأتيَ اللهُ بأمرِهِ ، واللهُ لا يَهْدي القومَ الفاسقين )) . (36)وقُضي الأمرُ ونَفَذَ حكم الله تعالى على الكافرين المستكبرين ، فأمر اللهُالسماء بأن تتوقّفَ وتُمْسِكَ ماءها ، والأرض بأن تكفَّ عن النبع وتبتلعَ ما علىسطحها من ماء قال تعالى : (( وقيل يا أرض ابلعي ماءكِ ويا سماء أقلعي )) . (37) فقد أنهتالأرضُ المعركة التي كانت قد بدأتها ، وهذا خلافُ المتوهَّم ، حيث يُظَنُّ بأنَّمطر السماء هو مصدرُ المياه الأساس ، فهو ينزل على الأرض فتتشرّبُهُ وتخزِّنُه فيباطنها ليخرج فينتع الناسُ به ، لكن أن تبدأ الأرضُ المعركة بدفع ما في جوفها منماء ، وأن تبدأ النهاية منها أيضاً بأن تبلعَ ماءها فإنّ في ذلك إشارة إلى أنّالأرضَ هي المصدرُ أساسُ للماءِ ، حيث أثبتت الأبحاث العلميَّةُ بعد نزول القرآنالكريم بقرون أنَّ الماء النازل من السماء إنّما هو بخار تصاعد من الأرض بفعل حرارةالشمس ، فشكّلَ سحاباً ثمّ تساقط أمطاراً بعد ذلك ، بإذن الله وأمره ليحيي به اللهما شاء وليسقيَه مَن شاء من خلقه .
سبحان الله الحليم كم يَجحد الناسُ فضلَه ،ويكفرون نعمَه ، ويبطرون معيشتَهم حالَ الرخاء ، فإذا حلَّ بهم الضيق ونَزَل بهمالكرب ، ولم يجدوا من دونه ملجأً إليهَ يلجؤون ، تراهم يجأرون إليه بالدعاء طالبينمنه النجدة وينجدُهم الله ، ولكنهم سرعان ما يعودون إلى ما كانوا عليه من كفرٍوضلالٍ ، كراكبِ البحر الذي اشتدّت به الريح حتى لتكاد تكفأ سفينتَه به فيستغيثباللهِ فيجيبُه الله الكريم إلى ما سأل ، وينجيه من الغرق ، لكنّه يعود إلى عصيانهوجحودِه ، يقول سبحانه في سورة الإسراء معرِّضاً بهؤلاء الملاحدة والعصاة : (( وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُفَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا)) . (67) ((أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَعَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْيُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِفَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِوَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَات ِوَفَضَّلْنَاهُ مْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْخَلَقْنَا تَفْضِيلاً )) (70) {37} أرأيت إلى الإنسان كيف يقابل نعم الله وحلمَهوكرمه وتفضيلَه على الكثير من مخلوقات الله .
وهكذا نرى أنَّ القرآنَ الكريمَقد ذكرَ لنا الكثيرَ عن البحرِ،مُرْشِدا ً لنا ومُعَلِّماً ومُشَجِّعاً على سَبْرِأَغوارِه واكتشافِ المزيدِ مِن أسرارِهوالانتفاعِ به وبما يحتويه من كنوز وأمرنا أن نسخِّرَهُ لما فيه صالح الإنسان في كلِّ زمان ومكان.


مصادر الباب الثاني

1 ـ سورة طـه : الآيات37-40 .
2 ـ سورة البقرة : الآية 50 .
3 ـ سورة يونس: الآيات 90-91-92
4 ـ سورة الكهف : الآيتان 71ـ 72
5 ـ سورة الكهف : الآية 79
6 ـ سورة الأنبياء : الآيتان 87-88.
7 ـسورة لقمان : الآية 27
8 ـ سورة الكهف : الآية 109.
9 سورة الجاثية : الآية 12
10 ـ سورة النحل : الآية 14.
11 ـ سورة المائدة : / 96.
12 ـ سورة الأعراف الآية : /163.
13 ـ سورة الإسراء الآية : / 67 .
14 ـ سورة الشورى الآيتان : / 32، 33 .
15 ـ سورة النمل ، الآية : / 61 .
16 ـ سورة الرحمن : الآيتان / 24 و 25.
17 ـ سورة الفرقان ، الآية . /53/
18 ـ إقامة الحجة على العالمين بنبوة خاتم النبيين-(ج 1 / ص 491.
19 ـ سورة الفرقان ، الآية : / 6 / .
20 ـ سورة فصلت ، الآية : / 53 / .
21 ـ سورة النور ، الآية : / 40 / .
22 ـ سورة البقرة ، الآية : / 257 / .
23 ـ سورة النمل ، الآية : / 44 /.
24 ـ سورة لقمان ، الآية : / 32 / .
25 ـ سورة طه ، الآية : /78/
26 ـ سورة الرعد ، الآية : / 12 / .
27 ـ سورة الزخرف ، الآية : / 52 / .
28 ـ سورة البقرة ، الآية : / 71 / .
29 ـ سورة نوح ، الآيات : /5 - 14
30 ـ سورة نوح ، الآيات : / 26 ،27 ، 28
31 ـ سورة هود ، الآية :/ 37
32 ـ سورة هود ، الآية : /38 /
33 ـ سورة هود ، الآية :/40
34 ـ سورة هود ، الآيات:/ 40ـ 41ـ 42ـ43
35 ـ سورة التوبة ، الآية /24
36 ـ سورة هود ، الآية /44
37 ـ سورة الإسراء/67 - 70 /