الكبائر (2)
الإشراك بالله
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الإشارة إلى خطر الكبائر في الدنيا والآخرة، وأن تركها سبب النجاة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
الشرك أكبر الكبائر:
- الشرك بالله أكبر الكبائر، وأعظم الذنوب، وأعظم العظائم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَلا أُخْبِرُكُمْ بأَكْبَرِ الكَبائِرِ؟) قالوا: بَلَى يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: (الإشْراكُ باللَّهِ، وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ...) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم- لما سأله عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللَّهُ عنْه-: أيُّ الذنبِ أعظمُ؟ قال: (أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ) (متفق عليه)(1).
- الشرك أكبر الكبائر؛ لأنه تشريك العباد في أعظم حق للمعبود: قال -تعالى-: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (الإسراء: 23)، وقال -تعالى-: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) (النساء: 36)، وفي الحديث عن يحيى بن زكريا -عليهما السلام- قال: (وإنَّ مَثلَ مَنْ أَشْرَك باللهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتْرَى عَبْدًا مِن خَالِصِ مَالِه بذَهَبٍ أو وَرِقٍ، فَقَالَ: هَذِه دَارِي وهَذَا عَمَلِي، فاعمَلْ وأدِّ إليَّ، فَكَانَ يَعْمَلُ ويُؤدِّي إِلَى غَيرِ سيِّدِه، فأيُّكم يَرَضْى أن يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِك؟!) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)(2).
- الشرك بالله لا ينفع معه عمل (حج - عمرة - زكاة - صيام - ...)، ولقد حَذَّر الله -سبحانه- منه خير عباده، وصفوة خلقه، فقال -تعالى-: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ) (الزمر: 65، 66).
- الذنوب كلها مهما عظمت فإنها قد تُغفَر لو مات عليها الإنسان إلا الشرك: قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ) (النساء: 48)، وقال: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) (المائدة: 72)(3).
- ولذا تعوذ منه سادات الموحدين، وخافوه على أنفسهم وعلى غيرهم، وقامت لأجله الخصومة، ونزلت الكتب وقام سيف الجهاد: قال -تعالى- عن إبراهيم الحنيف -عليه السلام-: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ) (إبراهيم: 35)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ أخْوَفَ ما أخافُ عليكم الشِّركُ... ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وقال -تعالى-: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 33).
بداية ظهور الشرك في الأرض:
- خلق الله الناس على التوحيد: قال -تعالى-: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) (الروم: 30)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ) (متفق عليه).
- وظل الناس على التوحيد قرونًا بعد آدم -عليه السلام-، قال الله -تعالى-: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) (البقرة: 213).
- إلى أن جاء قوم نوح الذين انتكست فطرتهم، فغيَّروا وبدَّلوا وأشركوا: قال ابن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عنْهما- في تفسير قوله -تعالى-: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) (نوح: 23)، قال: "هي أسماء رجال صالحين، لما ماتوا أوحى الشيطان إلى أتباعهم أن انصبوا إلى مجالسهم تصاوير، تذكِّركم ما كانوا عليه من العبادة، فلما مات الذين فعلوا ونسي العلم، عبدهم مَن بعدهم مع الله" (تفسير القرطبي، البداية والنهاية لابن كثير).
- ومِن يومها ظلَّت عقيدة الشرك تنتشر في الأرض على صورٍ لا تُحصَى ولا تُعَد؛ فأرسل الله إليهم الرسل ليحذروهم من ذلك: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل: 36)، (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) (النساء: 36)، (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) (هود: 84).
من مظاهر الشرك المنتشرة في الأرض:
- تمهيد مختصر جدًّا حول أنواع التوحيد، وكيف أن الشرك يكون في الأنواع الثلاثة للتوحيد التي تضمنتها الآية، قال -تعالى-: (رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (مريم: 65).
من مظاهر الشرك الأكبر في الأنواع الثلاثة:
1- تسمية غير الله ربًّا أو ابنًا لله، ونحوه: قال -تعالى-: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (التوبة: 30)، وقال -تعالى-: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (المائدة: 72)، وقال -تعالى-: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (المؤمنون: 91)، وقال -تعالى-: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (الإخلاص).
2- اعتقاد ان غير الله من الأولياء والصالحين والأنبياء والملائكة يدبرون الأمر مع الله: قال -تعالى-: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ) (سبأ: 22).
3- سؤال الحاجات غير الله من الأموات وأصحاب الأضرحة: قال -تعالى-: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ . وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) (الأحقاف: 5، 6).
4- اعتقاد البعض أن له حق الأمر والنهي والتشريع المطلق في الحكم: قال -تعالى-: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) (الأعراف: 54)، وقال -تعالى-: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 40)، وقال -تعالى-: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ) (الشورى: 21)، وقال: (أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) (النساء: 60).
5- اعتقاد بعض الناس أنه يملك نفسه، وأنه حر في قبول الشرع أو رفضه -حرية شخصية كما يقولون- فيقال لهؤلاء: من المالك الحقيقي لأعضائك: السمع والبصر، والعقل، واليد والرجل، والبطن، والفرج... بل والحياة؟! فإن قال: أنا، كان كاذبًا بالمالك -سبحانه-! فكيف له أن يقول للمَلِك المَالِك سبحانه: أنا حر؟! قال -تعالى-: (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) (الرعد: 41)، وقال -تعالى- عن المؤمنين: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إلى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) (النور: 51)، وقال عن اليهود: (وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلً) (النساء: 46).
صور من الشرك المتداخلة بين الأكبر والأصغر بحسب الاعتقاد:
1- إتيان الكهان والعرافين وتصديقهم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-) (رواه أحمد وأبو داود ، وصححه الألباني).
2- تعليق التمائم على البيوت والسيارات ونحوها: (تعليق الكف المقطوعة - الخرزة الزرقاء - فردة النعل - ذيل حيوان أو رأسه - ...): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ الرُّقى، والتَّمائمَ، والتِّوَلةَ شِركٌ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
3- التشاؤم والتفاؤل بالأيام، والأماكن، والطيور، والأشخاص، وغيرها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الطِّيرةُ شِركٌ) (رواه أبو داود، والترمذي، وصححه الألباني).
4- الحلف بغير الله (كقول بعضهم: "وغلاوة أمي"، "ورحمة أبويا"، "والعيش والملح"، "وحياة ولادي"، "واللي أنت زرته"، "والكعبة"، "والأيام المفترجة"، ...): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من حلفَ بغيرِ اللهِ فقد كفرَ أو أشركَ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)(1).
5- الألفاظ والاعتقادات الخاطئة في الأقوال والأفعال (كقول بعضهم: "ربنا افتكره"، "في عرض ربنا"، "لولا الطبيب ما نجا المريض"، "لولا بطولة الجنود لانهزمنا"، "لولا الخطط المحكمة لفشلنا"، "المنحوس منحوس ولو علقوا له فنوس"، وكقول بعض الصيادين عن السمك الكبير: "غلطة"): قال ابن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عنْه- في قوله -تعالى-: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 22)، قال: هو أن تقول: "لولا كَلْبُهُ هَذَا لأَتَانَا اللُّصُوصُ، وَلَوْلا الْبَطُّ فِي الدَّارِ لأَتَى اللُّصُوصُ" (رواه ابن أبى حاتم، وقال ابن حجر أسناده قوي).
خاتمة:
- الواجب على المسلم أن يطهِّر توحيده من كلِّ مظاهر الشرك: قال -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) (الأنعام: 82).
فاللهم يا ولي الاسلام وأهله، مسكنا بالإسلام حتى نلقاك عليه، واقبضنا على التوحيد الخالص.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ
(1) لقد أمرك الله أن تحسن إلى العباد، وتؤدي إليهم حقوقهم، وتتعامل معهم بكلِّ ما فيه خيرك وخيرهم، وحذَّرك من عبادتهم، فهو حق له وحده، لكن أكثر الناس عكس الحال؛ فأساء إلى عباد الله، وهضم حقوقهم وظلمهم، ثم جاء ليصرف إلى بعضهم حق الله الأعظم، وهو: العبادة! فصرف إليهم صورًا هي التي تسمَّى: الشرك -كما سيأتي في آخر الحديث-.
(2) إن أخس الحيوانات إذا أنعمتَ عليه بنعمة، يكون طائعًا مواليًا لك؛ فانظر إلى المشرك كم هو أخس من مثل هذا الحيوان؟!
(3) لقد غفر الله لبغي بعمل صالح؛ لأنها ماتت على التوحيد، ولم يغفر لعم النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الذي سبق بالعمل الصالح للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه كان على الشرك.