العمل التطوعي.. أسسه ومهاراته (1-10)
العمل التطوعي أسسه ومهاراته، سلسلة مقالات أردت منها إحياء سنة التطوع،فهو من أنبل الأعمال وأفضلها؛ لما فيه عظيم الأجر، والنفع والخير للبلاد والعباد، به يستقر المجتمع وتحصل به المحبة والألفة والوئام بين المسلمين وتتحقق به مواساة أهل العوز والحاجة وإزالة أسباب الأحقاد من الصدور، وفيه نشر الألفة بين الناس، والتعاون على البر والخير بعيداً عن الفردية أو الأنانية أو السلبية. وحينما تقلب صفحات تاريخنا الإسلامي تجد نماذج رائعة من الأعمال التطوعية التي كان لها الدور الفاعل في التنمية والحضارة، والتي وفرت الحياة الكريمة لكل إنسان في المجتمع المسلم، وتخفيف معاناة أهل الحاجة والعوز، ودفعت الطاقات البشرية لتسخر جهودها لمنفعة البلاد والعباد، وهذا ما حثت عليه شريعتنا الغراء، فالعمل التطوعي هو جزء من عقيدة المسلم وحياته اليومية. ولتبيان الحقائق نقدم سلسلتنا في العمل التطوعي، وستكون حلقتنا الأولى في مفهوم ومشروعية العمل التطوعي.العمل التطوعي.. مشروعيته وآثاره
التطوع من نعم الله تعالى على عباده، بأن هيأ لهم من الأعمال التي يؤجرون عليها، ويقدمون من خلالها إمكاناتهم وقدراتهم وطاقاتهم التي وهبها الله لهم في حياتهم التي يعيشوها، من أجل منفعة الآخرين.
والعمل التطوعي دعت إليه الشريعة الإسلامية، وجاء الحث على فعله في كتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وله وفير الأجر والمثوبة من الله تعالى. وقد امتثل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم لهذا الترغيب والحث على منفعة الناس والمجتمع، وسار على نهجهم التابعون والسلف الصالح، والمسلمون على مر العهود. ومن خلال التشريع الرباني، والامتثال لهذا التشريع، وثق التاريخ منذ القرن الأول وإلى أيامنا التي نعيشها أعمالا تطوعية ومؤسسات وهيئات وأوقافا وخيرات شهد لها القريب والبعيد.
وتاريخ المسلمين كان ولا يزال ثرياً بالجهود التطوعية التي يبذلها المسلمون في كافة المجالات، فأقاموا حضارة إسلامية كانت الأولى في العهد الأموي وفي العهد العباسي وفي الثلاثمائة سنة الأولى من العهد العثماني.
وقد أولى فقهاء الأمة ومحدثوهم العمل التطوعي والخيري والوقفي اهتماماً واضحاً، فبوبوا له الأبواب وقعدوا له القواعد، وبحثوا في مسائله ومستجداته، فأصلوه تأصيلاً شرعياً، وحددوا له الشروط والضوابط والمقاصد والغايات، وطرق إحيائه في النفوس ورعايته وحسن إدارته.
والمسلم كما هو مطالب بالركوع والسجود والحياة الخالصة لله، فإنه مطالب بفعل الخير على مستوى الفرد والمجتمع؛ قال تعالى: {يأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون}، الشيخ السعدي في تفسيره للآية قال الآتي: «لا طريق للفلاح سوى الإخلاص في عبادة الخالق والسعي في نفع عبيده فمن وفق لذلك فهو الموفق»، وصاحب النعمة والغني لا يهنأ بنعمته وماله إذا لم يشارك الآخرين ويتعايش معهم ويخفف من آلامهم.
والعمل التطوعي به تقاس حضارة الأمم وتقدمها واستشعارها لمسؤولياتها، ومشاركتها للعمل بما يخدم البلاد والعباد، لتنعم الأمم بالحياة الكريمة الهانئة.
معنى التطوع:
- التطوع في اللغة: تقديم ما ينفع الآخرين، وفي الاصطلاح: طاعة غير واجبة يقدمها المسلم تقرباً إلى الله تعالى، أي بذل للخير تقرباً إلى الله بغير عوض.
ويمكننا أن نجمل تعريف العمل التطوعي من تعاريف علماء اللغة والفقه والاجتماع بأنه: «الجهد الذي يتبرع الإنسان به طواعية، لعمل مشروع، يخدم المجتمع، وينمي أفراده ومؤسساته؛ تقرباً إلى الله تعالى».
ماهية التطوع:
التطوع هو المجهود الذي يقوم به الفرد بصفة اختيارية عن طريق الإسهام بخدمات للمجتمع دون مقابل مادي، وقد يكون على شكل عمل أو علم أو رأي أو تمويل أو غير ذلك مما يخدم المجتمع.
العمل التطوعي في القرآن الكريم:
ديننا الإسلامي الحنيف يحث على القيام بالأعمال التطوعية والخيرية، يقول الله تعالي: {فَمَن تَطَوّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لّهُ} (البقرة: 184 ) و قال تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}( الحشر:9) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}(ال بينة:7)، وقال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما}، وقال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} (آل عمران: 10)، وقال الله تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً} (النساء:114)، يعني: لا خير في كثير من كلام الناس وأحاديثهم ومحاوراتهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، وقال تعالى: {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}، ومهما دق ذلك العمل فإنه مثاب عليه إذا كان خالصاً صوابا.
وقال الله تعالى: {ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله} (البقرة:282)، فهنا ترغيب للكاتب أن يتطوع بكتابته ولا يمتنع إذا طلب منه، فالكتابة من نعم الله على العباد التي لا تستقيم أمورهم الدينية ولا الدنيوية إلا بها، وأن من علمه الله الكتابة فقد تفضل الله عليه بفضل عظيم، فمن تمام شكره لنعمة الله تعالى أن يقضي بكتابته حاجات العباد ولا يمتنع من الكتابة، وفي هذه الآيات دلالة واضحة على فضل التطوع وأجره العظيم؛ لما فيه من نفع للناس وإحسان إليهم.
العمل التطوعي في السنة النبوية:
وردت أحاديث صحيحة صريحة في فضل العمل التطوعي في العبادات والنوافل, وفي أعمال البر والمعروف، قال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه» رواه البخاري، وعنه صلى الله عليه وسلم قال: «يا بن آدم إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك» رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته» رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: «كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة، ودل الطريق صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة» صحيح الجامع.
فبعدد مفاصل الإنسان الثلاثمائة وستين مفصلاً، يستحب له أن يؤدي شكر نعمة كل مفصل من هذه المفاصل كل يوم بصورة من صور العمل التطوعي.
ومن محبة النبي صلى الله عليه وسلم البالغة لأهل الأعمال التطوعية وعنايته بهم، وتفقده لهم. ما رواه البخاري ومسلم وابن ماجه بإسناد صحيح واللفظ له:
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنها بعد أيام فقيل له: إنها ماتت فقال: «فهلا آذنتموني، فأتى قبرها فصلى عليها».
والعمل التطوعي كان أساساً في بناء الحضارة الإسلامية، فجهد العلماء والفقهاء والنساخ وطلبة العمل في شتى العلوم لم يكن إلا تطوعاً. وما كان عملهم وعطاؤهم يقابل بالأجور، بل كانوا يتورعون من أخذ المال إلا ما يحسن معيشتهم، فبرز في العمل التطوعي العلماء والأطباء والصيادلة والفلكيون والرياضيون وغيرهم.
اعداد: عيسى القدومي