خير من ألف شهر

الحمد لله المتوحِّدِ في الجلال بكمال الجمال تعظيمًا وتكبيرًا، المتفرِّدِ بتصريف الأحوالِ ‏على التفصيل والإجمال تقديرًا وتدبيرًا، المتعالي بعظمته ومجده، الذي نزَّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا.


وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العظيم التواب، الغفور الوهاب، الذي خضعت لعظمته الرقاب، وذلَّت لجبروته الصعاب، ولانَتْ لقُدْرته الشدائد الصِّلاب، رب الأرباب، ومسبب الأسباب، ومنزِل الكتاب، وخالق خلقه من تراب، غافرُ الذنب، وقابلُ التوب، شديدُ العقاب، ذو الطول، لا إله إلا هو، عليه توكَّلْتُ، وإليه متاب.

وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، إمام الأنبياء، وسيد الحنفاء، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، الذين آمنوا وهُدُوا إلى الطيِّب من القول، وهُدُوا إلى صراط الحميد.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر: 2].

أنتِ في الدَّهرِ غرةٌ وعلــــى الأرْ ** ضِ سلامٌ وفي السماء دعـــاءُ
يتلقَّاك عند لُقياك أهـــــــــــلُ الْ ** بِرِّ والمؤمنون والأصفيـــــــا ءُ
فلهم في النَّهار نَجوى وتَسبــــي ** حٌ وفي الليل أدمُعٌ ونـــــــداءُ
ليلةُ القدرِ عندهم فرحةُ العُـــــمْ ** رِ تدانَت على سناها السَّمــــاءُ
في انتظارٍ لنورها كلَّ ليــــــــــلٍ ** يتمنَّى الهُدى ويدعو الرَّجـــاءُ
وتعيش الأرواح في فلقِ الأشوا ** قِ حتَّى يباحَ فيها اللقـــــــــاء ُ
فإذا الكون فرحةٌ تغمُرُ الخـــــلْ ** قَ، إليه تبتَّل الأتقيـــــــــ ــــــاءُ
وإذا الأرضُ في سلامٍ وأمـــــنٍ ** وإذا الفجرُ نشوةٌ وصَفـــــــــاء ُ
وكأنِّي أرى الملائكةَ الأبــــــــرا ** رَ فيها وحولَها الأنبيـــــــــ ـــــاءُ
نَزَلوا فوقها من الملأِ الأعلــــى ** فأين الشَّقاءُ والأشقيــــــــ ــــاءُ

إنها الليلة المباركة، وأفضل ليالي الدهر، وخير ساعات العمر، فلو قُدِّر للعبد أن يجتهد ويواصل عبادة ربه قرابة أربعة وثمانين عامًا ليس فيها ليلة القدر؛ لكان قيامه ليلة القدر وحدها خيرًا من هذه السنوات الطوال، وهذا من عظيم فضل الله وإنعامه على هذه الأُمَّة، وفتح السبيل للمنافسة وسلوك الطرق السريعة المحصِّلة للكثير من الخير، بالقليل من الجهد مع الثقة بالله وحُسْن الظَّنِّ به.

وليلةٍ من ليالي العُمْرِ خالدةٍ ** يَفنَى الزمانُ ولا تَفنَى لذاذتُها
كأنها حُلُمٌ بل إنَّها حُلُــــــــمٌ ** لولا تَقلُّبُ عينِي وانتباهتُهــــا

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: دَخَلَ رَمَضَانُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ» [1].

قال الإمام مالك: بلغني أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُرِيَ أَعْمَارَ النَّاسِ قَبْلَهُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ ألَّا يَبْلُغُوا مِنَ الْعَمَلِ مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمْرِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ»[2].

أَطِلِّي عَلَيْنا مِنْ سَمائِكِ كالبَدْرِ ** فلَيْلُ السُّرَى مِنْ حَوْلِنا تائِهُ الفَجْــرِ
أَطِلِّي فَفِي طَياتِكِ النورُ والهُدى ** هُوَ البَلسَمُ الشَّافي لأدْوائِنا الكُثْرِ
ويا ذِكْرَياتِ المجْدِ سِفْرُك حافِلٌ ** تُطَالِعُنا آياتُهُ ليلةَ القــــــــــــ ــدرِ
الليلة الموعودة المشهودة، التي سجَّلها الوجود كلُّه، والكونُ أجمعُه، في فرح وغبطة وابتهال للكبير المتعال، إنها ليلةُ الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعلى، ليلة ذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثلَه في عظمته، وفي دلالته، وفي آثاره في حياة البشرية جميعًا {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } ﴾ [القدر: 1].

والليلة من العظمة بحيث تفوق حقيقتُها حدودَ الإدراك البشري، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر: 2] إنها من العظمة حيث لا تحيط بها العقول، ولا تتصوَّرها الأذهان، ولا تبلغها الأوهام.

{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] فكم من آلاف الشهور، وآلاف السنينَ قد انقضت دون أن تترك في الحياة بعض ما تركته هذه الليلة المباركة السعيدة من آثارٍ وتحوُّلات؟!

مَا نَبَا سَيْفِي وَلا دَهْرِي أَبَـــى ** مُذْ تَخِذْتُ اللَّهَ -فَذًّا- مَأْرَبَــا
وَتَوَجَّهْتُ إِلَى كُرْسِيِّــــــ ــــــهِ ** أَرْمُقُ العَرْشَ، وَتَقْدِيسِي رَبَا
مُسْلِمًا جِسْمِي وَرُوحِي لِلسَّنَا ** وَخَلايَايَ تَعِيشُ الطَّرَبَــــــ ــا
غَمَرَ الأَكْوَانَ بِالنَّشْوَةِ فِــــــي ** لَيْلَةِ القَدْرِ سُمُوًّا مُجْتَبَــــــى
وَتَجَلَّى النُّورُ فِي قَلْبِي رِضًــا ** فَاضَ إِنْعَامًا وَأَسْدَى وَحَبَـــا

{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر: 2]، آيات تكاد ترف وتنير؛ بل هي تفيض بالنور الهادئ الساري الرائق الودود؛ نورِ الله المشرقِ في قرآنه، وإفاضة هذا النورِ على الوجود كلِّه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] ونورِ الملائكة والروح وهم في غدوِّهم ورواحهم طوال الليلة بين الأرض والملأ الأعلى، وانتشارِهم فيما بين السماء والأرض، في هذا المهرجان الكوني، الذي تصوُّره كلمات السورة تصويرًا عجيبًا: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4]، ونورِ الفجر الذي تعرضه النصوص متناسقًا مع نُور الوحي ونور الملائكة، وروحِ السلام المرفرف على الوجود، وعلى الأرواح السارية في هذا الوجود، وإسباغِ السلامِ الذي فاض من روح الله على الضمير البشري والحياة الإنسانية، وبما تضمنه هذا القرآن من عقيدة وتصوُّر وشريعة وآداب تشيع السلام في الأرض والضمير: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5].

ولقد تغفل البشرية -لجهالتها ونكد طالعها- عن قدر ليلة القدر، وعن حقيقة ذلك الحدث، وخسرت السعادة والسلام الحقيقي -سلامَ الضمير، وسلامَ البيت، وسلامَ المجتمع- الذي وهَبَها إيَّاه الإسلامُ.

{سَلَامٌ هِيَ} لقد انطفأ النور الجميل الذي أشرق في رُوحها مرة، وانطمست الفرحة الوضيئة التي رفت بها وانطلقت إلى الملأ الأعلى، وغاب السلام الذي فاض على الأرواح والقلوب، فلم يُعوِّضها شيء عن فرحة الروح ونور السماء وطلاقة الرفرفة إلى عليِّين {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر: 2]

دَعَا رَمضانُ الخَيْرِ كل مُرابِـــطٍ ** لَدَيْه فَلَبَّى المؤمنونَ على الإثْـرِ
وطافَتْ بهم ريحُ الجِنانِ عَليلةً ** تَهُب مِنَ الرحَمنِ ذائِعَةَ النَّشْـــرِ
تَنَفسَ فيها الخُلدُ حينَ تفتحَتْ ** أزاهيرُهُ البَيْضاءُ في ليلةِ القَدْرِ

إنها ليلةُ القدر! {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] لقد فُرِق فيها من كل أمر حكيمٍ، وقد وُضِعت فيها من قِيمٍ وأُسُسٍ وموازين، وقد قررت فيها من أقدارٍ أكبر من أقدار الأفراد، أقدار أُمَم ودول وشعوب؛ بل أكثر وأعظم، أقدار حقائق وأوضاع وقلوب!

فَطُوبى لِمَنْ يَحْظى بِشَمِّ عَبيرِهـــــا ** فَيَسْجُدُ مَغْشيًّا عَلَيْهِ مِنَ البِشْـــــــــ ــرِ
ويَضرعُ في حُبٍّ ويَبكي من الجَوَى ** ويَكْتُمُ أشواقًا تَأجَّحُ كالجَمْــــــــ ـــــــر
ويُصْغِي إلى صَوْتِ السماءِ كأنَّــــــهُ ** صَدى خَفَقاتِ القَلبِ يَنْبِض في الصَّدْرِ

{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر: 2] لَيْلَةٌ يُفْتَحُ فِيهَا الْبَابُ، وَيُقَرَّبُ فِيهَا الأَحْبَابُ، وَيُسْمَعُ الْخِطَابُ، وَيُرَدُّ الْجَوَابُ، وَيُسْنَى لِلْعَامِلِينَ عَظِيم الأَجْرِ {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5].

يَسْعَدُ بِهَا الْمُوَاصِلُ، ويفوزُ معها الواصل، وَيُسمعُ فِيهَا السائلُ، وَيُقْبَلُ فِيهَا الْعامِلُ، فَيَا رِبْحَ الْمُعَامِلَ فِي البرِّ والْبَحْرِ {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} .

لَيْلَةٌ تُتَلَقَّى فِيهَا الْوُفُودُ، وَيَحْصُلُ لَهُمُ الْمَقْصُودُ، بِالْقَبُولِ وَالْفَوْزِ وَالسُّعُودِ، أَتُرَى مَا يُؤْلِمُكَ أَيُّهَا الْمَطْرُودُ ظلامُ الْهَجْرِ؟ {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} .

أَخْلَصُوا وَمَا أَخْلَصْتَ قَصْدَكَ، وَبَلَغُوا الْمُرَادَ وَمَا بَلَغْتَ أَشُدَّكَ، وَكُلَّمَا جِئْتَ بِلا نِيَّةٍ رَدَّكَ، أومَا يُؤَثِّرُ عِنْدَكَ شَدِيدُ هَذَا الزَّجْرِ؟ {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} .

أَيْقِظْ نَفْسَكَ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا، وَانْتَظِرْ مَا سَيَأْتِي عَنْ قَلِيلٍ إِلَيْهَا، وَأَسْمِعْهَا نحيبَك فَقَدْ حَضَرَتْ لَدَيْهَا، وتضرع في ظلمات الليل إذا يسري {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} .

ليلةٌ يَرْبَحُ فِيهَا مَنْ فَهِمَ وَدَرَى، وَيَصِلُ إِلَى مُرَادِهِ كُلُّ مَنْ جَدَّ وَسَرَى، وَيُفَكُّ فِيهَا الْعَانِي وَتُطْلَقُ الأَسْرَى، أيتَقَدَّمُ الْقَوْمُ وأنت راجع إلى ورا، أو ليس كُلُّ هَذَا قَدْ جَرَى، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} .

فوا أسفى كم ذا التكسل والونـا ** تغافلتَ يا مغرور عن ليلة القــدرِ
وقومٌ على باب الكريمِ وقُوفُهـم ** يناجون مولاهم قيامًا إلى الفجرِ
فيا حسنَهم والليلُ أسدلَ جُنْحَه ** وأدمُعهم تهمي كمنسكب القَطـرِ
أطالوا على باب الكريم وقوفَهم ** ومن لازم الأبواب يظفر بالبِــــرِّ

{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} إنها لَيْلَةُ الإِنَابَةِ، ولحظات الإصابة، فِيهَا تُفْتَحُ أَبْوَابُ الإِجَابَةِ، ويؤذنُ لمن يرجو كرمَ ربِّه وثوابَه.

فأَيْنَ اللائِذُ بِالْجَنَابِ؟! أَيْنَ الْمُتَعَرِّضُ بِالْبَابِ؟! أَيْنَ الْبَاكِي عَلَى مَا جَنَى؟! أَيْنَ الْمُسْتَغْفِرُ لأَمْرٍ قَدْ دَنَا؟!

فحيَّهلا إن كنتَ ذا همَّةٍ فقـــــد ** حدا بك حادي الشوق فاطوِ المراحلَا
ولا تنتظر في السير رفقةَ قاعدٍ ** ودعْهُ فإن العزم يكفيك حامــــــــــلً ا
وخذ قبسًا من نورهم ثم سر به ** فنورهم يهديك ليس المشاعـــــــــ لا
وخذ منهم زادًا إليهم وسر على ** طريق الهدى والحب تصبح واصـــلا
فما هي إلا ساعة ثم تنقضــــي ** ويصبح ذو الأحزان فرحان جـــــاذلًا

فيا هِمَم المحبِّين بغير الله لا تقنعي؛ {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُو نَ} [المطففين: 26]، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران: 133]، {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [الحديد: 21]، وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} [التوبة: 100]، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10]، {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} [الأنعام: 14]، {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 51]، {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّ} هِ ﴾ [فاطر: 32]، {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61]، {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90].

ومن وقعت عليه غبرة في طريقنا؛ لم تقع عليه قتَرة فراقنا، ومن خطا خُطوة إلينا؛ وجد حظوة لدينا، ومن نقل نحونا قدَمَه؛ غفرنا له ما قدَّمه، ومن رفع إلينا يدًا؛ أجزلنا له رغدًا، ومن التجأ إلى سُدَّة كرمنا؛ آويناه في ظلِّ نِعَمِنا، ومن شكا فينا غليلًا؛ مهَّدْنا له في دار فضلنا مقيلًا.

خَزَائِنُهُ مَلْأَىٰ وَلِلكَوْنِ مُهْجَـــــــــ ـــةٌ ** عَلَىٰ بَابِهِ تَدْعُو وتَرْجُوْهُ رَحْمَتَـــــهْ !
هُوَ الآمِرُ ادْعُوْنِيْ وَمَا خَابَ مَنْ دَعَا ** وَأَجْرَىٰ عَلَىٰ خَدِّ التَّسَابِيْحِ دَمْعَتَهْ!
يا أيها المسلمون، ما أسرعَ مُرورَ الأيام وتعاقُبَها، وانقِضاءَ السنينَ وتلاحُقَها! وابنُ آدم يُنذِره يومُه وأمسُه، ويتعاقَبُ عليه بالعِبَر قمرُه وشمسُه! أين من كان معنا في العام الماضي؟! أصابَتهم سِهام المَنون المواضي {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37]، {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [يونس: 45].

هَلِ الدَّهْرُ إِلَّا سَاعَةً ثُمَّ تَنْقضي ** بِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ عَنَاءٍ وَمِنْ خَفْضِ
فَهَوْنَكَ لَا تَحْفَلْ مَسَاءَةَ عَارِضٍ ** وَلَا فَرْحَةً سَرَتْ فَكِلْتَاهُمَا تَمْضِــي

ألا فاتَّقوا الله - رحمكم الله - واعلَموا أن المُوفَّقين لا تزيدُهم مواسِمُ الخيرات إلا اجتهادًا في العبادات، وحِرصًا على الأعمال الصالِحات، فإذا ما انقضَت المواسِمُ بقِيَت آثارُها في حياتهم وسُلوكِهم، يُتْبِعون الحسنةَ الحسنة، ويدرءُون بالحسنة السيئة {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 22].

عباد الله، ها هو رمضان في تقويضِ خِيامه، فيا تُرى من سوف يُدرِكُه في القادم من أعوامِه؟!

ها هو تتصرَّمُ أيامُه، وينحلُّ عِقدُه ونظامُه، قد آذَن بالارتِحال، ولم يبقَ منه إلا بِضعُ ليال، وهكذا هي الأيامُ تفنَى، والأعمارُ تُطوَى، ولا يبقَى إلا وجهُ ذي العزَّة والجلال، فاغتنِموا - رحمكم الله - شريفَ هذه الأيام والليالي، وبادِروا بصالِح الأعمال قبل حُلول الآجال.

يا راحلًا وجميلُ الصبر يتبعـــــه ** هل من سبيل إلى لقياك يتفقُ؟
ما أنصفتك دموعي وهي داميةٌ ** ولا وفى لك قلبي وهو يحترقُ
يا عيونًا أرسلت أدمعهــــــــــ ـــا ** ما بذا بأسٌ لو أرسلتِ الدَّمــــــا

عباد الله، من كان منكم أحسن فيه فعليه التمام، ومنْ فَرَّط فليختمه بالحسنى والعمل بالختام، فاستغنموا منه ما بقي من الليالي اليسيرة والأيام، واستودعوه عملًا صالحًا يشهد لكم به عند الملك العلَّام، وودِّعوه عند فِراقه بأزكى تحية وأطيب سلام.

سلام من الرحمن كـــل أوانِ ** على خير شهر قد مضى وزمانِ
سلام على شهر الصيام فإنه ** أمان من الرحمن كل أمـــــــــانِ
لئن فنيت أيامك الغرُّ بغتــةً ** فما الحزنُ من قلبي عليك بفـانِ

فأين المُجِدُّ في آخر شهره؟! وأين المُشمِّرُ فيما بقي من عشره؟! وأين المُستعِدُّ ليوم حشرِه؟! وأين المُستدرِكُ لما فاتَ من نفَحَات دهره؟!

فرَحِمَ اللهُ امْرأً بادرَ للاستِدراك في باقِي أيامه وساعاته، وندِم على ما سلفَ من تفريطه وإضاعاته، وعوَّض بحُسْن العمل ما فات من طاعاته، فما أقبح التقصيرَ في آخر العمر!

يا غافلًا وليالي الصومِ قد ذهبتْ ** زادتْ خطاياك قفْ بالباب وابكيها
ﻭَﺍﻏْﻨَﻢْ ﺑﻘﻴﺔَ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺸﻬْﺮِ ﺗَﺤْﻆَ فما ** ﻏﺮﺳﺘَﻪُ ﻣِﻦْ ﺛِﻤَﺎر الخير ﺗَﺠْنيها

فتيقَّظ -حفِظك الله - وانظُر بين يدَيك، واجعَل أمرَ الآخرة بين عينَيك، هذا شهرُك يشهَدُ لك أو يشهَدُ عليك؟!

ويا تُرى هل تعودُ عليكم أيامُه أو لا تعود؟! ويا تُرى من هو المقبولُ؟! ومن هو المردُود؟!

فــيا قومنا أجيبوا داعي الله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُ مْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأحقاف: 19] {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 132].

لا ينهضُ القلبُ إلَّا حينَ يدفعُـهُ ** عَزْمُ الحياةِ، إذا ما استيقظتْ فيهِ
والحَبُّ يخترقُ الغَبْراءَ، مُنْدفِعًا ** إلى السماء، إذا هبَّتْ تُناديـــــــــ ـهِ
والقيدُ يأَلَفُهُ الأمواتُ، ما لَبِثــوا ** أمَّا الحيَاةُ فيُبْليها وتُبْليــــــــ ـــــهِ

عباد الله، زكاة الفطر طُهرةٌ للصائم من اللَّغْو والرَّفَث، وطُعْمةٌ للمساكين، وشُكْرٌ لله على إكمال الصيام، فأدُّوها - رحمكم الله - على الوجه المشرُوع، طيبةً بها نفوسُكم، تُغنون بها الفقراءَ عن السؤال في يوم العيد، وهي صدقةٌ تُدفَعُ للفقراء والمساكين الذين تحلُّ لهم زكاةُ المال، ويبدأ وقتُ إخراجها من ليلةِ العيد إلى الخروج إلى صلاة العيد، ولو قدَّمها قبل ذلك بيومٍ أو يومين؛ أجزأَه، ومَنْ فاتَهُ إخراجُها قبل صلاةِ العيد؛ فإنه يُخرِجُها بقيةَ اليوم، ومَنْ فاتَه إخراجُها في يوم العيد؛ فإنه يُخرِجها بعدَه قضاءً.

فاللهُمَّ يا غيَّاث المستغيثين، ويا مجيبَ المضطرين، وفِّقْنا للنجاة والفوز بشهود ليلة القدر، وعظِّم لنا فيها الثواب والأجر، وضَعْ عنَّا فيها كل سيئة ووِزْر، وارفع عنا كل بلاء وشرٍّ، فإنك يا ربنا عفوٌّ تُحِبُّ العفوَ فاعْفُ عنَّا.


[1] رواه ابن ماجه في سننه، باب ما جاء في شهر رمضان (1/ 526)، ، حسنه الألباني، صحيح الترغيب والترهيب (1/ 586).

[2] موطأ مالك، باب ما جاء في ليلة القدر (1/ 321).
______________________________ ____________________________
الكاتب: وضاح سيف الجبزي