تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 45

الموضوع: الكبائر

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي الكبائر

    الكبائر (1)
    خطر الكبائر في الدنيا والآخرة
    (موعظة الأسبوع)







    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    الغرض من الموضوع:

    - التحذير من آثار الكبائر على الإنسان في الدنيا والآخرة، من خلال سلسلة أحاديث حول أبرز الكبائر.

    مقدمة في التعريف بالكبائر وفضل اجتنابها:

    - الذنوب منها سيئات صغائر، ومهلكات كبائر، والصغائر تكفَّر بالأعمال الصالحة، والكبائر لا تغفر إلا بتوبة مخصوصة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31) وقال -تعالى-: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) (النجم: 32)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إلى الجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إلى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ ما بيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الكَبَائِرَ) (رواه مسلم)(1).

    - فالكبائر هي عظائم الذنوب وكبارها، مثل: (الشرك بالله - قتل النفس - نرك الصلاة - منع الزكاة - عقوق الوالدين - الزنا - السرقة - أكل الربا - شرب الخمر - شهادة الزور - الرشوة - الخيانة - الكبر - قطع الرحم - ...)، قال الذهبي رحمه الله: "الذي يتجه ويقوم عليه الدليل: أن مَن ارتكب شيئًا مِن هذه العظائم مما فيه حد في الدنيا، كالقتل والزنا والسرقة، أو جاء فيه وعيد في الآخرة من عذاب أو غضب أو تهديد، أو لعن فاعله على لسان نبينا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- فإنه كبيرة" (الكبائر للذهبي).

    - ولقد ضمن الله لمَن اجتنب الكبائر أن يكفر عنه الصغائر من السيئات، ويدخله الجنة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

    - ومدح الله المجتنبين للكبائر والفواحش في سياق مدح المؤمنين: قال -تعالى-: (فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . َالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (الشورى: 37)(2).

    خطر المعاصي والكبائر في الدنيا والآخرة:

    أولًا: التحذير من خطرها في الدنيا:

    - الكبائر والمعاصي سبب الأزمات والبلايا (فقر - غلاء- أمراض - زلازل - كوارث - ...) التي ينظر الكثير من الناس إليها من جهة مادية بحتة(3)، دون النظر إلى السبب الحقيقي (البُعد عن دين الله وانتشار المعاصي والكبائر)، قال -تعالى-: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر: 49)، وقال: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات: 77)، قال -تعالى-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41)، وقال -تعالى-: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) (الشورى: 30).

    - الكبائر والذنوب سبب النقم والمصائب، وزوال الأمم والشعوب: قال -تعالى-: (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا . فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا . أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا) (الطلاق: 8-10)، وقال: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (العنكبوت: 40).

    - هذه سنة الله التي لا تتخلَّف؛ فليحذر العاقل: عن أم المؤمنين زينب بنت جحش -رَضِيَ اللَّهُ عنها-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها وهو يقول: (ويْلٌ لِلْعَرَبِ مِن شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ؛ فُتِحَ اليومَ مِن رَدْمِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مِثْلُ هذِه) وحَلَّقَ بإصْبَعِهِ الإبْهَامِ والَّتي تَلِيهَا، قالَتْ زَيْنَبُ بنْتُ جَحْشٍ: فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وفينَا الصَّالِحُونَ؟ قالَ: (نَعَمْ؛ إذَا كَثُرَ الخَبَثُ) (متفق عليه).

    ثانيًا: التحذير من خطرها في الآخرة:

    - الإشارة إلى أنه سيأتي في الأحاديث عاقبة كل كبيرة في الدنيا والآخرة، ولكن نقف على مثالين لبعض الذنوب التي لا يهتم بعاقبتها كثير من الناس؛ فكيف بالكبائر العظام؟!

    - ترك التطهر من البول سبب لعذاب القبر!: عن ابن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عنْهما- قال: مَرَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بحَائِطٍ مِن حِيطَانِ المَدِينَةِ، أوْ مَكَّةَ، فَسَمِعَ صَوْتَ إنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ في قُبُورِهِمَا، فَقالَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (يُعَذَّبَانِ، وما يُعَذَّبَانِ في كَبِيرٍ ثُمَّ قالَ: بَلَى، كانَ أحَدُهُما لا يَسْتَتِرُ مِن بَوْلِهِ، وكانَ الآخَرُ يَمْشِي بالنَّمِيمَةِ) (متفق عليه).

    - غلول ثوب يحبس الشهيد عن الجنة، ويعذب المجاهد: ففي حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عنْه-، يحكي قصة مقتل غلام النبي -صلى الله عليه وسلم- فَرُمِيَ بِسَهْمٍ، فَكَانَ فِيهِ حَتْفُهُ: فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا له الشَّهَادَةُ، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (بَلْ، والذي نَفْسِي بيَدِهِ، إنَّ الشَّمْلَةَ الَّتي أصَابَهَا يَومَ خَيْبَرَ مِنَ المَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا المَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عليه نَارًا)، فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذلكَ مِنَ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بشِرَاكٍ -أوْ بشِرَاكَيْنِ- فَقَالَ: هذا شَيءٌ كُنْتُ أصَبْتُهُ، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (شِرَاكٌ -أوْ شِرَاكَانِ- مِن نَارٍ) (متفق عليه).

    خاتمة:

    - إن اجتناب الكبائر والمعاصي سبب لصلاح الدنيا والآخرة: قال -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف: 96)، وقال: (وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُ م مَّاءً غَدَقًا) (الجن: 16)، وقال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الأنفال: 33).

    فاللهم جنبنا المعاصي والذنوب، كبيرها وصغيرها، واغفر لنا ما قدَّمنا وما أخرنا، إنك أنت الغفور الرحيم.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــ


    (1) "قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ الْمَعَاصِيَ تَنْقَسِمُ إلى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي التَّسْمِيَةِ وَالْإِطْلَاقِ لِإِجْمَاعِ الْكُلِّ عَلَى أَنَّ مِنْ الْمَعَاصِي مَا يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَقْدَحُ فِيهَا، وَإِنَّمَا الْأَوَّلُونَ فَرُّوا مِنْ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ فَكَرِهُوا تَسْمِيَةَ مَعْصِيَةِ اللَّهِ -تعالى- صَغِيرَةً؛ نَظَرًا إلى عَظَمَةِ اللَّهِ -تعالى- وَشِدَّةِ عِقَابِهِ، وَإِجْلَالًا لَهُ عَزَّ وَجَلَّ" (الزواجر عن اقتراف الكبائر للهيثمي).

    (2) فائدة حول عدد الكبائر: تكلَّم العلماء في ذلك، فقال بعضهم: هي سبعة، بناءً على حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ...) (متفق عليه)، والحق أنها أكثر؛ لقول ابن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عنْه-: "هي إلى سَبْعِمِائَةٍ أقْرَبُ" (البحر المحيط لأبي حيان)، قال الذهبي: "وصدق ابن عباس".

    (3) الأسباب المادية الظاهرة، مثل: (الأزمة الاقتصادية العالمية - تاريخ الديون الطويل بين الدول - جشع التجار وشح الأغنياء).



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (2)
    الإشراك بالله
    (موعظة الأسبوع)







    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    المقدمة:

    - الإشارة إلى خطر الكبائر في الدنيا والآخرة، وأن تركها سبب النجاة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

    الشرك أكبر الكبائر:

    - الشرك بالله أكبر الكبائر، وأعظم الذنوب، وأعظم العظائم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَلا أُخْبِرُكُمْ بأَكْبَرِ الكَبائِرِ؟) قالوا: بَلَى يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: (الإشْراكُ باللَّهِ، وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ...) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم- لما سأله عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللَّهُ عنْه-: أيُّ الذنبِ أعظمُ؟ قال: (أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ) (متفق عليه)(1).

    - الشرك أكبر الكبائر؛ لأنه تشريك العباد في أعظم حق للمعبود: قال -تعالى-: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (الإسراء: 23)، وقال -تعالى-: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) (النساء: 36)، وفي الحديث عن يحيى بن زكريا -عليهما السلام- قال: (وإنَّ مَثلَ مَنْ أَشْرَك باللهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتْرَى عَبْدًا مِن خَالِصِ مَالِه بذَهَبٍ أو وَرِقٍ، فَقَالَ: هَذِه دَارِي وهَذَا عَمَلِي، فاعمَلْ وأدِّ إليَّ، فَكَانَ يَعْمَلُ ويُؤدِّي إِلَى غَيرِ سيِّدِه، فأيُّكم يَرَضْى أن يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِك؟!) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)(2).

    - الشرك بالله لا ينفع معه عمل (حج - عمرة - زكاة - صيام - ...)، ولقد حَذَّر الله -سبحانه- منه خير عباده، وصفوة خلقه، فقال -تعالى-: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ) (الزمر: 65، 66).

    - الذنوب كلها مهما عظمت فإنها قد تُغفَر لو مات عليها الإنسان إلا الشرك: قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ) (النساء: 48)، وقال: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) (المائدة: 72)(3).

    - ولذا تعوذ منه سادات الموحدين، وخافوه على أنفسهم وعلى غيرهم، وقامت لأجله الخصومة، ونزلت الكتب وقام سيف الجهاد: قال -تعالى- عن إبراهيم الحنيف -عليه السلام-: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ) (إبراهيم: 35)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ أخْوَفَ ما أخافُ عليكم الشِّركُ... ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وقال -تعالى-: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 33).

    بداية ظهور الشرك في الأرض:

    - خلق الله الناس على التوحيد: قال -تعالى-: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) (الروم: 30)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ) (متفق عليه).

    - وظل الناس على التوحيد قرونًا بعد آدم -عليه السلام-، قال الله -تعالى-: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) (البقرة: 213).

    - إلى أن جاء قوم نوح الذين انتكست فطرتهم، فغيَّروا وبدَّلوا وأشركوا: قال ابن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عنْهما- في تفسير قوله -تعالى-: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) (نوح: 23)، قال: "هي أسماء رجال صالحين، لما ماتوا أوحى الشيطان إلى أتباعهم أن انصبوا إلى مجالسهم تصاوير، تذكِّركم ما كانوا عليه من العبادة، فلما مات الذين فعلوا ونسي العلم، عبدهم مَن بعدهم مع الله" (تفسير القرطبي، البداية والنهاية لابن كثير).

    - ومِن يومها ظلَّت عقيدة الشرك تنتشر في الأرض على صورٍ لا تُحصَى ولا تُعَد؛ فأرسل الله إليهم الرسل ليحذروهم من ذلك: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل: 36)، (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) (النساء: 36)، (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) (هود: 84).

    من مظاهر الشرك المنتشرة في الأرض:

    - تمهيد مختصر جدًّا حول أنواع التوحيد، وكيف أن الشرك يكون في الأنواع الثلاثة للتوحيد التي تضمنتها الآية، قال -تعالى-: (رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (مريم: 65).

    من مظاهر الشرك الأكبر في الأنواع الثلاثة:

    1- تسمية غير الله ربًّا أو ابنًا لله، ونحوه: قال -تعالى-: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (التوبة: 30)، وقال -تعالى-: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (المائدة: 72)، وقال -تعالى-: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (المؤمنون: 91)، وقال -تعالى-: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (الإخلاص).

    2- اعتقاد ان غير الله من الأولياء والصالحين والأنبياء والملائكة يدبرون الأمر مع الله: قال -تعالى-: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ) (سبأ: 22).

    3- سؤال الحاجات غير الله من الأموات وأصحاب الأضرحة: قال -تعالى-: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ . وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) (الأحقاف: 5، 6).

    4- اعتقاد البعض أن له حق الأمر والنهي والتشريع المطلق في الحكم: قال -تعالى-: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) (الأعراف: 54)، وقال -تعالى-: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 40)، وقال -تعالى-: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ) (الشورى: 21)، وقال: (أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) (النساء: 60).

    5- اعتقاد بعض الناس أنه يملك نفسه، وأنه حر في قبول الشرع أو رفضه -حرية شخصية كما يقولون- فيقال لهؤلاء: من المالك الحقيقي لأعضائك: السمع والبصر، والعقل، واليد والرجل، والبطن، والفرج... بل والحياة؟! فإن قال: أنا، كان كاذبًا بالمالك -سبحانه-! فكيف له أن يقول للمَلِك المَالِك سبحانه: أنا حر؟! قال -تعالى-: (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) (الرعد: 41)، وقال -تعالى- عن المؤمنين: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إلى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) (النور: 51)، وقال عن اليهود: (وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلً) (النساء: 46).

    صور من الشرك المتداخلة بين الأكبر والأصغر بحسب الاعتقاد:

    1- إتيان الكهان والعرافين وتصديقهم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-) (رواه أحمد وأبو داود ، وصححه الألباني).

    2- تعليق التمائم على البيوت والسيارات ونحوها: (تعليق الكف المقطوعة - الخرزة الزرقاء - فردة النعل - ذيل حيوان أو رأسه - ...): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ الرُّقى، والتَّمائمَ، والتِّوَلةَ شِركٌ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

    3- التشاؤم والتفاؤل بالأيام، والأماكن، والطيور، والأشخاص، وغيرها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الطِّيرةُ شِركٌ) (رواه أبو داود، والترمذي، وصححه الألباني).

    4- الحلف بغير الله (كقول بعضهم: "وغلاوة أمي"، "ورحمة أبويا"، "والعيش والملح"، "وحياة ولادي"، "واللي أنت زرته"، "والكعبة"، "والأيام المفترجة"، ...): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من حلفَ بغيرِ اللهِ فقد كفرَ أو أشركَ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)(1).

    5- الألفاظ والاعتقادات الخاطئة في الأقوال والأفعال (كقول بعضهم: "ربنا افتكره"، "في عرض ربنا"، "لولا الطبيب ما نجا المريض"، "لولا بطولة الجنود لانهزمنا"، "لولا الخطط المحكمة لفشلنا"، "المنحوس منحوس ولو علقوا له فنوس"، وكقول بعض الصيادين عن السمك الكبير: "غلطة"): قال ابن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عنْه- في قوله -تعالى-: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 22)، قال: هو أن تقول: "لولا كَلْبُهُ هَذَا لأَتَانَا اللُّصُوصُ، وَلَوْلا الْبَطُّ فِي الدَّارِ لأَتَى اللُّصُوصُ" (رواه ابن أبى حاتم، وقال ابن حجر أسناده قوي).

    خاتمة:

    - الواجب على المسلم أن يطهِّر توحيده من كلِّ مظاهر الشرك: قال -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) (الأنعام: 82).

    فاللهم يا ولي الاسلام وأهله، مسكنا بالإسلام حتى نلقاك عليه، واقبضنا على التوحيد الخالص.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ

    (1) لقد أمرك الله أن تحسن إلى العباد، وتؤدي إليهم حقوقهم، وتتعامل معهم بكلِّ ما فيه خيرك وخيرهم، وحذَّرك من عبادتهم، فهو حق له وحده، لكن أكثر الناس عكس الحال؛ فأساء إلى عباد الله، وهضم حقوقهم وظلمهم، ثم جاء ليصرف إلى بعضهم حق الله الأعظم، وهو: العبادة! فصرف إليهم صورًا هي التي تسمَّى: الشرك -كما سيأتي في آخر الحديث-.

    (2) إن أخس الحيوانات إذا أنعمتَ عليه بنعمة، يكون طائعًا مواليًا لك؛ فانظر إلى المشرك كم هو أخس من مثل هذا الحيوان؟!

    (3) لقد غفر الله لبغي بعمل صالح؛ لأنها ماتت على التوحيد، ولم يغفر لعم النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الذي سبق بالعمل الصالح للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه كان على الشرك.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر



    الكبائر (3)
    عقوق الوالدين
    (موعظة الأسبوع)









    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    المقدمة:

    - الكبائر هي الذنوب المهلكة التي ضمن الله لمَن اجتنبها في الدنيا الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (*إِنْ *تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

    - عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، حيث قرن الله بينه وبين الشرك: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟) ثَلاثًا، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (الإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ.. .) (متفق عليه).

    مكانة الوالدين:

    - كما أن التوحيد أعظم حق للخالق، كان الإحسان إلى الوالدين أعظم حق للمخلوق: قال الله -تعالى-: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا) (النساء:36)، وقال: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا) (الإسراء:23). وقال الله -تعالى-: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا) (الأحقاف:15).

    - فالأم تتحمل الصعاب والآلام من أول لحظة في وجودك: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) (لقمان: 14)، (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا) (الأحقاف: 15)، وجاء رجل إلى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فقال: "إني أحمل أمي وأطوف بها، أتراني وفيتها حقها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة من زفراتها!".

    - تسهر الليل على راحتك وتفزع لبكائك وتتلوث لتطهرك من النجاسة: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: "إن لي أمًّا بلغ الكبر منها أنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري لها مطية، فهل أديتُ حقها؟ قال: "لا؛ لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاءك، وأنتَ تصنعه وتتمنى فراقها!".

    - وأبوك يسعى في الدنيا لأجلك، فيحرم نفسه ليعطيك، ويضعف بدنه ليقويك، ويفديك من المخاطر بنفسه ليبقيك، ويتألم أشد الألم لما يؤذيك: "كتب أحد الصالحين إلى أبيه: جعلني الله فداك، فكتب إليه الوالد: لا تكتب مثل هذا؛ فأنت على موتي أصبر مني على موتك!".

    - ولذلك مهما عملنا لهم، فلن نوفيهم حقهم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا؛ إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ) (رواه مسلم).

    - ومن المفروض أنه جاء دورك في الوفاء للوالدين؛ فأنت إلى قوة واستطاعة، وهما إلى الكبر والضعف: قال الله -تعالى-: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا) (الإسراء:23)، وقال -تعالى-: (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ) (الرحمن:60).

    - لكن بعض الناس سلك مسلك الجحود والإنكار، ونسيَ أمر الله بالإحسان إليهما، ووقع في العقوق: قال الله -تعالى-: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ.) (الأحقاف:17).

    من مظاهر العقوق(1):

    1- تحزينهما وإتعابهما والتعالي عليهما: "التأفف والعبوس - الاستخفاف بهما - عيب طعام الأم - أمرها بالكنس والتنظيف وترك المعاونة - ترك الاستئذان حال الدخول عليهما - إثارة المشاكل مع إخوته أو زوجته في حضورهما - كل ما سَبَّب لهما الحزن والمشقة"، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا) (رواه مسلم). وقال عروة بن الزبير: "مَا بَرَّ وَالِدَهُ مَنْ شَدَّ الطَّرْفَ إِلَيْهِ" (السِّيَر).

    2- إدخال المنكرات بيتهما بما يجعلهما في محل مسئولية عند الله: قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ *اللهَ *سَائِلٌ *كُلَّ *رَاعٍ *عَمَّا *اسْتَرْعَاهُ، أَحَفِظَ أَمْ ضَيَّعَ، حَتَّى يَسْأَلَ الرَّجُلَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ) (رواه ابن حبان، وصححه الألباني).

    3- وهو مِن أعظمها: التخلي عنهما وقت الحاجة والعجز أو التقتير عليهما "فأين ردُّ الجميل؟!": قال الله -تعالى-: (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ) (الرحمن:60)، وقال -صلى الله عليه وسلم- للرجل الذي شكي والده في أخذ المال منه: (أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني). (مِن صور العقوق حول ذلك؛ تلك الصورة المكرورة لأم تموت في بيتها، ولم يعلم بها أحدٌ من أولادها إلا بعد أيام لما دخلوا البيت؛ وذلك لقلة زيارتهم لها!).

    4- التسبب في شتمها أو لعنها: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟! قَالَ: (نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ) (متفق عليه).

    5- إيثار الزوجة والأولاد عليهما: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: (أُمُّكَ). قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ). قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ). قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أَبُوكَ) (متفق عليه).

    صورة من العقوق حول ذلك: جاء في كتاب: "بر الوالدين آداب وأحكام لخالد الخراز": "أن أمًّا وابنها عاشا حياتهما بكلِّ ظروفها حلوها ومرها، وشب الولد وهو في بيت أمه تنظر إليه بكلِّ شوق وسرور ولهفة، وتتمنى له الخير، وبعد أن بلغ سن الزواج أخذت الأم تبحث له عن زوجة جميلة من أسرة طيبة، ولا تدري المسكينة ما تخفي لها الأقدار، وتزوج الولد وفرحت الأم، وما هي إلا أيام حتى كشرت الزوجة عن أنيابها، وأخذت تحشو ذهن زوجها بضرورة إيداع أمه في دار المسنين بحجة أنها كبيرة مسنة، وحاول الابن جاهدًا أن يثنيها عن رأيها، ولكنها أصرت! وبقلب من حجر، وجماد من لحم، ذهب بها إلى دار رعاية المسنين، وهناك أجلسها على كرسي بجوار العيادة بحجة الكشف عن صحتها، وقال لها العاق: اجلسي هنا على هذا المقعد لتدخلي إلى الطبيب، ثم تركها هاربًا إلى زوجته الفاضلة!

    ومضت الساعات والأم جالسة في انتظاره، ولكنها عبثًا تجلس، ومفقودًا تنتظر، فلقد ذهب الولد العاق دون رجعة، وبلا عودة حتى أنكر الموظف جلوسها ليقول لها: لماذا تجلسين هنا يا عمة؟ فأجابت: ابني سوف يأتي الآن ليأخذني بقلب مشبع بالأمل! قال لها الموظف: ادخلي يا أماه فقد أسدل الليل ستاره، ولأمر ما عاشت الأم في تلك الدار سنتين! وغدت كل يوم تنزل من مخدعها، وتجلس على نفس المقعد الذي تركها ولدها فيه، وتقول: سوف يأتي ولدي الآن أنا في انتظاره! أنا في انتظاره!".

    عاقبة العقوق:

    1- يستجلب غضب الرب -سبحانه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

    2- يستجيب الله دعاءهما ولو كان الولد طائعًا: "ذكر الشاهد من قصة جريج العابد وأمه"؛ فكيف لو كان الولد عاصيًا؟!

    3- سبب في حبوط الأعمال أو ردها على صاحبها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلاثَةٌ لا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُمْ صَرْفًا وَلا عَدْلا: عَاقٌّ، وَمَنَّانٌ، وَمُكَذِّبٌ بِالْقَدَرِ) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني).

    4- يمحق بركة الرزق والعمر: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ؛ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) (رواه البخاري ومسلم).

    5- سبب في الحرمان من الجنة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ، ولا عَاقٌّ وَالِدَيْهِ، وَلا مُدْمِنُ خَمْرٍ) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني).

    6- عقوبة معجلة في الدنيا قبل الآخرة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (بابانِ مَعَجَّلانِ عُقُوبَتُهُما فِي الدُّنْيا: البَغْيُ والعُقُوقُ)(رواه الحاكم، وصححه الألباني).

    الجزاء من جنس العمل (كما تدين تدان):

    "هذه أم تجلس مع أطفالها كل يوم وهم يدرسون، وكان والد زوجها شيخًا مسنًّا كبيرًا، يعيش معهم في البيت، ولكن في غرفة منعزلة في حديقة البيت، كل يوم تذهب إليه تضع له الطعام ثم تعود إلى أولادها تلعب معهم وتقوم على تربيتهم، وفي يوم من الأيام رأت أحد أولادها الصغار يلعب في ورقة وقلم يرسم مربعات في وسط الورقة، فسألت الأم: يا بني ماذا ترسم؟ فأجاب: أرسم بيت المستقبل! فرحت الأم لجوابه، ثم قالت: ولماذا هذا المربع بعيد عن البيت؟ فقال: هذه غرفتك في المستقبل، فقالت له متعجبة: ستجعلني في غرفة وحدي؟ فقال: نعم، كما أنت تجعلين جدي في غرفة منعزلة وحده!

    فكانت هذه الكلمات البريئة كالصاعقة لهذه الأم، فتأثرت لموعظة الطفل الصغير، وذهبت وغيرت أثاث البيت، وجاءت بالجد إلى داخل السكن في أفضل غرفة في البيت، وعندما عاد زوجها تعجب أن الجد داخل البيت، فقال لها: ماذا حدث؟ فقالت له ما قاله الطفل؛ فتأثر تأثرًا شديدًا، وشكرها على ذلك" (بر الوالدين آداب وأحكام لخالد الخراز).

    خاتمة: علاج العقوق:

    التزام البر مع الوالدين، واستحضار فضلهما على الدوام، والتيقُّن مِن أنهما سبب عظيم بعد التوحيد في نيل الجنة، والنجاة من النار: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ) قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ) (رواه مسلم).


    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــ

    (1) قال ابن حجر العسقلاني -رحمه الله-: "والعقوق مشتق من العقِّ، وهو: القطع، والمراد به: صدور ما يتأذَّى به الوالد مِن ولده، مِن: قول، أو فعل؛ إلا في شرك أو معصية، ما لم يتعنت الوالد" (فتح الباري).



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (4)
    ترك الصلاة
    (موعظة الأسبوع)









    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    المقدمة:

    - الكبائر هي الذنوب المهلكة التي ضمن الله لمَن اجتنبها في الدنيا الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (*إِنْ *تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

    - ترك الصلاة من أكبر الكبائر، وأعظم الجرائر؛ فهي فارقة بين الايمان والكفر: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (العَهْدُ *الَّذِي *بَيْنَنَا *وَبَيْنَهُمُ *الصَّلَاةُ، *فَمَنْ *تَرَكَهَا *فَقَدْ *كَفَرَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ *تَرْكُ *الصَّلَاةِ) (رواه مسلم)، وقال عمر -رضي الله عنه-: "لا حظ في الإسلام لمَن ترك الصلاة".

    1- أهمية الصلاة في الاسلام:

    - الصلاة هي الشعيرة والمَعْلَم الأعظم في بناء الدِّين، وبغيرها يسقط وينهدم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ) (متفق عليه).

    - الصلاة هي العبادة الوحيدة التي شُرِعَت في السماء يوم الإسراء: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: افْتَرَضْتُ عَلَى أُمَّتِكَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، وَعَهِدْتُ عِنْدِي عَهْدًا أَنَّهُ مَنْ حَافَظَ عَلَيْهِنَّ لِوَقْتِهِنَّ أَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهِنَّ فَلا عَهْدَ لَهُ عِنْدِي) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

    - الصلاة فيها الطهارة والقداسة للمؤمن، حيث يكفر بها السيئات ويرفع بها الدرجات، وتضاعف بها الحسنات: قال -تعالى-: (*وَأَقِمِ *الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) (هود:114)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟)، قَالُوا: لا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ: (فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا) (رواه مسلم).

    - الصلاة تحفظ المصلي مِن الوقوع في الفواحش والكبائر: قال -تعالى-: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ *تَنْهَى *عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت: 45)

    - الصلاة فيها النفحات والرحمات، والبركات والهبات التي تصل إلى العبد من ربِّ الأرض والسماوات، وهي قرة العيون، ومفزع المحزون للتخلص من الغموم والهموم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّمَا *يُنَاجِي *رَبَّهُ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*وَجُعِلَتْ *قُرَّةُ *عَيْنِي *فِي *الصَّلَاةِ) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني)، وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا حزبه أمر يقول: (يَا *بِلَالُ أَقِمِ الصَّلَاةَ *أَرِحْنَا بِهَا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

    - الصلاة هي العبادة الوحيدة التي لا عُذْر في تركها، حيث تؤدَّى على كل حال: (في المرض والصحة - في السلم والحرب - في السفر والحضر): قال -تعالى-: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا *مَوْقُوتًا) (النساء: 103)، وقال -تعالى-: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ *فَلْتَقُمْ *طَائِفَةٌ *مِنْهُمْ *مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) (النساء: 102)، وقال -تعالى-: (وَإِذَا *ضَرَبْتُمْ *فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ) (النساء: 101)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- للمريض: (صَلِّ *قَائِمًا، *فَإِنْ *لَمْ *تَسْتَطِعْ *فَقَاعِدًا، *فَإِنْ *لَمْ *تَسْتَطِعْ *فَعَلَى *جَنْبٍ) (رواه البخاري)، (قصة انشغال عمر بالصلاة يوم طعن على الرغم من شدة إصابته).

    وعن أبي أُمَامة -رضي الله عنه- قال: "أَقْبَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ أَعْمَى، وَهُوَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ: (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى) (عبس: 2)، وَكَانَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَنَا كَمَا تَرَانِي قَدْ كَبِرَتْ سِنِّي، وَرَقَّ عَظْمِي، وَذَهَبَ بَصَرِي، وَلِي قَائِدٌ لَا يُلَاوِمُنِي قِيَادَةَ إِيَّايَ، فَهَلْ تَجِدُ لِي مِنْ رُخْصَةٍ أُصَلِّي فِي بَيْتِي الصَّلَوَاتِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هَلْ تَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَا أَجِدُ لَكَ مِنْ رُخْصَةٍ، وَلَوْ يَعْلَمُ هَذَا الْمُتَخَلِّفُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ مَا لِهَذَا الْمَاشِي إِلَيْهَا لَأَتَاهَا، *وَلَوْ *حَبْوًا *عَلَى *يَدَيْهِ *وَرِجْلَيْهِ" (أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، وضعفه الألباني)، فماذا يُقَال لتارك الصلاة بالكلية؟!

    2- عاقبة ترك الصلاة في الدنيا والآخرة:

    - خطر تفشي ظاهرة ترك الصلاة - بصورة كلية أو جزئية- في أهل هذا الزمان: قال -تعالى- بعد ثنائه على الأنبياء والصالحين: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) (مريم: 59)، وقال الزهري: "دخلت على أنس بن مالك في دمشق وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئًا مما أدركتُ على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيِّعَت!" (رواه البخاري).

    - تارك الصلاة تكاسلًا مختلف في نسبته إلى الإسلام!(1): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (العَهْدُ *الَّذِي *بَيْنَنَا *وَبَيْنَهُمُ *الصَّلَاةُ، *فَمَنْ *تَرَكَهَا *فَقَدْ *كَفَرَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ *تَرْكُ *الصَّلَاةِ) (رواه مسلم)، وقال عمر -رضي الله عنه-: "لا حظ في الإسلام لمَن ترك الصلاة".

    - تارك الصلاة عند الجميع، لا تقبل له شهادة، ولا يؤتمن على عرض، ولا مال، ولا شيء؛ لأنه شر من الزاني والسارق، والقاتل، وشارب الخمر، وقاذف العرض!: قال الله -تعالى- في القاذف: (*وَلَا *تَقْبَلُوا *لَهُمْ *شَهَادَةً *أَبَدًا) (النور: 4)، قال ابن الجوزي: "وتارك الصلاة لا تجوز له شهادة، ولا يحل لمسلم أن يؤاكله، ولا يدخل معه تحت سقف" (بحر الدموع).

    - تارك الصلاة يحشر يوم القيامة مع أفجر الناس: عن عبد الله بن عمرو أن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ذَكرَ الصَّلاةَ يومًا، فقالَ: (*مَنْ *حَافَظَ *عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمن لم يحافظ عَلَيْهَا لم يكن لَهُ نور وَلَا برهَان وَلَا نجاة، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ) (رواه أحمد، وصححه العلامة أحمد شاكر في تحقيقه للمسند).

    - تارك الصلاة لا تنفعه أعماله الأخرى مهما كثرت: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلاتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

    - تارك الصلاة مفضوح بجرمه، مخذول بفعله يوم القيامة: قال -تعالى-: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إلى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ . خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إلى السجود وَهُمْ سَالِمُونَ) (القلم: 42- 43).

    وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (يَكشِفُ رَبّنا عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا) (رواه البخاري).

    - تارك الصلاة مصيره العذاب الأليم في أودية النار والجحيم: قال -تعالى-: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (مريم:59)، وقال: (*فَوَيْلٌ *لِلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) (الماعون: 4-5)؛ فكيف بالتاركين؟!

    خاتمة: واجب المجتمع الإسلامي تجاه تاركي الصلاة:

    - وجوب تفعيل أحكام الاسلام وتقنينها في التعامل مع تاركي الصلاة: (عقوبات التعزير من الحبس والضرب والتغريم المالي، وغيرها مما جاءت به الشريعة)، فالصلاة أساس بناء المجتمع الإسلامي وقوام قوته: "هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ونزوله بقباء والبدء بالمسجد - دخوله المدينة وشروعه في بناء المسجد فورًا".

    - إقامة الصلاة هي أحد صفات جيل النصر المنشود: قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ) (الحج:41).

    - أعداء الإسلام يعلمون أن قوة المسلمين تكمن في تمسكهم بدينهم، ومِن أعظم ذلك: "الصلاة"؛ قال شاب فلسطيني لوزير الدفاع اليهودي "موشي ديان": "سنتنصر عليكم يومًا. فقال: نعم، ولكن ذلك عندما يكون عدد المصلين في صلاة الفجر مثل عددهم في صلاة الجمعة!".

    - واجب على الوالدين أن يكون أمر الصلاة هو أعظم ما يؤمر به الأبناء: قال الله -تعالى-: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ) (طه:132)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مُرُوا أَوْلادَكُمْ بِالصَّلاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا، وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني) (ولكن للأسف كثير من الآباء لا يسأل ابنه: هل صلى أم لا؟! وجل اهتمام الأبوين هو المستقبل الدراسي، والمأكل والملبس؛ ولذا لا تعجب عندما تري أن أكثر تاركي الصلاة من الشباب، وكثيرًا من شباب الجامعات هم مَن يتبنَّى الإلحاد، والفساد الخلقي بكلِّ ألوانه!).


    ربنا اجعلنا من المقيمي الصلاة، ومن ذرياتنا ربنا وتقبَّل دعاء.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــ

    (1) وبعيدًا عن اختلاف العلماء في نوع هذا الكفر في حقِّ تارك الصلاة تكاسلًا -مع اعتقاده وجوبها-؛ فإننا نَهمِسُ في أُذُنِ تارك الصلاة: هل يُرضيك أنْ يكون انتسابُك إلى الإسلام مسألةً هي مَحَلُّ خِلافً بين العلماء: ففريق يقول: (هو كافر مشرك، ولا يجوز له أن يتزوَّج مسلمة، ولا يصلح وليًّا شرعيًّا لأولاده، ولا يرثهم ولا يرثونه، ولا يُغَسَّل ولا يُصلَّى عليه، ولا يُدفَن في مقابر المسلمين). وفريق آخر يقول: (بل هو فاسقٌ عاصٍ فاجر، يجب قتله حدًّا إنْ أصر على ترك الصلاة).



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (5)
    القتل
    (موعظة الأسبوع)






    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    المقدمة:

    - الكبائر هي الذنوب المهلكة التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ *مُدْخَلًا *كَرِيمًا) (النساء: 31).

    - قتل النفس التي حَرَّم الله من أكبر الكبائر، وأعظم الجرائم: قال -صلى الله عليه وسلم-: (الكَبَائِرُ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَاليَمِينُ الغَمُوسُ) (رواه البخاري).

    - الحياة حق لكلِّ إنسان، ولا يحل الاعتداء على هذا الحق إلا بمقتضى الشرع(1): قال الله -تعالى-: (*وَلَا *تَقْتُلُوا *النَّفْسَ *الَّتِي *حَرَّمَ *اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (الأنعام: 151)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَأْتِي الْمَقْتُولُ مُتَعلٍّقًا رَأْسُهُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ، مُتَلَبِّبًا قَاتِلَه بِيَدِهِ الأُخْرَى، تَشْجُبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ الْعَرْشَ، فَيَقُولُ الْمَقْتُولُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ: هَذَا قَتَلَنِي، فَيَقُولُ اللهُ لِلْقَاتِلِ: تَعِسْتَ، وَيُذْهَبُ بِهِ إلى النَّارِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

    (1) تعظيم الشرع لحرمة الدماء:

    - كل الشرائع عظَّمت من حرمة الدماء، فبعد ذكر قصة قتل أحد ابني آدم لأخيه، قال -تعالى-: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُون) (المائدة: 32).

    - ولعظم حرمة الدماء، كانت هي أول ما يقضى فيه بين الناس: قال -صلى الله عليه وسلم-: (أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، في الدِّمَاءِ) (متفق عليه).

    - ولأجل ذلك جعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعظِّم ذلك في نفوس المسلمين: قال -صلى الله عليه وسلم-: (لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا) (رواه البخاري)، وقال: (لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) (متفق عليه).

    (2) أنواع الدماء التي حرَّم الله (الدماء المعصومة):

    أولًا: دماء المسلمين:

    - دماء المسلمين أعظم الدماء ولو استهان بها الكفار والفجار في كل زمان: قال -صلى الله عليه وسلم-: (الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ) (رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: (إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَزَوَالُ *الدُّنْيَا *أَهْوَنُ *عَلَى *اللَّهِ *مِنْ *قَتْلِ *مُؤْمِنٍ *بِغَيْرِ *حَقٍّ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وعن نافع قال: "وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إلى البَيْتِ أَوْ إلى الكَعْبَةِ، فَقَالَ: "مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ" (رواه الترمذي، وقال الألباني: "حسن صحيح").

    - لذا توعَّد الله مَن يقتل مسلمًا بأشد العذاب: قال الله -تعالى-: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (النساء: 93)(2).

    ثانيًا: دماء المعاهدين:

    - وهي تشمل غير المسلمين من أصحاب العهد المطلق -الجائز- غير محدد المدة، والعهد المؤبَّد -الذي هو الذمة-، وعهد الأمان، أو الهدنة: قال الله -تعالى-: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) (الإسراء: 34).

    - الوعيد الشديد لمَن قتل المعاهدين؛ لوجوب الوفاء بالعهد، ولما يسببه ذلك من فتنة وفوضى، وتشويه لصورة المسلمين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا) (رواه البخاري). وقال ابن القيم -رحمه الله-: "هذه عقوبة قاتل عدو الله إذا كان في عهده وأمانه؛ فكيف عقوبة قاتل عبده المؤمن؟!" (الجواب الكافي).

    (3) الأسباب المؤدية إلى الاستهانة بحرمة الدماء(3):

    أولًا: الجهل:

    - الجهل يهوِّن في نفوس الناس حرمة الدماء، ولذلك هو قرين جرائم القتل في كلِّ زمان: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَأَيَّامًا يَنْزِلُ فِيهَا الجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا العِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الهَرْجُ) (متفق عليه). (وَالهَرْجُ): القتل.

    ثانيًا: الغلو:

    - أصحاب الغلو والكبر مِن العامة يقابلون الإساءة إليهم بالقتل ونحوه: قال الله -تعالى-: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة: 194).

    - أصحاب الغلو مِن المتدينين الجهلة يستهينون بالدماء بزعم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قال أولهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- في قسمة يقسمها: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، اعْدِلْ!" (متفق عليه)، ولما كان يوم صفين قال أصحابُه وعقبُه تكفيرًا للصحابة: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)(4) (الأنعام: 57).

    ثالثًا: انتشار العنف والجريمة في وسائل الإعلام:

    - تصوير القتل والتخريب والجريمة على أن ذلك بطولة أو حرية: قال الله -تعالى-: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) (النساء: 27). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَا *يُشِيرُ *أَحَدُكُمْ *عَلَى *أَخِيهِ *بِالسِّلَاحِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي، لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ، فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) (متفق عليه).

    رابعًا: شيوع الظلم والفساد المادي والأخلاقي:

    - فلا بد أن يتولَّد من ذلك الجرائم التي تؤدي إلى القتل بين الناس: (السرقة - الزنا - الغصب - ... )، (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران: 110).

    خامسًا: عدم العقوبة الرادعة:

    - كثير من القَتَلَة يفلتون من العقوبة بالثغرات القانونية؛ فضلًا عن كون كثيرٍ من القوانين مخالفة لأحكام الشريعة(5): قال الله -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة: 50)، وقال: (? *وَلَكُمْ *فِي *الْقِصَاصِ *حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 179)، وقال: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (المائدة: 45)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْعَمْدُ قَوَدٌ) (رواه الطبراني في المعجم الكبير، وصححه الألباني).

    * خاتمة: عود على بدء:

    - التذكير بأن قتل النفس التي حَرَّم الله من أكبر الكبائر، وأعظم الجرائم: قال -صلى الله عليه وسلم-: (الكَبَائِرُ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَاليَمِينُ الغَمُوسُ) (رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا) (رواه البخاري).

    - التذكير بفضل اجتناب الكبائر: قال -تعالى-: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ *مُدْخَلًا *كَرِيمًا) (النساء: 31).

    فاللهم احقن دماء المسلمين في كلِّ مكان، واحفظ أعراضهم، وآمن روعاتهم.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــ

    (1) لا يمر يوم من أيام الله، إلا والآلاف من البشر يُقتَلون هنا وهناك، وبأيدي بعضهم البعض ما بين حروب وصراعات!

    (2) ذهب ابن عباس -رضي الله عنهما- إلى أن القاتل قتل العمد للمؤمن لا توبة له، قال: "لا تَوبَةَ لقاتلِ المُؤْمِن عمْدًا" (رواه البخاري)، وإن كان الصحيح خلافه كما هو مذهب الجمهور. وقد قال ابن عباس بذلك؛ للآية، ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: (كلُّ ذنبٍ عسَى اللهُ أنْ يَغفِرَهُ، إلَّا مَن مات مُشْرِكًا، أوْ مُؤْمِنٌ قَتَل مؤمِنًا مُتعمِّدًا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).


    (3) الإشارة إلى أن هذه أبرز الأسباب؛ وإلا فهي أكثر مِن ذلك، ثم الإشارة إلى أن التناول سيكون بإجمال؛ وإلا فالأمر يحتاج إلى حديث منفرد، والله المستعان.

    (4) وصدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما قال فيهم: (يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ!) (متفق عليه)؛ وإلا فانظر كم قتل غلاة التكفير "الرافضة والخوارج" إلى يومنا هذا من المسلمين، وكم قتلوا من الكفار المشركين؟! بل انظر إلى اتفاقهم على قتل المسلمين من أهل السنة في العراق، وسوريا، وغيرهما.

    (5) كثير من هؤلاء يزدادون جُرْمًا وفسادًا بعد عقوبة السجن مع القتلة والمجرمين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (6)
    السحر
    (موعظة الأسبوع)


    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    المقدمة:

    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

    - السحر من أكبر الكبائر، وأشنع الجرائم؛ لما له مِن أثر عظيم في إفساد حياة الناس(1): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ وما هُنَّ؟ قالَ: الشِّرْكُ باللَّهِ، والسِّحْرُ...) (متفق عليه).

    السحر وأنواعه:

    - السحر تعاون فاجر بين الساحر والشياطين على فعل المحرمات والشركيات؛ للإضرار بالمسحور: قال ابن قدامة -رحمه الله: "وهو عُقَدٌ ورُقًى، وكلامٌ يتكَلَّمُ به -الساحر- أو يكتُبُه أو يَعمَلُ شَيئًا يؤثِّرُ في بَدَنِ المسحورِ أو عَقْلِه أو قَلْبِه، من غيرِ مُباشَرةٍ؛ وله حقيقةٌ، فمِنه ما يَقتُلُ، ومنه ما يُمرِضُ، ومنه ما يأخُذُ الرَّجُلَ عن امرأتِه، ومنه ما يُفَرِّقُ بين المرءِ وزَوجتِه، ومنه ما يُبَغِّضُ أحَدَهما إلى الآخَرِ، ويحَبِّبُ بين اثنينِ" (المغني لأبن قدامة).

    - السحر على نوعين في الجملة:

    - الأول: سحر التخييل، وهو: الذي يؤثِّر على الأبصار ويأخذ العيون: قال -تعالى- عن سحرة فرعون: (قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوه ُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) (الأعراف: 105)، وقال -تعالى- عن نبيه موسى -عليه السلام-: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى?) (طه: 66).

    - الثاني: سحر العقد والنفث والتعاويذ، وهو: الذي يؤثر على الأبدان والعقول والقلوب(2): قال -تعالى-: (وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) (الفلق: 4)، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "سَحَرَ رَسولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ مِن بَنِي زُرَيْقٍ، يُقَالُ له: لَبِيدُ بنُ الأعْصَمِ، حتَّى كانَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُخَيَّلُ إلَيْهِ أنَّه كانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وما فَعَلَهُ(3)، حتَّى إذَا كانَ ذَاتَ يَومٍ -أوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ- وهو عِندِي، لَكِنَّهُ دَعَا ودَعَا، ثُمَّ قَالَ: (يَا عَائِشَةُ، أشَعَرْتِ أنَّ اللَّهَ أفْتَانِي فِيما اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟ أتَانِي رَجُلَانِ، فَقَعَدَ أحَدُهُما عِنْدَ رَأْسِي، والآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أحَدُهُما لِصَاحِبِهِ: ما وجَعُ الرَّجُلِ؟ فَقَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: مَن طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بنُ الأعْصَمِ، قَالَ: في أيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: في مُشْطٍ ومُشَاطَةٍ، وجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ، قَالَ: وأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: في بئْرِ ذَرْوَانَ)، فأتَاهَا رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- في نَاسٍ مِن أصْحَابِهِ، فَجَاءَ فَقَالَ: (يا عَائِشَةُ، كَأنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، أوْ كَأنَّ رُؤُوسَ نَخْلِهَا رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ)، قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أفلا اسْتَخْرَجْتَهُ ؟ قَالَ: (قدْ عَافَانِي اللَّهُ، فَكَرِهْتُ أنْ أُثَوِّرَ علَى النَّاسِ فيه شَرًّا، فأمَرَ بهَا فَدُفِنَتْ) (متفق عليه).

    حكم السحر والسحرة:

    السحر كفر بالله، والساحر كافر(4)؛ لأنه يوهم الناس أنه قادر على النفع والضر، فهو منازع لله في ربوبيته: قال -تعالى-: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى? مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَ?كِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى? يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ) (البقرة: 102)، وقال -تعالى- عن مصير الساحر: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) (البقرة: 102).

    - والساحر مستحق للقتل عند عامة أهل العلم؛ لا سيما إذا كان يتقرب إلى الشياطين(5): فعن بجالة بن عبدة قال: "فأتانا كتابُ عمرَ -رضيَ اللهُ عنهُ- قبلَ موتِه بِسَنةٍ: اقتلوا كلَّ ساحرٍ وساحرةٍ، فقتلنا ثلاثةَ سواحرَ" (رواه أبو داود، وأحمد، والبخاري باختلافٍ يسيرٍ).

    - فليحذر المسلم من إتيان السحرة لإيذاء الناس، أو ليطلب منهم قضاء الحاجات، فهو ظلمات بعضها فوق بعض: قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) (الأحزاب: 58)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَن أتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عن شيءٍ، لَمْ تُقْبَلْ له صَلاةٌ أرْبَعِينَ لَيْلَةً) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ سَاحِرًا أَوْ كَاهِنًا فَسَألَهُ فَصَدَّقَهُ بِماَ يَقُولُ؛ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ) (رواه أبو داود، وقال الألباني: "صحيح موقوف").

    كيفية الوقاية من شر السحر والسحرة؟

    1- حسن التوكل على الله: قال -تعالى-: (وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) (البقرة: 102)، وقال -تعالى-: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة: 51)، وقال -تعالى-: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) (يونس: 107).

    2- التوبة من المعاصي والكبائر: قال -تعالى-: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (الشورى: 30)، وقال العباس -رضيَ اللهُ عنهُ- في دعائه في الاستسقاء: "ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة" (رواه الترمذي، وأحمد، وابن عساكر في تاريخ دمشق، وهو ضعيف الإسناد).

    3- المحافظة على قراءة أذكار الصباح والمساء، فهي حصن من الشياطين: ففي حديث يحيى بن زكريا: (وآمُركم أن تَذكُروا اللهَ؛ فإنَّ مَثلَ ذلك كمَثلِ رجلٍ خرَج العدوُّ في أثَرِه سِراعًا حتَّى إذا أتى على حِصنٍ حَصينٍ، فأحرَز نفسَه منهم، كذلك العبدُ لا يُحرِزُ نفسَه مِن الشَّيطانِ إلَّا بذِكْرِ اللهِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

    4- الإكثار من قراءة سورة البقرة في البيوت: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقابِرَ، إنَّ الشَّيْطانَ يَنْفِرُ مِنَ البَيْتِ الذي تُقْرَأُ فيه سُورَةُ البَقَرَةِ) (رواه مسلم).

    5- أكل سبع تمرات صباحًا قبل أن يأكل أو يشرب شيئًا: قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَن تَصَبَّحَ كُلَّ يَومٍ سَبْعَ تَمَراتٍ عَجْوَةً، لَمْ يَضُرَّهُ في ذلكَ اليَومِ سُمٌّ ولا سِحْرٌ) (متفق عليه).

    خاتمة:

    - التحذير من المعالجين والراقين الجهلة؛ فضلًا عن الدجالين والمشعوذين الذين يعالجون بالسحر: عن جابرِ بنِ عبداللَّه -رضيَ اللهُ عنهُ- قالَ: سُئِلَ رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عنِ النُّشرةِ(6)، فقالَ: (هوَ من عَملِ الشَّيطانِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

    فاللهم احفظ المسلمين من شرِّ السحر والسحرة، وجنِّبهم إتيان السحر والسحرة إنك أنت العزيز الحكيم.

    والحمد لله رب العالمين.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــ

    (1) فكم من أرحام تقطعت وتفككت بأثر سحر وعمل ساحر، وكم من محبة حميمة انقلبت إلى عداوة وضغينة بأثر سحر وعمل ساحر، وكم من نفوس أُمرضت وعانت من المرض زمانًا طويلًا بأثر سحر وعمل ساحر، وكم من عروس أُخِذ عن عروسه ليلة زفافه وذهبت فرحته بأثر سحر وعمل ساحر، بل كم مِن نفوس أزهقت ودماء سالت بأثر سحر وعمل ساحر، وكم وكم وكم! وإنا لله وإنا إليه راجعون.

    (2) ومنه: التفريق بين الأزواج، ومنع الرجل من وطء زوجته، والإصابة بالجنون والأمراض، بل ويصل إلى القتل وإزهاق النفوس!

    (3) قال النووي في شرح مسلم: "وقد قيل إنه كان يتخيل إليه أنه وطئ زوجاته وليس بواطئ. وقال القاضي عياض: وقد جاءت روايات هذا الحديث مبينة أن السحر إنما تسلَّط على جسده وظواهر جوارحه، لا على عقله وقلبه واعتقاده -صلى الله عليه وسلم-".

    (4) ولا يحسن التفصيل في خلاف العلماء هنا، فالمقام مقام وعظ وترهيب.

    (5) ومن صور تقرِّبهم إلى الشياطين، مثل: (تلويث المصحف بالنجاسات، أو إلقاؤه في المزابل وأماكن قضاء الحاجة - أو جعل المصحف كالنعل في قدميه - وكبقائهم على الجنابة دائمًا - والإكثار من الزنا والفواحش - إلخ)؛كل ذلك تقربًا إلى الشياطين! نعوذ بالله من الكفر والضلال.


    (6) النشرة: من الرقية والعلاج، يعالج به من كان يُظن أن به مسًّا من الجن أو به سحر ونحوه، فإذا كانت بالآيات القرآنية والأسماء والصفات الربانية، والدعوات النبوية المأثورة، فلا بأس بذلك؛ وأما إذا كانت مشتملة على أسماء الشياطين، أو بكلام غير مفهوم فلا يجوز ذلك، وهي مقصود النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (هوَ من عَملِ الشَّيطانِ).



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر



    الكبائر (7)
    السرقة
    (موعظة الأسبوع)









    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    المقدمة:

    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة الموبقة، التي ضَمِن الله -تعالى- لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

    - السرقة من أكبر الكبائر، وأقبح الجرائم؛ لأنه قد جاء فيها اللعن والحد والوعيد: قال -تعالى-: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (المائدة: 38)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ، يَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ) (متفق عليه).

    تعظيم الإسلام لحرمة الأموال:

    - عَظَّم الإسلامُ مِن حق التملك للمال، وأن للإنسان أن يعيش آمنًا على ماله في المجتمع، وجعل حفظه من ضروريات الحياة، وجعل الاعتداء عليه بغير حق من المخالفة المقتضية للعقوبة في الدنيا والآخرة: قال -تعالى-: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) (البقرة: 188)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ) (متفق عليه).

    - وسدَّ الإسلام ذرائع الاعتداء على أموال الناس، فحذر مِن اليسير الذي يجر إلى الكبير: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ امْرِئٍ بغيرِ إِذْنِهِ؛ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ، فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ، فيُنْتَقَلَ طَعَامُهُ؟! فإنَّما تَخْزُنُ لهمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَاتِهِمْ ، فلا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلَّا بإذْنِهِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يَحِلُّ لامْرِئ أَنْ يَأْخُذَ عَصَا أَخِيهِ بَغَيْرِ طِيبِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ لِشِدَّةِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَالَ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

    تحريم السرقة وبيان قبحها:

    - والسرقة أشد أنواع الاعتداء على الأموال بغير حق(1): فالسارق يلتمس غفلات الناس، فيكسر الحواجز، ويتجاوز السدود المنيعة، ويسوق الأموال ظلمًا وعدوانًا، ويدخِل على أصحابها الحزن والغم والهم، وربما الموت والأمراض، ويدخل بينهم الشكوك والتخوين وغيره، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: "السَّارِقُ عِنْدَ الْعَرَبِ هُوَ مَنْ جَاءَ مُسْتَتِرًا إِلَى حِرْزٍ فَأَخَذَ مِنْهُ مَا لَيْسَ لَهُ" (تفسير القرطبي)، وجاء في القاموس: "السرقة: المجيء مستترًا، لأخذ مال الغير مِن حرز"(2).

    - ولذا كان العهد بعدم السرقة من أعظم شروط النبي -صلى الله عليه وسلم- على أتباعه: ففي يوم العقبة في أحلك الظروف، قال للأنصار: (بَايِعُونِي علَى أنْ لا تُشْرِكُوا باللَّهِ شيئًا، ولَا تَسْرِقُوا، ولَا تَزْنُوا، ولَا تَقْتُلُوا أوْلَادَكُمْ، ولَا تَأْتُوا ببُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بيْنَ أيْدِيكُمْ وأَرْجُلِكُمْ...) (متفق عليه).

    عقوبة السارق في الدنيا والآخرة:

    أولًا: في الدنيا:

    - يوشك أن تذهب السرقة بدين السارق وإيمانه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهو مُؤْمِنٌ) (متفق عليه).

    - السارق عنصر فاسد في المجتمع إذا تُرِك استشرى فساده في جسم المجتمع، فلا بد من حسمه وعلاجه بالعقوبة: قال -تعالى-: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (المائدة: 38)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا *فِي *رُبُعِ *دِينَارٍ فَصَاعِدًا) (متفق عليه)(3).

    - لا ينبغي لأحدٍ أن يمنعَ العقوبةَ عن السارق؛ فهو حق لله وللمجتمع كله فلا تساهل فيه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأسامة بن زيد -رضي الله عنهما-: (أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ؟ وايْمُ اللَّهِ لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا) (رواه البخاري).

    ثانيًا: في الآخرة:

    - السارق إن لم يتب في الدنيا بشروط التوبة في حقه(4)، فالفضيحة على الأشهاد، ثم العذاب في النار ينتظره في الآخرة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ له رُغَاءٌ يقولُ: يا رَسولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فأقُولُ: لا أَمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ له حَمْحَمَةٌ، فيَقولُ: يا رَسولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فأقُولُ: لا أَمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ يقولُ: يا رَسولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فأقُولُ: لا أَمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ، فيَقولُ: يا رَسولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فأقُولُ: لا أَمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فيَقولُ: يا رَسولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فأقُولُ: لا أَمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ، فيَقولُ: يا رَسولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فأقُولُ: لا أَمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أَبْلَغْتُكَ) (متفق عليه).

    وفي حديث الكسوف قال -صلى الله عليه وسلم-: (وعُرِضَتْ عليَّ النارُ، فجعلْتُ أنْفُخُ خشيَةَ أنْ يَغشاكُمْ حَرُّها، ورأيتُ فيها سارِقَ بدَنةِ رسولِ اللهِ، ورأيتُ فيها أخَا بَنِي دَعدَعٍ سارِقَ الحَجِيجِ، فإذا فُطِنَ لهُ قال: هذا عملُ الْمِحْجَنِ) (متفق عليه).

    - السارق قبل أن يساق إلى النار، تأخذ منه أموال الناس التي سرقها في الدنيا، ولكن بالحسنات والسيئات: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟) قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: (إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ) (رواه مسلم).

    من أسباب انتشار السرقة:

    1- الجهل بعظم الجريمة وعظم أثرها في المجتمع(5): قال -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كانَ عليه وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَن عَمِلَ بهَا مِن بَعْدِهِ، مِن غيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِن أَوْزَارِهِمْ شَيءٌ) (رواه مسلم).

    2- عدم تطبيق العقوبة الشرعية الرادعة الحافظة: قال -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة: 50)، وقال عثمانَ بنِ عفانَ -رَضِيَ اللَّهُ عنْه-: "إنَّ اللهَ يزَعُ بالسلطانِ ما لا يزَعُ بالقرآنِ" (مجموع فتاوى ابن تيمية).

    3- غياب التربية الإسلامية في البيوت(6): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم- للحسن بن علي -رَضِيَ اللَّهُ عنْهما- لما أخذ تمرة من تمر الصدقة: (كِخْ كِخْ)، لِيَطْرَحَهَا، ثُمَّ قالَ: (أَمَا شَعَرْتَ أنَّا لا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ) (متفق عليه).

    4- انتشار العنف والجريمة في وسائل الإعلام(7): قال -تعالى-: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) (النساء: 27).

    5- انتشار الفقر والبطالة، مع ضعف الدِّين، وقلة التكافل: قال -تعالى-: (وَلَنَبْلُوَنَّ كُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 155)، وقال -تعالى-: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَ?كِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام: 43)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ) (رواه مسلم).

    خاتمة: نصيحة إلى السارق:

    - أيها السارق... كف عدوانك، ولا تطع شيطانك؛ فحرمة أخيك المسلم كحرمة نفسك، وحرمة ماله كحرمة مالك، وحرمه داره وأهله كحرمة أهلك ودارك.

    - تذكر يوم لا ينفع مال ولا بنون: قال -تعالى-: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (آل عمران: 30).

    فاللهم اهدِ عصاة المسلمين، واحفظ أموال المسلمين ودمائهم وأعراضهم، ووسِّع لهم في أرزاقهم، وأغنهم بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــ

    (1) هناك أنواع كثيرة من الاعتداء على أموال الغير بغير حق، مثل: الغش والاحتيال في البيع وغيره، والرشوة، والغصب والنهب، والغلول، ولكن أقبح ذلك كله السرقة.

    (2) السارق خائن ظلوم، دني جريء، غشوم، هَجُوم على مال غيره بفجور ونذالة، يعيش على آلام الناس وحزنهم.

    (3) الدينار يساوي 4 جرامات وربع من الذهب الخالص عيار 24، وتقطع اليد اليمنى من مفصل الكف، فإن عاد بعدها قطعت رجله اليسرى من مفصل الكعب، ولا يجوز إعادتها بعملية جراحية بعد القطع؛ لأن الحكمة تظهر بفقده يده، ويراه الناس كذلك بعد جريمته، قال -تعالى-: (جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ) (المائدة: 38).

    (4) توبة السارق لا بد فيها مِن ردِّ المال إلى صاحبه على أي صورة كانت؛ فإن تعذر الوصول إلى أصحابه، فعليه أن يتصدق به لهم، كما قال ابن مسعود -رَضِيَ اللَّهُ عنْه-.

    (5) كم من العصابات المتخصصة في السرقات، تروِّج مسروقاتها علانية ويعرفهم الناس، ومع ذلك يشترون منهم المسروقات لمجرد رخص ثمنها! والكثير من السراق يسرق ليشرب المخدرات، أو ليزني، أو... فأما الصالح؛ فلا يسرق.

    (6) كانت بداية الكثير من السراق: التساهل من البيوت، عندما كان يسرق الأشياء الحقيرة فلا ينكر عليه، وربما وَجَد التشجيع والإعانة (سرقة لعب الآخرين - سرقة مقابض الأبواب - ...).


    (7) فكم مِن الأفلام والمسلسلات تعلِّم الجرائم والسرقة، وكم من سارق أخذ طريقة سرقته من فيلم أو مسلسل، بل بعض الأعمال الفنية تجعل المشاهد يتعاطف مع السارق، ويبغض المسروق!



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر
    (8) الانتحار
    (موعظة الأسبوع)










    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    المقدمة:

    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

    - قَتْلُ الإنسان نفسه (الانتحار)(1) من الكبائر العظام، والجرائم الجسام؛ لأنه ورد في حقه الوعيد الشديد، فهو متعدٍّ على حقِّ الله بأنه المالك الخالق المتصرف بما يشاء: قال الله -تعالى-: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا . وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) (النساء: 29-30)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (*كَانَ *بِرَجُلٍ *جِرَاحٌ، *فَقَتَلَ *نَفْسَهُ، فَقَالَ اللَّهُ: بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ) (رواه البخاري).


    - الإشارة إلى أن الانتحار صار ظاهرة في هذه الأيام، والأعجب أنها تسرَّبت إلى بلاد المسلمين الموحدين، متأثرين بالنعرات الغربية، حتى وصل الأمر إلى اعتبار المنتحرين رموزًا لقضايا عظيمة القيمة! (أيقونة الثورة التونسية كما يقولون، شاب منتحر! - وغيره كثير...!).

    موقف الإسلام من الانتحار:

    - عَظَّم الإسلام من حرمة النفوس، وحذر من الاعتداء عليها بالإتلاف والإفساد: قال -تعالى-: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا . وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) (النساء: 29-30).

    - ورتب على ذلك العقوبة الشديدة التي قد تصل إلى الكفر والخلود في النار في بعض المنتحرين: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ *قَتَلَ *نَفْسَهُ *بِحَدِيدَةٍ *فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا) (رواه مسلم). وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*مَنْ *قَتَلَ *نَفْسَهُ *بِشَيْءٍ *فِي *الدُّنْيَا، *عُذِّبَ *بِهِ *يَوْمَ *الْقِيَامَةِ) (متفق عليه).

    - فالمنتحر لعظم جرمه مستحق لدخول النار ولو كان في ظاهره يحمل قضية شريفة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ: (هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ)، فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ قِتَالًا شَدِيدًا فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، الَّذِي قُلْتَ لَهُ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَإِنَّهُ قَدْ قَاتَلَ الْيَوْمَ قِتَالًا شَدِيدًا وَقَدْ مَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِلَى النَّارِ)، قَالَ: فَكَادَ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَرْتَابَ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ، وَلَكِنَّ بِهِ جِرَاحًا شَدِيدًا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْجِرَاحِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذَلِكَ فَقَالَ: (اللهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ) ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى بِالنَّاسِ: (إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَإِنَّ اللهَ *لَيُؤَيِّدُ *هَذَا *الدِّينَ *بِالرَّجُلِ *الْفَاجِرِ) (رواه البخاري).

    من أسباب ظاهرة الانتحار:

    - الإحصائيات في الجملة تشير إلى أن 35% من حالات الانتحار ترجع إلى أسباب عقلية ونفسية، وأن 65% ترجع إلى أسباب اجتماعية وحياتية، وأن أسباب ذلك كثيرة متنوعة، وسنقف على أبرزها:

    1- الفشل بأنواعه:

    كالفشل المالي في سداد الالتزامات المالية، أو التعرض للخسائر التجارية، أو الفشل العاطفي، أو الفشل الدراسي، أو الفشل الاجتماعي الأسرى، أو الفشل المهني: كتأمين وظيفة كريمة، ونحوه.

    2- المشاكل الاقتصادية:

    كالفقر والبطالة، وعدم الحصول على فرصة عمل على الرغم من الحصول على الشهادات والمؤهلات، أو فقدان الوظيفة أو المسكن؛ لا سيما إذا كان مصحوبًا بقهر أو ظلم من الآخرين.

    3- المشاكل الأسرية:

    ككثرة النزاعات بين الوالدين، أو العيش في بيئة اجتماعية قاسية التعامل مع المنتحر: كزوج أم، أو زوجة أب قاسيين، وكحالات الزنا أو الاغتصاب، وخشية العار.

    4- المشاكل الصحية الخطيرة:

    كإدمان المخدرات، أو الأمراض القاتلة المؤلمة التي تشتد المعاناة معها؛ لا سيما إذا وافق ذلك فقرًا وحاجة.

    5- الإعلام العصري المنفتح على العالم بكلِّ ما فيه من شرور:

    تعتبر نسبة الانتحار في الغرب والبلاد المتحللة من الدِّين هي النسبة الأكبر، وبسبب الإعلام تنتقل العدوى بالتقليد إلى ضعاف الدِّين والإيمان في بلاد المسلمين.

    علاج ظاهرة الانتحار:

    تتلخَّص الوسائل التالية في العودة إلى تعاليم الإسلام وأحكامه، الذي جاء بسعادة البشرية لو أنها التزمتها: قال -تعالى-: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة: 6).

    1- ترسيخ عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر في النفوس والقلوب: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة: 51). وعَنْ أبي هُريرةَ -رضْيَ اللهُ عنه- قالَ: قال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: (المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ مِنَ المؤمنِ الضَّعيفِ وفي كلٍّ خيرٌ، احْرِصْ على ما يَنفعُكَ، واسْتَعنْ باللهِ ولا تَعْجَزْ، وإنَّ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أنِّي فَعَلْتُ كَان كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قدَرُ اللهِ ومَا شَاءَ فَعَل، فإنَّ (لَوْ) تَفتحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ) (رواه مسلم).


    2- الصبر على الأقدار المؤلمة، بمطالعة فضل ذلك في الدنيا والآخرة: قال -تعالى-: (وَلَنَبْلُوَنَّ كُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة: 155-157).

    3- حسن الظن بالله وعدم اليأس وانتظار الفرج؛ فان أشد ساعات الليل ظلمة ما تكون قبيل طلوع الفجر بالنور والإشراق: قال -تعالى-: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (الشرح: 5-6)، وقال -تعالى-: (وَلَا تَيْأَسُوا *مِنْ *رَوْحِ *اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ *مِنْ *رَوْحِ *اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87) وفي الحديث القدسي يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: (أَنَا *عِنْدَ *ظَنِّ *عَبْدِي بِي) (متفق عليه)، وفي رواية: (أَنَا *عِنْدَ *ظَنِّ *عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا *شَاءَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

    وقال الشاعر:

    ولـرب نازلة يضيـق بها الفتى ذرعًا وعند الله منها المخرج

    ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فـرجت وكان يظـنها لا تفرج

    صور مشرقة في حسن الظن بالله وانتظار الفرج:

    - موسى -عليه السلام- يرد على مَن ضعف ظنهم بالله: قال -تعالى-: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء: 61-62).

    - أيوب -عليه السلام- المثل الرائع في الصبر على كل ألوان البلاء: (المال - الصحة - موت الذرية - الفقر - هجر الناس - ...)، وانتظار الفرج سنين طوال: قال -تعالى-: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء: 83-84).

    4- الإكثار من الصلاة والذكر والدعاء: قال -تعالى-: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ . الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة: 45-46) وقال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28)، وعن حذيفةَ -رضي الله عنه- قالَ: "كانَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ- إذا حزبَهُ أمرٌ صلَّى) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

    خاتمة:

    - لقد أجمع علماء الإسلام على أن الانتحار كبيرة من أشد الكبائر، وأن صاحبه متوعد بالعذاب الطويل في النار، بل قد لا يخرج من النار أبدًا إن قتل نفسه يأسًا وقنوطًا من رحمة الله -سبحانه وتعالى-، واستحلالًا للانتحار، وعدم إيمانٍ برحمة الله؛ لأنه بذلك يكون قد كَفَرَ، وخرج من الملة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (*كَانَ *بِرَجُلٍ *جِرَاحٌ، *فَقَتَلَ *نَفْسَهُ، فَقَالَ اللَّهُ: بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ).


    فاللهم فرِّج هم المهمومين، وكرب المكروبين، واقضِ الدَّين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، وردَّ عنهم كيد الشياطين.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــــ

    (1) الانتحار: هو قتل الإنسان نفسه، أو إتلاف عضو من أعضائه يؤدي إلى موته، كالشنق أو الحرق، أو تناول السموم، أو الجرعات الكبيرة من المخدرات، أو قتل نفسه بمأكول أو مشروب يؤدي إلى الموت، لأسباب يعتقد صاحبها معها أن مماته أصبح أفضل من حياته.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر



    الكبائر
    (9) قطع الأرحام
    (موعظة الأسبوع)









    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    المقدمة:

    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

    - قطع الأرحام من أكبر الكبائر، وأعظم المفاسد التي تدمِّر مجتمعات المسلمين، وقد جاء فيه الوعيد الشديد واللعن الأكيد(1): قال -تعالى-: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ . أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وأَعْمى أَبْصارَهُمْ) (محمد: 22-23)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ) (رواه مسلم).

    مكانة صلة الأرحام في الإسلام:

    - عظَّم الإسلام من صلة الأرحام، وأقر العربَ على تعظيمهم الصلة ونبذهم القطيعة؛ فخاطبهم من خلالها بالتوحيد: قال -تعالى-: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي *تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ) (النساء: 1). "وكانت العرب تقول: أنشدك الله والرحم".

    - عظم الإسلام من علاقة الأخوة بين عموم المسلمين؛ فرفع من شأن صلة الأرحام أكثر وأشد بين المؤمنين: قال -تعالى-: (*إِنَّمَا *الْمُؤْمِنُونَ *إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10)، وقال -تعالى-: (*وَأُولُو *الْأَرْحَامِ *بَعْضُهُمْ *أَوْلَى *بِبَعْضٍ *فِي *كِتَابِ *اللَّهِ) (الأنفال: 75).

    - وحرم الإسلام القطيعة بين عموم المسلمين، فعظم التحريم أكثر وأشد بين الأرحام المؤمنين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ) (متفق عليه)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ، قَالَتِ الرَّحِمُ: *هَذَا *مَقَامُ *الْعَائِذِ *بِكَ *مِنَ *الْقَطِيعَةِ. قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ، قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَهُوَ لَكِ) (متفق عليه).

    - سيأتي الحديث عن فضائل صلة الرحم في الدِّين والدنيا عند الحديث عن وسائل المحافظة على صلة الأرحام.

    عقوبة قاطع الرحم في الإسلام:

    - قاطع الأرحام ملعون في كتاب الله: قال علي بن الحسين لولده: "يا بني لا تصحبن قاطع رحم؛ فإني وجدته ملعونًا في كتاب الله في ثلاثة مواطن: قوله -تعالى-: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ . أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وأَعْمى أَبْصارَهُمْ) (محمد: 22-23)، وقوله -تعالى-: (والَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ويَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ويُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ ولَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (الرعد: 25)، وقوله -تعالى-: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة: 27)".

    - قاطع الأرحام لا يُرفع له عمل ولا يقبله الله حتى يصل رحمه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*إِنَّ *أَعْمَالَ *بَنِي *آدَمَ *تُعْرَض *عَلَى *اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عشيةَ كُلِّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَلَا يُقْبَلُ *عَمَلُ *قَاطِعِ *رَحِمٍ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني لغيره).

    - قاطع الأرحام معجَّل العقوبة في الدنيا قبل الآخرة: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ -تعالى- لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِثْلُ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

    - قاطع الرحم لا يدخل الجنة: قال رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ) (رواه مسلم).

    - قاطع الرحم بالجملة مقطوع الصلة بالله -عز وجل-: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (قَالَ اللَّهُ: أَنَا الرَّحْمَنُ وَهِيَ الرَّحِمُ، شَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِي، *مَنْ *وَصَلَهَا *وَصَلْتُهُ، *وَمَنْ *قَطَعَهَا *بَتَتُّهُ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

    من أسباب وقوع القطيعة بين الأرحام(2):

    1- الجهل بعاقبة قطيعة الأرحام في الدنيا والآخرة.

    2- الحسد، وبخاصة لمَن تميز مِن القرابات بعلم أو مال، أو جمال، أو جاه، أو قبول عند الناس، أو ذرية صالحة.

    3- النميمة والوشاية والإصغاء إلى أصحابها.

    4- العجب والكبر، ويظهر أكثر بعد الترقي في الوظائف والمراكز الدنيوية أو الدينية من ضعاف الدِّين، فيتنكر لأرحامه الفقراء والبسطاء، بل قد يصل إلى قطيعة الأبوين!

    5- حالات الطلاق والنزاعات الأسرية، وكم من إساءات يندى لها الجبين، ارتكبها القرابات عند الطلاق والنزاعات، ما كان يحلم بها الشيطان الرجيم!

    سبيل المحافظة على صلة الأرحام:

    - يتلخَّص ذلك في أمرين:

    أولًا: معرفة فضل الصلة على الدنيا والدين.

    - صلة الرحم... سبب لمغفرة الذنوب، وتسهيل الحساب على الإنسان يوم القيامة:‏ ‏عَنْ ‏ ‏ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-:‏ ‏أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ ‏-صلى الله عليه وسلم-،‏ ‏فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ ذَنْبًا عَظِيمًا فَهَلْ لِي تَوْبَةٌ؟ قَالَ: (‏هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟) قَالَ: لَا، قَالَ: (هَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ؟) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَبِرَّهَا) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

    - صلة الرحم سبب للبركة في العمر والرزق، والذكر الطيب بعد الموت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ *سَرَّهُ *أَنْ *يُبْسَطَ *لَهُ *فِي *رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) (متفق عليه).

    - صلة الرحم لها أثر عظيم في بثِّ المحبة بين أفراد الأسرة والمجتمع الإسلامي، ويترتب عليها فوائد كثيرة لهم (تناصر - تناصح - تكافل - قوة - رضا الرب).

    ثانيًا: الصبر والعفو والصفح والتجاوز:

    - الأرحام والقرابات بشر يخطؤون، وهذه طبيعة الحياة: قال الذين عاشوا في بيت نبوة: (إِنَّ أَبَانَا *لَفِي *ضَلَالٍ مُبِينٍ) (يوسف: 8)، وقالوا عن أخيهم البريء: (?اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا) (يوسف: 9)، ومع ذلك كان موقف الأب: (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ . قَالَ *سَوْفَ *أَسْتَغْفِرُ *لَكُمْ *رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (يوسف: 97-98)، والأخ: (قَالَ *لَا *تَثْرِيبَ *عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف: 92).

    - الصبر والإحسان والاحتساب هو سبيل التعامل مع أذى القرابات؛ للحفاظ على صلة الأرحام: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا) (رواه البخاري). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: (لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ) (رواه مسلم). وقال: (*أَفْضَلُ *الصَّدَقَةِ *عَلَى *ذِي *الرَّحِمِ *الْكَاشِحِ) (رواه أحمد والحاكم، وصححه الألباني).

    خاتمة:

    - قم الآن وسارع بصلة أرحامك، واعفُ عنهم وإن أساءوا: قال -تعالى-: (*وَلْيَعْفُوا *وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور: 22)، وقال -تعالى-: (وَسَارِعُوا *إِلَى *مَغْفِرَةٍ *مِنْ *رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: 133-134).


    فاللهم أصلح ذات بين المسلمين، وألِّف بين قلوبهم.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ

    (1) الأرحام: اسم شامل لكافة الأقارب من غير تفريق بين المحارم، أو الأرحام وغيرهم -على الراجح من الأقوال-.

    (2) لقد وَصَل الأمر ببعض الناس أن يمتلئ قلبه غيظًا وحقدًا على أقاربه وذوي رحمه، فيقاطعهم ويعاديهم، ويورث ذلك في ذريته، بل ربما يعلن عليهم الحرب الشعواء في المحاكم والقضاء، ولربما كان ذلك لأتفه الأسباب، قال -تعالى-: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) (الإسراء: 53).



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (10)
    شهادة الزور
    (موعظة الأسبوع)




    كتبه/ سعيد محمود


    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    المقدمة:

    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

    - شهادة الزور من الكبائر العظام، والجرائم الجسام؛ لما تسببه من ضياع الحقوق، وتغيير الحقائق(1): عن أبي بكرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبائِرِ ثَلاثًا)، قَالُوا: بَلى يا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: (الإِشْراكُ بِاللهِ وَعُقوقُ الْوالِدَيْنِ) وَجَلَسَ، وَكانَ مُتَّكِئًا(2)، فَقالَ: (أَلا وَقَوْلُ الزّورِ) قَالَ: فَما زَالَ يُكَرِّرُها حَتّى قُلْنا: لَيْتَهُ سَكَتَ. (متفق عليه).

    - الإشارة إلى أن شهادة الزور لا تقتصِر على كونها أمام المحاكم والقضاء، بل لها صور كثيرة في حياة الناس بكل جوانبها(3).

    قبح شهادة الزور، وخطورة آثارها:

    - شهادة الزور من أشد أنواع الكذب افتراءً وبهتانًا: قال -تعالى-: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (النحل: 105)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَإيَّاكُمْ والكَذِب، فإنَّ الكذبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُور، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ) (متفق عليه).

    - شاهِد الزور فاسق فاجر، مجرم آثم، يري عينه ما لم ترَ، ويُسمِع أذنه ما لم تسمع! قال -تعالى-: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (الإسراء: 36). وقال الله -تعالى- عن عباده المتقين: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) (الفرقان: 72).

    - شاهد الزور يضلل القاضي والحكم وطالب الشهادة، ولو كان القاضي من أعدل الناس وأعلمهم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، فأقْضِي علَى نَحْوِ ما أسْمَعُ، فمَن قَضَيْتُ له مِن حَقِّ أخِيهِ شيئًا، فلا يَأْخُذْهُ فإنَّما أقْطَعُ له قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) (متفق عليه).

    - شاهد الزور يفسد المجتمع، ويضر بالأبرياء، ويناصر الفاسدين والمجرمين والظالمين: قال -تعالى-: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ) (هود: 113).

    - شيوع شهادة الزور خطر شديد، وعلامة على فساد المجتمع: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: تَسْلِيمَ الْخَاصَّةِ، وَفُشُوَّ التِّجَارَةِ، حَتَّى تُعِينَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى التِّجَارَةِ، وَقَطْعَ الْأَرْحَامِ، وَشَهَادَةَ الزُّورِ، *وَكِتْمَانَ *شَهَادَةِ *الْحَقِّ، وَظُهُورَ الْقَلَمِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

    - ولذلك كانت شهادة الزور من الكبائر العظام التي تقارب الشرك بالله: قال -تعالى-: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (الحج: 30).

    عقوبة شاهد الزور في الدنيا والآخرة:

    - تنبيه: عقوبة شاهد الزور تتفاوت بحسب الظلم الذي تسبب فيه، وتزداد إثمًا إذا صاحبتها يمين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امرئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ الله لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) (رواه مسلم).

    - شاهد الزور يمشي ويعيش في سخط الله حتى يتوب: قال رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

    - شاهد الزور يمشى ويعيش في الدنيا تطارده دعوات المظلومين: قالَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اتَّقِ دَعوةَ المظلومِ؛ فإنَّهُ ليسَ بينَها وبينَ اللَّهِ حِجَابٌ) (متفق عليه). وقالَ: (*دَعْوَةُ *الْمَظْلُومِ *تُحْمَلُ *عَلَى *الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

    وعن *جابر بن سمرة قال: "شَكَا أَهْلُ الكُوفَةِ سَعْدًا إلى عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عنْه-، فَعَزَلَهُ، واسْتَعْمَلَ عليهم عَمَّارًا، فَشَكَوْا حتَّى ذَكَرُوا أنَّهُ لا يُحْسِنُ يُصَلِّي، فأرْسَلَ إلَيْهِ، فَقالَ: يا أَبَا إسْحَاقَ إنَّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أنَّكَ لا تُحْسِنُ تُصَلِّي، قالَ سعد: أَمَّا أَنَا واللَّهِ فإنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بهِمْ صَلَاةَ رَسولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - ما أَخْرِمُ عَنْهَا، أُصَلِّي صَلَاةَ العِشَاءِ، فأرْكُدُ في الأُولَيَيْنِ وأُخِفُّ في الأُخْرَيَيْنِ، قالَ: ذَاكَ الظَّنُّ بكَ يا أَبَا إسْحَاقَ، فأرْسَلَ معهُ رَجُلًا أَوْ رِجَالًا إلى الكُوفَةِ، فَسَأَلَ عنْه أَهْلَ الكُوفَةِ ولَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إلَّا سَأَلَ عنْه، ويُثْنُونَ مَعْرُوفًا، حتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ منهمْ يُقَالُ له أُسَامَةُ بنُ قَتَادَةَ يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ، قالَ: أَمَّا إذْ نَشَدْتَنَا؛ فإنَّ سَعْدًا كانَ لا يَسِيرُ بالسَّرِيَّةِ، ولَا يَقْسِمُ بالسَّوِيَّةِ، ولَا يَعْدِلُ في القَضِيَّةِ، قالَ سَعْدٌ: أَما واللَّهِ لَأَدْعُوَنَّ بثَلَاثٍ: اللَّهُمَّ إنْ كانَ عَبْدُكَ هذا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وسُمْعَةً، فأطِلْ عُمْرَهُ، وأَطِلْ فَقْرَهُ، وعَرِّضْهُ بالفِتَنِ، وكانَ بَعْدُ إذَا سُئِلَ يقولُ: شيخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ، قالَ عبدُ المَلِكِ: فأنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ، قدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ علَى عَيْنَيْهِ مِنَ الكِبَرِ، وإنَّه لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي في الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ" (رواه البخاري).

    - شاهد الزور يأتي يوم القيامة مع المفلسين، وإن كان له من الأعمال الصالحة ما له: قال -تعالى-: (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) (الزخرف: 19)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أَتَدْرُونَ مَا *الْمُفْلِسُ؟) قَالُوا: *الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ، وَلَا مَتَاعَ فَقَالَ: (إِنَّ *الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، *وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ) (رواه مسلم).

    - شاهد الزور يهوي في النار بشهادة زور واحدة؛ فكيف بمَن تكررت منه شهادة الزور؟!: قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امرئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ الله لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: (وَإِنْ قَضِيبا مِنْ أَرَاكٍ) (رواه مسلم). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ) (رواه البخاري ومسلم).

    خاتمة: هل لشاهد الزور توبة؟

    - جماهير علماء المسلمين على قبول توبته: قال -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53).

    - توبة شاهد الزور وقبول شهادته لا بد فيها من إصلاح ما أفسد في شهادته، وأن يقر بأنه شهد زورًا، وأن يضمن ما تسبب في ضياع الحقوق من الأموال أو غيرها، أو أن يستسمح من تسبب في ظلمه، ولا يكون الحج أو العمرة سببًا في غفران ضياع حقوق الناس كما يتوهمه بعضهم، فلا بد من الاعتراف بشهادة الزور أمام الجهات المختصة، أو استسماح مَن ظلمه بشهادة الزور، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ *كَانَتْ *عِنْدَهُ *مَظْلِمَةٌ *لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْ هُ *مِنْهَا، *فَإِنَّهُ *لَيْسَ *ثَمَّ *دِينَارٌ *وَلَا *دِرْهَمٌ، *مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ) (رواه البخاري).

    فاللهم احفظ علينا ألسنتنا من أن نقول زورًا، أو نشهد زورًا، ووفِّقنا لكلمة الحق في السر والعلانية.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــ

    (1) المقصود بشهادة الزور: أن يشهد إنسان لآخر أو عليه، بغير ما علم أو سمع، فهي قلب للحقائق، وتضييع للحقوق، وإعانة للظالمين.

    (2) قال الحافظ في الفتح: "وسبب الاهتمام بذلك كون قول الزور أو شهادة الزور أسهل وقوعًا على الناس، والتهاون بها أكثر، فان الإشراك ينبو عنه قلب المسلم، والعقوق يصرف عنه الطبع، وأما الزور فالحوامل كثيرة، كالعداوة والحسد".


    (3) من مجالات شهادة الزور: (الكذب في الأنساب، والوصايا، والجنايات، والأموال، ونحو ذلك، وكذا تزكية إنسان أو جرحه بما ليس فيه، سواء في الزواج، أو الوظائف والإمارات، ونحوه، وكذا الكذب في التقارير التي تضر بالناس عند الحكام والمسئولين ونحوها، وهكذا... ).

    ومن صورها التي يستهين بها كثير من الناس: (شهادة الأمهات للأولاد عند الوالد بالكذب - شهادات الفقر والغنى عند القاضي تهربًا من نفقة الزوجات والعكس - الشهادات الطبية الكاذبة - شهادات الخبرة الكاذبة - التقارير الإدارية الظالمة على الموظفين - التقارير الهندسية المخالفة - التقارير المعلوماتية الكاذبة - شهادات النجاح الكاذبة - مستندات السفريات والمأموريات الكاذبة للموظفين - وغير ذلك كثير في عالم الناس).


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر



    الكبائر (11)
    الزنا
    (موعظة الأسبوع)










    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    المقدمة:

    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

    - الزنا مِن أكبر الكبائر، وأفحش الجرائم، حتى قَرَنَه الله بالشرك والقتل، وتوعَّد صاحبه بالوعيد الشديد، والعقاب الأليم: قال -تعالى-: (*وَالَّذِينَ *لَا *يَدْعُونَ *مَعَ *اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) (الفرقان: 68-69).

    قال السعدي -رحمه الله-: "هذه الثلاثة؛ لأنها من أكبر الكبائر؛ فالشرك فيه فساد الأديان، والقتل فيه فساد الأبدان، والزنا فيه فساد الأعراض".

    (1) قبح الزنا وأثره على الإيمان:

    - أجمعت الشرائع السماوية على تحريم الزنا: قال -تعالى-: (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) (الأنعام: 151)، وقال -تعالى- (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) (الإسراء: 32).

    - الزنا يعرِّض دين العبد للخطر، ويوشك أن يسقطه في هاوية الكفر(1): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*لَا *يَزْنِي *الزَّانِي *حِينَ *يَزْنِي *وَهُوَ *مُؤْمِنٌ) (متفق عليه). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إذَا زَنَى الْعَبْدُ خَرَجَ مِنْهُ الْإِيمَانُ فَكَانَ فَوْقَ رَأْسِهِ كَالظُّلَّةِ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ عَادَ إلَيْهِ الْإِيمَانُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

    - الزنا يعرِّض المجتمع الذي ينتشر فيه للخراب: (اختلاط الأنساب - فساد الأخلاق - الأمراض الفتاكة - ضنك المعيشة - ظلم الحكام - ...)، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*إِذَا *ظَهَرَ *الزِّنَا *وَالرِّبَا *فِي *قَرْيَةٍ، *فَقَدْ *أَحَلُّوا *بِأَنْفُسِهِمْ *عَذَابَ *اللَّهِ) (رواه الطبراني والحاكم، وصححه الألباني).

    - ولذا توعد الله كل من يعين على انتشار الفواحش بأشد العذاب: قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النور: 19).

    (2) أضرار الزنا وعاقبته:

    أولًا: في الدنيا:

    - استحقاق حد الزنا، ولحوق العار بالزاني وعشيرته والفضيحة بين الناس: عن عبادة بن الصامت أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال: (خُذُوا عنِّي خُذُوا عنِّي، قدْ جعل اللهُ لهنَّ سَبِيلًا، البِكرُ بالبِكرِ؛ جَلدُ مِائةٍ، ونَفْيُ سَنةٍ، والثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ، جَلدُ مائةٍ والرَّجْمُ) (رواه مسلم)، وقال -تعالى-: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (المؤمنون: 2).

    ثانيًا: في الآخرة:

    - توعدهم الله بأشد العذاب، فيعذب الزناة في النار عراة كما كانوا حال الزنا، ويُركَّز العذابُ على مواضع الشهوة التي مارسوا بها الزنا: قال -تعالى-: (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) (الفرقان: 68 -69)، وفي حديث رؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال: (فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ قَالَ: فَأَحْسَبُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ، قَالَ: فَاطَّلَعْنَا فِيهِ، فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَإِذَا أَتَاهُمْ ذَلِكَ اللهَبُ *ضَوْضَوْا - أي: صاحوا من شدة حرِّه- فقلت: (قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَؤُلَاءِ؟)... فقال جبريل: (وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ الْعُرَاةُ الَّذِينَ فِي مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ، فَإِنَّهُمُ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي) (رواه البخاري).

    (3) أسباب انتشار الزنا:

    1- مخالفة التعاليم والتدابير الوقائية في الشريعة الإسلامية لمنع الزنا، في حياة كثيرٍ من المسلمين في البيوت والمصالح والمؤسسات (سيأتي الكلام عن ذلك مفصَّلًا).

    2- دور وسائل الإعلام العصرية، ووسائل الاتصالات الحديثة في نشر الفواحش والعرى والمجون، وتسهيل الوصول لذلك: (الأفلام والأغاني الماجنة، قنوات الرقص والعري، المواقع الإباحية، السخرية من الدين والمتدينين، محاربة الفضيلة ومَن يدعو لها، وغير ذلك كثير...).

    3- تعسير الزواج بالنفقات الباهظة، أو تأخير سن الزواج؛ بحجة التعليم، وغيره؛ سواء من الأولياء أو من الشباب أنفسهم.

    4- عدم إقامة حد الزنا على الزناة واستبداله بالقوانين الغربية التي لا تجرِّم الزنا إلا في حدود ضيقة جدًّا جدًّا!

    (4) تدابير وقائية في الشريعة الإسلامية لمنع الزنا(2):

    - تمهيد: يعتبر إصلاح القلب وتطهيره وتعميره بتقوى الله ومراقبته هو أعظم رادع عن المعاصي، غير أن الشريعة المطهرة لم تكلنا إلى ذلك فقد نضعف؛ ولذا جعلت هذه التدابير.

    1- فرض الحجاب على النساء، وتحريم التبرج وإظهار الزينة: قال -تعالى-: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) (الأحزاب: 33)، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ *قُلْ *لِأَزْوَاجِكَ *وَبَنَاتِكَ *وَنِسَاءِ *الْمُؤْمِنِينَ *يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الأحزاب: 59)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (المَرْأَةُ عَوْرَةٌ، فَإِذَا خَرَجَتْ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

    2- الأمر بغض البصر؛ لأنه أول سهام الشيطان(3): قال -تعالى-: (قُل لِّلْمُؤْمِنِين َ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) (النور: 30)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ *الزِّنَا مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا *النَّظَرُ...) (متفق عليه).

    3- تحريم مس الأجنبية ومصافحتها: قال -صلى الله عليه وسلم-: (لَأَنْ يُطْعَنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لا تَحِلُّ لَهُ) (رواه الطبراني والبيهقي، وصححه الألباني).

    4- تحريم خروج المرأة متطيبة متعطرة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ لِيَجِدُوا رِيحَهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ، وَكُلُّ عَيْنٍ زَانِيَةٌ) (رواه أحمد والنسائي، وحسنه الألباني).

    5- تحريم الخضوع بالقول: قال -تعالى-: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا) (الأحزاب: 32).

    6- تحريم الاختلاط: (الزيارات - الوظائف - المدارس والجامعات - العمال والخدم والصناع - ...)؛ قال -تعالى-: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنّ َ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) (الأحزاب: 53).

    7- أخطر وأعظم أسباب الوقوع في الزنا: (تحريم الخلوة بالأجنبية): (الزيارات العائلية - المصاعد والعيادات ونحوها - الصناع والحرفيين - المصالح والمؤسسات - ...)؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*أَلَا *لَا *يَخْلُوَنَّ *رَجُلٌ *بِامْرَأَةٍ *إِلَّا *كَانَ *ثَالِثَهُمَا *الشَّيْطَانُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*إِيَّاكُمْ *وَالدُّخُولَ *عَلَى *النِّسَاءِ!) فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: (الْحَمْوُ الْمَوْتُ) (متفق عليه).

    خاتمة: هل للزاني توبة؟

    - الزاني تُقبَل توبته إن صدق: قال -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53).

    وعن بريدة بن الحصيب الأسلمي قالَ: جَاءَتِ الغَامِدِيَّةُ، فَقالَتْ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي قدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي، وإنَّه رَدَّهَا، فَلَمَّا كانَ الغَدُ، قالَتْ: يا رَسولَ اللهِ، لِمَ تَرُدُّنِي؟ لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كما رَدَدْتَ مَاعِزًا، فَوَاللَّهِ إنِّي لَحُبْلَى، قالَ: (إمَّا لا، فَاذْهَبِي حتَّى تَلِدِي)، فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بالصَّبِيِّ في خِرْقَةٍ، قالَتْ: هذا قدْ وَلَدْتُهُ، قالَ: (اذْهَبِي فأرْضِعِيهِ حتَّى تَفْطِمِيهِ)، فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بالصَّبِيِّ في يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ، فَقالَتْ: هذا يا نَبِيَّ اللهِ قدْ فَطَمْتُهُ، وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ، فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إلى رَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَمَرَ بهَا فَحُفِرَ لَهَا إلى صَدْرِهَا، وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا، فأقْبل خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ بحَجَرٍ، فَرَمَى رَأْسَهَا، فَتَنَضَّحَ الدَّمُ علَى وَجْهِ خَالِدٍ، فَسَبَّهَا، فَسَمِعَ نَبِيُّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- سَبَّهُ إيَّاهَا، فَقالَ: (مَهْلًا يا خَالِدُ؛ فَوَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لو تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ له)، ثُمَّ أَمَرَ بهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا، وَدُفِنَتْ. (رواه مسلم).

    فاللهم استر عورات المسلمين، واحفظ أعراضهم.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــــ

    (1) ولخطورة جريمة الزنا على الإيمان، واحتمال أن يفقد الزاني إيمانه، فلا يعود إليه أبدًا، كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- يَعْرِضُ عَلَى مَمْلُوكِهِ الْزواج، وَيَقُولُ: "مَنْ أَرَادَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ زَوَّجْتُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَزْنِي زَانٍ إِلَّا نَزَعَ اللَّهُ مِنْهُ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِ بَعْدُ رَدَّهُ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَمْنَعَهُ مَنَعَه" (رواه عبد الرزاق)، وفي رواية لابن نصر: "مَنْ أَرَادَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ زَوَّجْتُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَزْنِي زَانٍ إِلَّا نَزَعَ اللَّهُ مِنْهُ نُورَ الْإِيمَانِ، فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَرُدَّهُ رَدَّهُ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَمْنَعُهُ مَنَعَه".


    (2) سنذكرها كعناوين دون تفصيل؛ لعدم الإطالة، وإلا فكل واحدٍ منها يحتاج إلى حديثٍ منفردٍ.

    (3) مِن أعظم المفسدات في هذا الباب (وسائل الإعلام والاتصالات العصرية التي سَهَّلت ذلك إلى أسوأ درجة).



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (12)
    أذية الجيران
    (موعظة الأسبوع)







    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    - المقدمة:

    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة، قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

    - أذية الجيران من الكبائر العظام، والمنكرات الجسام؛ فقد ورد في ذلك التهديد الأكيد، والوعيد الشديد، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ) (رواه مسلم).

    مكانة الجار في الإسلام:

    - أوصى الإسلام بالجار، حتى قرن الله حق الجار بحقه -سبحانه-، فقال -تعالى-: (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالوَالِدَيْ نِ إِحْسَانًا وَبِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) (النساء: 36)(1).

    - جعل الإسلام الإحسان إلى الجار من علامات الإيمان والانتماء إلى الإسلام: قال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ) (متفق عليه). وفي رواية لمسلم: (فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ)، قال القاضي عياض -رحمه الله تعالى-: "مَن التزم شرائع الإسلام؛ لزمه إكرام جاره".

    - كاد الإسلام أن يشرع توريث الجار لجاره؛ لعظم مكانته وحقه: عن عائشة -رضي الله عنها-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي *يَشْبَعُ، *وجارُه جَائِعٌ) (رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني).

    - الكرام يقومون بحق الجار حتى مع الكفار(2): عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: أنه ذُبِحت له شاة في أهله، فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟، قلنا: لا، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (*مَا *زَالَ *جِبْرِيلُ *يُوصِينِي *بِالْجَارِ، *حَتَّى *ظَنَنْتُ *أَنَّهُ *سَيُوَرِّثُهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

    بل الكرام يتمدحون بحسن الجوار في كلِّ زمان، قال الشاعر الجاهلي:

    مـا ضـرَّ جـاري إذ أُجــاوِره ألا يـكـونَ لـبـيــتِـه سِــتْــرُ

    أعمى إذا ما جارَتي خَرَجَـت حـتى يُوَارِي جارتي الخِدْرُ

    - ولذا جعل الإسلام الجار الصالح من أسباب السعادة، وجعل جار السوء من أسباب التعاسة والبلاء والنقمة: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَرْبَعٌ *مِنَ *السَّعَادَةِ: *الْمَرْأَةُ *الصَّالِحَةُ، *وَالْمَسْكَنُ *الْوَاسِعُ، *وَالْجَارُ *الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ، وَأَرْبَعٌ مِنَ الشَّقَاوَةِ: الْجَارُ السُّوءُ، وَالْمَرْأَةُ السُّوءُ، وَالْمَسْكَنُ الضِّيقُ، وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ) (رواه ابن حبان، وصححه الألباني).

    تحريم إيذاء الجار، وعاقبة الجار المؤذي:

    - شدد الإسلام على حرمة الجار وتحريم إيذائه، حتى علق درجة إيمان العبد وإسلامه على ذلك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهُ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ) قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: (الذي لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ) (رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (َمنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِ جَارَهُ) (متفق عليه).

    - جعل الإسلام ذنب إيذاء الجار عشرة أضعاف إيذاء غيره: عن المِقْدَاد بن الأسود -رضي الله عنه- قال: سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أصحابه عن الزِّنَى؟ قَالُوا: حرامٌ؛ حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. فَقَالَ: (لِأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ)، وَسَأَلَهُمْ عَنِ السرقة؟ قالوا: حرام؛ حرمه اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- وَرَسُولُهُ. فَقَالَ: (لِأَنْ يَسْرِقَ مِنْ عَشَرَةِ أَهْلِ أبياتٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ *أَنْ *يَسْرِقَ *مِنْ *بَيْتِ *جَارِهِ) (رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني).

    - جعل الإسلام ذنب إيذاء الجار محبطًا للأعمال، وسببًا في دخول النار: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قِيلَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلاَنَةً تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ، وَتَفْعَلُ، وَتَصَّدَّقُ، وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ خَيْرَ فِيهَا، هِيَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ)، قَالُوا: وَفُلاَنَةٌ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ، وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ، وَلاَ تُؤْذِي أَحَدًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) (رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني).

    وقفة مهمة: أشرُّ الجيران مَن اضطر جاره إلى هجرة بيته:

    - فاعل ذلك مستحق للعن الناس ودعائهم، فضلًا عما تقدَّم من العقوبة في الإسلام: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَشْكُو جَارَهُ، فَقَالَ: (اذْهَبْ فَاصْبِرْ) فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَقَالَ: (اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ)، فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ: فَعَلَ اللَّهُ بِهِ، وَفَعَلَ، وَفَعَلَ، فَجَاءَ إِلَيْهِ جَارُهُ فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ، لَا تَرَى مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُهُ. (رواه أبو داود، وقال الألباني: "حسن صحيح"). وقَالَ ثَوْبَانُ -رضي الله عنه-: "مَا مِنْ جَارٍ يَظْلِمُ جَارَهُ وَيَقْهَرُهُ، حَتَّى يَحْمِلَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهِ، إِلَّا هَلَكَ" (رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني).

    - ولأجل ذلك، كانت الخصومة بين الجيران مِن أول ما يُقضَى فيه يوم القيامة: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (أَوَّلُ خَصْمَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَارَانِ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).

    وسائل تقوية حسن الجوار:

    - بداية... اشكر الله على الجار الصالح: قال الله -تعالى-: (*وَأَمَّا *بِنِعْمَةِ *رَبِّكَ *فَحَدِّثْ) (الضحى: 11).

    - اصبر على أذى الجار، وأحسن إليه لعله ينصلح أو يرحل: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللهُ...)، ثم ذكر منهم: (... وَالرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ الْجَارُ يُؤْذِيهِ جِوَارُهُ، فَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مَوْتٌ أَوْ ظَعْنٌ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

    من صور الإحسان وتقوية حسن الجوار:

    1- الإهداء إليه، والسؤال عنه، فإنه سبيل للمحبة والألفة: عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَبَا ذَرٍّ *إِذَا *طَبَخْتَ *مَرَقَةً *فَأَكْثِرْ *مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*تَهادُوا *تَحابُوا) (رواه البخاري في الأدب المفرد، وحسنه الألباني).

    2- تنصره ظالمًا ومظلومًا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (انْصُرْ *أَخَاكَ *ظَالِمًا *أَوْ *مَظْلُومًا) فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: (تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ) (متفق عليه).

    3- التصدق عليه إن كان فقيرًا؛ فهو أولى مِن البعيد: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَنْ تُدْخِلَ عَلَى أَخِيكَ الْمُسْلِمِ سُرُورًا، أَوْ تَقْضِيَ عَنْهُ دَيْنًا، *أَوْ *تُطْعِمَهُ *خُبْزًا) (رواه البيهقي، وحسنه الألباني).

    4- التنازل عن بعض الحقوق النافعة له: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَمْنَعْ أَحَدُكُمْ جَارَهُ *أَنْ *يَغْرِزَ *خَشَبَةً *فِي *جِدَارِهِ) (متفق عليه).

    5- دعوته إلى الخير، ونصحه للدين: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا *يُؤْمِنُ *عَبْدٌ *حَتَّى *يُحِبَّ *لِجَارِهِ -أَوْ قَالَ: لِأَخِيهِ- مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) (رواه مسلم).

    خاتمة: تربية أهل البيت على الإحسان إلى الجار:

    - يجب تربية أهل البيت من زوجة وولد على تعظيم حق الجار، فإن الأذية قد لا تصدر من الرجل لجاره، ولكن من زوجه أو ولده: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ) (رواه مسلم).

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــ

    (1) الجيران ثلاثة: جار له حق واحد، وهو أدنى الجيران حقًّا، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق؛ فأما الذي له حق واحد: فجار مشرك لا رَحِم له، فله حق الجوار. وأما الذي له حقان: فجار مسلم له حق الإسلام، وحق الجوار. وأما الذي له ثلاثة حقوق: فجار مسلم ذو رحم، له حق الإسلام وحق الجوار، وحق الرحم. وكلما كان الجار أقرب بابًا كان آكد حقًّا؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: (إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا) (رواه البخاري). والحكمة في ذلك: أن الأقرب بابًا يرى ما يدخل بيت جاره من هدية وغيرها، فيتشوف إليها، بخلاف الأبعد.

    (2) فائدة مهمة لمَن أراد الزيادة: كيف تُعامل جارك إذا كان عاصيًا لله؟

    قال الذهبي في (حق الجار، ص 46 - 49): "وإذا كان الجار صاحب كبيرة، فلا يخلو:

    - إما أن يكون متستِّرًا بها، ويغلق بابه عليه، فليعرض عنه ويتغافل عنه، وإن أمكن أن ينصحه في السر ويعظه، فحسَنٌ.

    - وإن كان متظاهرًا بفِسقه؛ مثل: مكَّاس -وهو جابي الضرائب- أو مُرابٍ، فتَهجره هجرًا جميلًا.

    - وإن كان تاركًا للصلاة في كثير من الأوقات، فمُره بالمعروف، وانْهَه عن المنكر مرة بعد مرة، وإلا فاهجره في الله، ولعله أن يرعوي ويحصل له انتفاع بالهجرة، من غير أن تقطع عنه كلامك وسلامك وهديتك.

    - فإن رأيته متمردًا عاتيًا بعيدًا عن الخير، فأعرِض عنه واجتهد أن تتحول من جواره، فقد تقدَّم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تعوذ من جار السوء في دار الإقامة.

    - فإن كان جارك دَيُّوثًا، أو قليل الغَيرة، أو حريمه على غير الطريق المستقيم؛ فتحوَّل عنه، أو فاجتهد ألا يُؤذوا زوجتك؛ فإن في ذلك فسادًا كثيرًا، وخَف على نفسك المسكينة، ولا تدخل منزله، واقطع الود بكل ممكن.

    - فإن كان جارك رافضيًّا أو صاحب بدعة كبيرة، فإن قدرتَ على تعليمه وهدايته، فاجتهد، وإن عجزت، فانجمع عنه ولا تواده ولا تصافه، ولا تكن له مصادقًا ولا معاشرًا، والتحول عنه أَوْلى.

    - فإن كان جارك يهوديًّا أو نصرانيًّا في الدار أو السوق أو البستان، فجاوره بالمعروف ولا تؤذه.

    " فيجوز زيارته في مرضه، أما عند الموت فلا يُعزي فيه؛ لحديث علي -رضي الله عنه- لما مات أبو طالب، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*اذْهَبْ *فَوَارِهِ) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني)، فلم يعزه.

    - فأما مَن جعَل إجابة دعوتهم دَيْدنه، وعاشرهم وباسطهم، ومِن ذلك زيارتهم في الأعياد وتهنئتهم بها، فلا يجوز؛ لأن فيها إقرارًا ضمنيًّا على ما أصاب دينهم من تحريف وأعيادهم -كما لا يخفى-، فمَن فعَل ذلك فإن إيمانه يرقُّ، وقد قال -تعالى-: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (المجادلة: 22).

    - فإن انضاف إلى جواره كونه مِن قرابتك أو ذا رحمك؛ فهذا حقه آكَدُ.

    - وكذا إن كان أحد أبويك ذميًّا، فإن للأبوين وللرحم حقًّا فوق حقوق الجوار؛ فأعطِ كلَّ ذي حق حقَّه.

    - وكذا رد السلام، فلا تبدأ أحدًا من هؤلاء -اليهود والنصارى- بالسلام أصلًا، وإذا سلَّم أحدٌ منهم عليك، فقل: وعليكم، أما كيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟ فهذا لا بأس به، وأن تقول بغير إسراف ولا مبالغة في الرد؛ قال -تعالى-: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (المائدة: 54).


    فالمؤمن يتواضع للمؤمنين ويتذلَّل لهم، ويتعزز على الكافرين ولا يتضاءل لهم؛ تعظيمًا لحُرمة الإسلام وإعزازًا للدِّين، من غير أن يؤذيهم ولا يودهم كما يود المسلم".


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (13)
    الربا
    (موعظة الأسبوع)







    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    - المقدمة:

    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة التي ضمن الله لمَن اجتنبها في الدنيا الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

    - الربا من أكبر الكبائر وأشنع الجرائم؛ لما له مِن أثر عظيم في إفساد حياة الناس، وقد جاء النص على كونه من الكبائر: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هُنَّ؟ فذكر منها: (وَأَكْلُ الرِّبَا) (متفق عليه)(1)، وسيأتي زيادة بيان حول ذلك.

    (1) حكم الربا:

    - جاءت شريعة الإسلام بالمقاصد العظيمة لحفظ حياة الناس، ومنها (المال): قال -تعالى-: (*وَلَا *تَأْكُلُوا *أَمْوَالَكُمْ *بَيْنَكُمْ *بِالْبَاطِلِ) (البقرة: 188).

    - ومِن تشريعات منع أكل الأموال بالباطل، منع المعاملات المالية الربوية: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هُنَّ؟ فذكر منها: (وَأَكْلُ الرِّبَا).

    - وقد كان تحريم الربا مِن الأحكام المبكرة حيث نزل التنفير منه في العهد المكي: قال الله -تعالى-: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (الروم: 39).

    - وفي العهد المدني كان التحريم صراحة للقليل والكثير منه: قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران: 130)، وقال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) (البقرة: 278-279)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الرِّبا ثَلاَثَةٌ وَسَبْعُونَ بَاباً أَيْسَرُها مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبا عِرْضُ الرَّجُلِ المُسْلِمِ) (رواه الحاكم في المستدرك، وصححه الألباني).

    - ومع كمال الشريعة وإتمام النعمة، كان التأكيد على تحريمه في ختام حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خطبة الوداع: (وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا: رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؛ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ) (رواه مسلم).

    (2) حكمة تحريم الربا:

    - الإسلام يدعو إلى التعاون والتراحم والإيثار والاحتساب بيْن المؤمنين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ) (رواه مسلم).

    - المعاملات الربوية تفسد العلاقات بيْن أفراد المجتمع، ولا سيما الجانب المالي.

    وذلك مِن وجوه:

    1- الربا يؤدي إلى التباغض والعداوة بين أفراد المجتمع حيث استغلال جهة لجهة.

    2- الربا يؤدي إلى خلق طبقة مترفة لا تعمل شيئًا؛ لأنها تنمو على حساب المحتاجين.

    3- الربا يسبب الاضطراب في التجارة والأسواق، حيث تتفاوت النسب الربوية بين المتعاملين، بما يؤدي إلى عدم الاستقرار.

    4- الربا طريقة خبيثة لتدمير الشعوب والبلاد: "يهود يثرب، ويهود فلسطين وإغراقهم أهل الديار بالديون ثم الاستعمار والاحتلال".

    (3) عاقبة المتعاملين بالربا في الدنيا والآخرة:

    أولًا: في الدنيا:

    - المتعامل بالربا ملعون هو وكل مَن سَهَّل له طريق الربا: عن جابر -رضي الله عنه- قال: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آكِلَ الرِّبَا، وَمُؤْكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ"، وَقَالَ: (هُمْ سَوَاءٌ) (رواه مسلم).

    - المتعامل بالربا لا يُستجاب دعاؤه؛ لأن كسبه مِن حرام: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (المؤمنون: 51)، وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (البقرة: 172)، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟) (رواه مسلم).

    - المتعامل بالربا متوعد بذهاب بركة المال، وحلول الخراب والوبال؛ فهو في حرب مع مَن له جنود السماوات والأرض، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) (البقرة: 278-279)، وقال الله -تعالى-: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) (البقرة: 276)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ، فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ تَصِيرُ إِلَى قُلٍّ) (رواه أحمد، وصححه الألباني). (اسألوا عنابر السجون الممتلئة بمَن عجزوا عن سداد الديون الربوية أو استدانوا بسببها، ثم عجزوا عن السداد).

    ثانيًا: في الآخرة:

    - المتعامل بالربا متوعد بالنار: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ) (رواه الطبراني، وصححه الألباني).

    - المتعامل بالربا معذَّب في قبره إلى يوم القيامة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالاَ لِي انْطَلِقْ، وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا... فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ -حَسِبْتُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ- أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ، وَإِذَا فِي النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ مَا يَسْبَحُ، ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الحِجَارَةَ، فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا فَيَنْطَلِقُ يَسْبَحُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا، قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَانِ؟ قَالَ: قَالاَ لِي: انْطَلِقِ انْطَلِقْ...) إلى أن قال: (قُلْتُ لَهُمَا: فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ عَجَبًا، فَمَا هَذَا الَّذِي رَأَيْتُ؟ قَالَ: قَالاَ لِي: أَمَا إِنَّا سَنُخْبِرُكَ... وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِي النَّهَرِ وَيُلْقَمُ الحَجَرَ، فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا) (رواه البخاري).

    خاتمة:

    - أيها المسلم، احذر الدعوات الزائفة لترويج الربا تحت مسميات كاذبة: "فائدة - أرباح - استثمار - عائد - ونحوها"؛ فإنك مسئول عن كلِّ مليم أخذته أو أعطيته، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ... وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).


    - أيها المسلم... احذر الفتاوى الفاسدة لعلماء السوء؛ فأنتَ المسئول وحدك يوم القيامة: قال الله -تعالى-: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (المدثر: 38)، وقال: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) (عبس: 34).

    فاللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمَّن سواك.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــ

    (1) الإشارة إلى إقدام كثيرٍ مِن الناس على المعاملات الربوية كحلول للخروج مِن الأزمة الاقتصادية عند الآخذ، وكاستغلال للأزمة عند المعطي: "صور مِن ذلك: القروض الربوية - تمويل جهات للمشروعات الصغيرة أو الكبيرة بمعاملة ربوية - حبس كثير مِن الأغنياء أموالهم في البنوك الربوية بحجة الأمان والضمان - مضاربات وهمية بيْن الأفراد - قلب الدَّين على المعسر (فائدة على التأخير - وغير ذلك)".


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (14)
    الرشوة
    (موعظة الأسبوع)









    كتبه/ سعيد محمود


    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛


    المقدمة:

    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

    - الرشوة من الكبائر العظام، والمنكرات الجسام؛ لما لها من أثر عظيم في إفساد حياة الناس، وقد جاء النص على كونها من الكبائر: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- *الرَّاشِيَ *وَالمُرْتَشِيَ" (1) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

    تحريم الرشوة، وبيان أثرها:

    - جاء الإسلام بعقيدة وشريعة تدل على أن الأرزاق مقدَّرة، وأن على الإنسان أن يسعى في الأسباب المشروعة للكسب الحلال: قال -تعالى-: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَه َا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (هود: 6)، وقال -تعالى-: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف: 32)، وقال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور) (15: الملك)، وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (البقرة: 168).

    - وحرَّم الإسلام الكسب الحرام على أي صورة كانت، ورتَّب على ذلك العقوبة الشديدة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يدخُلُ الجنَّةَ لَحمٌ نبَت مِن سُحْتٍ، وكلُّ لَحمٍ نبَت مِن سُحتٍ فالنَّارُ أَوْلَى بِهِ) (رواه الترمذي وابن حبان، وصححه الألباني). قال القاري في المرقاة: "السحت: الحرام الشامل للربا والرشوة وغيره"(2).

    - لقد حرم الإسلام هدايا العمال، واعتبرها من الرشوة المقنعة؛ فكيف بالرشوة الفاجرة الصريحة؟! عن أبي حميد الساعدي قال: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلًا مِنَ الْأَسْدِ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ، عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا لِي، أُهْدِيَ لِي، قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: (مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا، إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ: بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، *أَوْ *بَقَرَةٌ *لَهَا *خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعَرُ. ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ) مَرَّتَيْنِ. (متفق عليه).

    وعن عدي بن عميرة قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنِ اسْتَعْمَلْنَاه ُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ *فَكَتَمَنَا *مِخْيَطًا *فَمَا *فَوْقَهُ، كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنَ الْأَنْصَارِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ، قَالَ: (وَمَا لَكَ؟)، قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: (وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ، مَنِ اسْتَعْمَلْنَاه ُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى) (رواه مسلم)(3).

    - ولقد شاعت الرشوة الصريحة في هذا الزمان، وسمَّاها الناس بأسماء تروجها: (إكرامية - هدية - حلاوة - أتعاب -...)، وتنافسوا في طرقها ووسائلها دون مبالاة بآثارها وعواقبها! قال -تعالى-: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِين َ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (الكهف: 103- 104)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيَأْتِيَنَّ علَى النَّاسِ زَمانٌ، لا يُبالِي المَرْءُ بما أخَذَ المالَ، أمِنْ حَلالٍ أمْ مِن حَرامٍ) (رواه البخاري).

    - إشارة إلى بعض الآثار السيئة لشيوع الرشوة على بعض الجوانب: (المشروعات الإنتاجية الفاسدة - تهريب المخدرات والسلاح وتهديد أمن البلاد - دخول الأدوية والأغذية الفاسدة - تهميش الكفاءات وصعود الراشين - شيوع الحقد والكراهية بسب الظلم الناتج عن الرشوة -....).

    - عاقبة المتعاملين بالرشوة في الدنيا والآخرة:

    أولًا: في الدنيا:

    - المتعامل بالرشوة ملعون، بعيد عن رحمة الله(4): عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- *الرَّاشِيَ *وَالمُرْتَشِيَ فِي *الحُكْمِ" (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

    - المتعامل بالرشوة ممحوق بركة المال والحال، كما هو حال كل آكل للحرام: قال -تعالى-: (*يَمْحَقُ *اللَّهُ *الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) (البقرة: 276)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْبَرَكَةِ) (متفق عليه).

    - المتعامل بالرشوة مقطوع الصلة بربه؛ لأنه محروم من استجابة دعائه: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَيُّها النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا) ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ: يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ؟! (رواه مسلم). وروي في الحديث: "يا سعدُ، أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُستَجابَ الدَّعوةِ" (رواه الطبراني). وعن وهب بن مُنبِّه قال: "مَن سرَّه أنْ يستجيب الله دعوته، فليُطِب طُعمته" (جامع العلوم والحكم).

    ثانيا: في الآخرة:

    - المتعامل بالرشوة ملعون، بعيد عن رحمة الله في الدنيا؛ فكيف بحاله في الآخرة؟! قال -تعالى-: (وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرً) (النساء: 52).

    - المتعامل بالرشوة مفضوح يوم القيامة بكل رشوة أخذها: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ *حَتَّى *يُسْأَلَ *عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ؟) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وقال -عليه الصلاة والسلام-: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا، إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ: بَعِيرٌ لَهُ *رُغَاءٌ، *أَوْ *بَقَرَةٌ *لَهَا *خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعَرُ) (متفق عليه).

    - المتعامل بالرشوة مستحق لعذاب جهنم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يدخُلُ الجنَّةَ لَحمٌ نبَت مِن سُحْتٍ وكلُّ لَحمٍ نبَت مِن سُحتٍ فالنَّارُ أَوْلَى بِهِ) (رواه الترمذي وابن حبان، وصححه الألباني).

    - خاتمة: هل للمتعامل بالرشوة توبة؟

    - الله -عز وجل- يتوب على كلِّ عاصٍ إذا تاب توبة صادقة صحيحة: قال الله -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53).

    - توبة المتعامل بالرشوة لا بد فيها من إصلاح ما أفسد، وأن يخرج من المال الحرام الذي أخذه برده في مصالح المسلمين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ *كَانَتْ *عِنْدَهُ *مَظْلِمَةٌ *لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْ هُ مِنْهَا، *فَإِنَّهُ *لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ) (رواه البخاري).

    - إشارة في الختام مرة أخرى إلى أن الأرزاق قد كتبت وقسمت، وأنك لن تأخذ إلا ما قسمه الله لك؛ فاحرص على أخذه بالحلال، وارضَ بما قسم الله لك: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اتَّقوا اللهَ، وأجمِلُوا في الطَّلَبِ، ولا يَحمِلَنَّ أحدَكم استبطاءُ الرِّزقِ أن يطلُبَه بمَعصيةِ اللهِ، فإنَّ اللهَ -تعالى- لا يُنالُ ما عندَه إلَّا بِطاعَتِهِ) (رواه ابن ماجه والحاكم، وصححه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاس) (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني).

    فاللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمَّن سواك.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــ

    (1) الرشوة: هي ما يُعطى لإبطال حق، أو لإحقاق باطل. والراشي هو دافع الرشوة، والمرتشي هو آخذها وقابضها، والرائش الوسيط بين الراشي والمرتشي. قال العلماء -رحمهم الله-: "وإنما تلحق اللعنة الراشي إذا قصد بها أذية مسلم أو ينال بها ما لا يستحق، أما إذا أعطى ليتوصل إلى حقٍّ له، ويدفع عن نفسه ظلمًا؛ فإنه غير داخل في اللعنة، وأما الحاكم فالرشوة عليه حرام أبطل بها حقًّا أو دفع بها ظلمًا" (الكبائر للذهبي).

    (2) يأتي هنا السؤال: لماذا كان أكل الحرام له كل هذا التأثير؟ والجواب: أن الإنسان إذا كان كسبه من حرام، فَسَد كلُّ حاله؛ فطعامه وشرابه سيكون من الحرام، ونكاحه سيكون من الحرام، وحجه، إلخ.


    (3) من أسباب انتشار الرشوة: شبهة بعض الموظفين أن الراتب الوظيفي ضعيف لا يكفي! ولا يدري أن العقد الوظيفي ملزم، وإلا طالب بالزيادة الحلال أو الفراق.

    (4) المرتشي خصوصًا يكون في حالة من الذل والحقارة ما يجعله يتوارى ويخفي فعله بكل الوسائل، ولا يحب أن يقال له: "فلان المرتشي".

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (15)


    الرياء

    (موعظة الأسبوع)




    كتبه/ سعيد محمود
    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
    المقدمة:
    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
    - الرياء من كبائر الأعمال، والمنكرات الجسام، وقبيح الخصال، وقد ورد فى حقه شديد العقاب والوبال: عن محمود بن لبيد -رضي الله عنه-: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ *أَخْوَفَ *مَا *أَخَافُ *عَلَيْكُمُ *الشِّرْكُ *الْأَصْغَرُ) قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ : اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً؟)، وفي لفظ: (أَيُّهَا النَّاسُ، إِيَّاكُمْ *وَشِرْكَ *السَّرَائِرِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا شِرْكُ السَّرَائِرِ؟ قَالَ: (يَقُومُ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ جَاهِدًا لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ النَّاسِ إِلَيْهِ؛ فَذَلِكَ شِرْكُ السَّرَائِرِ) (رواه ابن جزيمة، وحسنه الألباني).
    - والرِّياء هو: إظهار العبادة بقصد رؤية الناس لها؛ ليحمدوا صاحبها ويثنوا عليه: قال القرطبي -رحمه الله-: "وحقيقة الرِّياء طلب ما في الدنيا بالعبادة، وأصله: طلب المنزلة في قلوب الناس".
    (1) أثر الرياء على العبد في الدنيا والآخرة:
    - الرياء من الكبائر التي ورد فيها الوعيد الشديد لصاحبها: قال الله -سبحانه-: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ . الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ . وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (الماعون: 4 - 7).
    - الرياء جهل بقدر وقدرة الجليل العظيم حيث يطلب المرائي على عمله نظر المخلوقين: قال -تعالى-: (*وَمَا *قَدَرُوا *اللَّهَ *حَقَّ *قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (الزمر: 67). قال قتادة: "إذا راءى العبد، قال الله: انظروا إلى عبدي كيف يستهزئ بي؟!" (الكبائر للذهبي).
    - المرائي معذَّب القلب والبال، بانتظاره ثناء المخلوقين: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: («*مَنْ *سَمَّعَ *سَمَّعَ *اللَّهُ *بِهِ *وَمَنْ *يُرَائِي *يُرَائِي *اللَّهُ *بِهِ) (متفق عليه).
    قال الخطابي -رحمه الله-: "معناه: مَن عمل عملًا على غير إخلاص، وإنما يريد أن يراه النّاس ويَسْمَعُوه، جُوزيَ على ذلك بأن يُشهّرَه الله ويَفضَحَه ويُظهِرَ ما كان يُبْطِنه".
    - المرائي عمله باطل بلا أجر ولا ثواب(1): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (البقرة: 264)، عن أبي هُريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: *أَنَا *أَغْنَى *الشُّرَكَاءِ *عَنِ *الشِّرْكِ، *مَنْ *عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ) (رواه مسلم).
    وخرَّج النسائي بإسنادٍ جيدٍ عن أبي أُمَامة الباهلي قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَا لَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَا شَيْءَ لَهُ) فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَا شَيْءَ لَهُ)، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ) (رواه النسائي، وحسنه الألباني).
    - لذا كان الرياء من أعظم وسائل الشيطان لإفساد أعمال كثير من العباد، وإهلاكهم يوم القيامة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (*إِنَّ *أَوَّلَ *النَّاسِ *يُقْضَى *يَوْمَ *الْقِيَامَةِ *عَلَيْهِ: رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ) (رواه مسلم).
    إنكار السلف على مَن ظهرت منهم علامات الرياء:
    - قال الذهبي -رحمه الله-: "وروي أن عمر بن الخطاب نظر إلى رجل وهو يطاطئ رقبته، فقال: يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك، ليس الخشوع فى الرقاب، إنما الخشوع فى القلوب. وقيل: إن أبا أمامة الباهلي أتى على رجل في المسجد وهو ساجد يبكي في سجوده ويدعو، فقال له: أنت، أنت! لو كان هذا فى بيتك؟! وقال محمد بن المبارك الصوري: أظهر السمت بالليل؛ فإنه أشرف من إظهاره بالنهار؛ لأن السمت بالنهار للمخلوقين، والسمت بالليل لرب العالمين" (الكبائر).
    - بل قد حدَّدوا للمرائي علامات وتصرفات: قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان فى الناس، ويزيد في العمل إذا أُثنِي عليه، وينقص إذا ذُم به".
    (2) الإخلاص دواء الرياء:
    - أوجب الله الإخلاص شرطًا لقبول الأعمال الصالحة: قال الله -تعالى-: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف: 110). قال الطبَري -رحمه الله-: (فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا) يقول: فلْيُخلص له العبادة، وليُفرد له الربوبية، (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) يقول: ولا يجعل له شريكًا في عبادته إياه؛ وإنما يكون جاعلًا له شريكًا بعبادته إذا راءى بعمَله الذي ظاهره أنه لله، وهو مُريدٌ به غيرَه".
    - عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى إِخْفَاءِ الْعَمَلِ، وَمُدَافَعَةِ الرياء، و طلب الأجر من الله وحده: قال الله -تعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين) (الأنعام: 162). وقال العز بن عبد السلام: "الإخلاص أن يفعل المكلف الطاعة خالصة لله وحده، لا يريد بها تعظيمًا من الناس، ولا توقيرًا، ولا جلب نفع ديني، ولا دفع ضرر دنيوي". وقال يعقوب المكفوف: "المخلص: مَن يكتم حسناتِه كما يكتم سيئاتِه". وسُئل التستري: "أي شيء أشد على النفس؟! قال: الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب". وقال سفيان الثوري: "ما عالجتُ شيئًا أشد عليَّ من نيتي؛ إنها تتقلبُ عليّ".
    - جزاء الإخلاص الخلاص من الكربات في الدنيا والآخرة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*سَبْعَةٌ *يُظِلُّهُمُ *اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) (متفق عليه).
    (3) خاتمة: تساؤلات مهمة:
    هل الفرح بثناء الناس من الرياء؟
    الجواب: إن كان ذلك من غير سعي وتكلف؛ فليس من الرياء، بل هو من الخير. فعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: (*تِلْكَ *عَاجِلُ *بُشْرَى *الْمُؤْمِنِ) (رواه مسلم). وسأل رجلٌ سعيدَ بن المسيّب -رحمه الله- فقال: "إنَّ أحدَنا يصطنع المعروفَ يُحِب أن يُحمَد ويؤجَر، فقال له: أتحبُّ أن تُمقت؟ قال: لا، قال: فإذا عملتَ لله عملاً فأخْلِصْه".
    هل هناك ما نتعوذ به من الرياء بعد التوبة والإخلاص؟
    الجواب: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، وَسَأَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْكَ صِغَارَ الشِّرْكِ وَكِبَارَهُ؛ تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُك َ لِمَا لَا أَعْلَمُ) (أخرجه الحكيم الترمذي، وحسنه الألباني).
    فاللهم طهِّر قلوبنا من الرياء وحب السُّمعة، واجعل أعمالنا وأقوالنا ونياتنا خالصة لوجهك الكريم.
    وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على نببنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ــــــ
    (1) فائدة:
    الرياء والعمل لغير الله أقسام:
    1- فتارة يكون الرياء محضًا، بحيث لا يراد به سوى مراءاة المخلوقين لغرض دنيوي، كحال المنافقين في صلاتهم، كما قال الله -عز وجل-: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) (النساء:142)، وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة أو الحج، وغيرهما من الأعمال الظاهرة أو التي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة.
    2- وتارة يكون العمل لله، ولكن يشاركه الرياء: فإن شاركه في أصله، فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه وحبوطه أيضًا كما في الأحاديث السابقة، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: (*أَنَا *أَغْنَى *الشُّرَكَاءِ *عَنِ *الشِّرْكِ)، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ).
    3- وأما إن كان أصل العمل لله، ثم طرأت عليه نية الرياء؛ فإن كان خاطرًا فدفعه، فلا يضره بغير خلاف، وإن استرسل معه، فمحل تفصيل بين العلماء: هل يحبط به عمله أم لا يضره ذلك، ويُجازَى على أصل نيته؟

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (16)

    التبرج

    (موعظة الأسبوع)



    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    - المقدمة:

    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

    - التبرج(1) من الكبائر العظام، والمنكرات الجسام، وقد جاء فيه الوعيد الشديد: قال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (*صِنْفَانِ *مِنْ *أَهْلِ *النَّارِ *لَمْ *أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ(2)، مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا) (رواه مسلم).

    خطر التبرج في الدنيا والآخرة:

    - التبرج كبيرة ومن أخلاق الجاهلية: ففي حديث أميمة بنت رُقَيْقَةَ -رضي الله عنها- حينما جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تبايعه على الإسلام فقال: (أُبَايِعُكِ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكِي بِاللهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقِي وَلَا تَزْنِي، وَلَا تَقْتُلِي وَلَدَكِ، وَلَا تَأْتِي بِبُهْتَانٍ تَفْتَرِينَهُ بَيْنَ يَدَيْكِ وَرِجْلَيْكِ، وَلَا تَنُوحِي، وَلَا تَبَرَّجِي تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).

    - التبرج نفاق، ومخالفة لصدق الانتماء لدين الإسلام: عن أبي أذينة الصدفي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (*خَيْرُ *نِسَائِكُمُ *الْوَدُودُ *الْوَلُودُ، *الْمُوَاتِيَةُ *الْمُوَاسِيَةُ إِذَا اتَّقَيْنَ اللهَ، وَشَرُّ نِسَائِكُمُ الْمُتَبَرِّجَا تُ الْمُتَخَيِّلَا تُ، وَهُنَّ الْمُنَافِقَاتُ ، لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْهُنَّ إِلَّا مِثْلُ الْغُرَابِ الْأَعْصَمِ)(3) (أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، وصححه الألباني).

    - التبرج يستجلب اللعن على صاحبته، فتمشي في سخط الله ولعنته: فقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (سَيَكُونُ *فِي *آخِرِ *أُمَّتِي *رِجَالٌ *يَرْكَبُونَ *عَلَى *سُرُوجٍ، *كَأَشْبَاهِ *الرِّجَالِ *يَنْزِلُونَ *عَلَى *أَبْوَابِ *الْمَسَاجِدِ؛ نِسَاؤُهُمْ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، عَلَى رُءُوسِهِمْ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْعِجَافِ، الْعَنُوهُنَّ فَإِنَّهُنَّ مَلْعُونَاتٌ، لَوْ كَانَتْ وَرَاءَكُمْ أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ لَخَدَمْنَ نِسَاؤُكُمْ نِسَاءَهُمْ كَمَا يَخْدُمْنَكُمْ نِسَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ) (رواه أحمد وابن حبان، وحسنه الألباني).

    - التبرج سبب في انتشار الفواحش، وذهاب الحياء، وتفشي الجرائم والدياثة، وإثارة الغرائز، وغير ذلك من المنكرات (حادثة فتاة العتبة في شهر رمضان - حوادث التحرش التي لا تُحصَى - ... ): خطب علي بن أبي طالب في الناس يومًا، فقال: "ألا تستحيون؟ ألا تغارون؟ يترك أحدكم امرأته بين الرجال تنظر إليهم، وينظرون إليها"، وفي رواية: "إنه لا خير فيمن لا يغار".

    - التبرج سبب في نزول البلاء والكوارث والعقوبات: عن زينب أم المؤمنين: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا، يقولُ: (لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ! ويْلٌ لِلْعَرَبِ مِن شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ؛ فُتِحَ اليومَ مِن رَدْمِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مِثْلُ هذِه). وحَلَّقَ بإصْبَعِهِ الإبْهَامِ والَّتي تَلِيهَا، قالَتْ زَيْنَبُ بنْتُ جَحْشٍ: فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وفينَا الصَّالِحُونَ؟ قالَ: (نَعَمْ؛ إذَا كَثُرَ الخَبَثُ) (متفق عليه)، وقال -تعالى-: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (الأنفال: 25).

    الحجاب في مواجهة التبرج:

    - جاء الإسلام بالعفة والستر، فحذَّر من فتنة النساء أشد التحذير: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ) (آل عمران: 14)، عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَا *تَرَكْتُ *بَعْدِي *فِتْنَةً *هِيَ *أَضَرُّ *عَلَى *الرِّجَالِ *مِنَ *النِّسَاءِ) (متفق عليه)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*إِنَّ *الدُّنْيَا *حُلْوَةٌ *خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُم ْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ) (رواه مسلم)(4).

    - وجعل الإسلام التدابير الكثيرة لسدِّ فتنة المرأة، ومنها: فرض الحجاب، وتحريم التبرج: قال -تعالى- لخير النساء: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا . وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب: 32- 33)، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) (الأحزاب: 59).

    وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "لَمَّا نَزَلَتْ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ، خَرَجَ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ الْغِرْبَانَ مِنْ الْأَكْسِيَةِ" (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

    صورة مشرقة في العفة والتصون:

    - غيرة الزبير -رضي الله عنه-: ذكر أبو عمر في التمهيد: أن عمر -رضي الله عنه- لما خطب عاتكة بنت زيد، شرطت عليه ألا يضربها، ولا يمنعها من الحق، ولا من الصلاة في المسجد النبوي، ثم شرطت ذلك على الزبير، فتحيل عليها أن كَمَن لها لما خرجت إلى صلاه العشاء، فلما مَرَّت به ضرب على عجيزتها، فلما رجعت قالت: "إنا لله! فَسَد الناس، فلم تخرج بعد" (نقلًا عن عودة الحجاب).

    - غيرة رجل صالح، ذكر ابن كثير -رحمه الله- في حوادث سنة 286 هـ قال: "من عجائب ما وقع من الحوادث في هذه السنة: أن امرأة تقدمت إلى قاضي الري، فادعت على زوجها بصداقها خمسمائة دينار، فأنكره، فجاءت ببينة تشهد لها به، فقال القاضي: نريد أن تسفر لنا عن وجهها حتى نعلم أنها الزوجة أم لا؟ فلما صمموا على ذلك قال الزوج: لا تفعلوا، هي صادقة فيما تدعيه. فأقر بما ادَّعت ليصون زوجته عن النظر إلى وجهها، فقالت المرأة حين عرفت ذلك منه -وأنه إنما أقر ليصون وجهها عن النظر-: هو في حلٍّ من صداقي عليه في الدنيا والآخرة. وزاد الحافظ السمعاني في الأنساب: "فقال القاضي وقد أعجب بغيرتهما: يكتب هذا في مكارم الأخلاق" (البداية والنهاية).

    خاتمة:

    - أيتها المسلمة... احذري التبرج، وكذا الحجاب المقنع.

    - أولياء النساء... أنتم مسئولون كذلك؛ إن دافع الغيرة وحده عندكم كفيل بحفظ النساء وأمرهن بالحجاب الشرعي؛ فكيف إذا انضاف إليه الأمر الشرعي من رب العالمين، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ *يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الأحزاب: 59)، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ *وَأَهْلِيكُمْ *نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (التحريم: 6)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّكُمْ *رَاعٍ، *وَكُلُّكُمْ *مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ *اللهَ *سَائِلٌ *كُلَّ *رَاعٍ *عَمَّا *اسْتَرْعَاهُ، أَحَفِظَ ذَلِكَ أَمْ ضَيَّعَ؟ حَتَّى يُسْأَلَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ) (رواه ابن حبان، وحسنه الألباني).

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ـــــــــ

    (1) التبرج: هو أن تُظهر المرأة للرجال الأجانب -الذين ليسوا من محارمها- ما يوجب عليها الشرع أن تستره من زينتها ومحاسنها، وهذا مجمل ما شرح به هذه الكلمة أكابر علماء اللغة والتفسير؛ قال مجاهد، وقتادة، وابن أبي نجيح: "التبرج هو المشي بتبختر، وتكسر، وتغنج". وقال مقاتل: "هو أن تُلقي المرأة خمارها على رأسها، ولا تشده فيواري قلائدها، وقرطها، وعنقها"، وفسَّره المبرد بقوله: "أن تُبدي من محاسنها ما يجب عليها ستره"، وفسره أبو عبيدة بقوله: "أن تُخرج من محاسنها ما تستدعي به شهوة الرجال".

    (2) قال النووي في المراد من ذلك: "أما (الكَاسِيَاتٌ العَارِيَاتٌ): فمَعْنَاهُ: تَكْشِف شَيْئًا مِنْ بَدَنهَا إِظْهَارًا لِجَمَالِهَا، فَهُنَّ كَاسِيَات عَارِيَات. وقيل: يَلْبَسْنَ ثِيَابًا رِقَاقًا تَصِف مَا تَحْتهَا، كَاسِيَات عَارِيَات فِي الْمَعْنَى. وَأَمَّا (مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ): فَقِيلَ: زَائِغَات عَنْ طَاعَة اللَّه -تعالى-، وَمَا يَلْزَمهُنَّ مِنْ حِفْظ الْفُرُوج وَغَيْرهَا، وَمُمِيلَات يُعَلِّمْنَ غَيْرهنَّ مِثْل فِعْلهنَّ. وَقِيلَ: مَائِلَات مُتَبَخْتِرَات فِي مِشْيَتهنَّ، مُمِيلات أَكْتَافهنَّ. وَقِيلَ: مَائِلات إِلَى الرِّجَال مُمِيلات لَهُمْ بِمَا يُبْدِينَ مِنْ زِينَتهنَّ وَغَيْرهَا. وَأَمَّا (رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ) فَمَعْنَاهُ: يُعَظِّمْنَ رُءُوسهنَّ بِالْخُمُرِ وَالْعَمَائِم، وَغَيْرهَا مِمَّا يُلَفّ عَلَى الرَّأْس، حَتَّى تُشْبِه أَسْنِمَة الإِبِل الْبُخْت، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور فِي تَفْسِيره. قَالَ الْمَازِرِيّ: وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ: يَطْمَحْنَ إِلَى الرِّجَال وَلا يَغْضُضْنَ عَنْهُمْ، وَلا يُنَكِّسْنَ رُءُوسهنَّ...) (شرح النووي على صحيح مسلم).

    (3) الغُرَاب الأَعْصَم: الأبيض الجناحين أو الرجلين، أَرَادَ قلَّة من يدْخل الْجنَّة مِنْهُنَّ؛ لَأن هَذَا النَّعْت فِي الْغرْبَان عَزِيز.

    (4) للحجاب شروط، وضعها العلماء من خلال النصوص القرآنية والسنن النبوية، وهي كالتالي:

    الأول: ستر جميع بدن المرأة على الراجح.

    الثاني: أن لا يكون الحجاب زينة في نفسه، بحيث لا يلفت أنظار الرجال إلى مَن تلبسه.

    الثالث: أن يكون ثخينًا لا يشف حتى يستر المرأة، فالشفاف يزيد المرأة فتنة للرجال.

    الرابع: أن يكون فضفاضًا واسعًا غير ضيق؛ لأن الضيق يصف حجم الجسم أو بعضه، ويزينه في أعين الناظر إليه.

    الخامس: أن لا يكون مُبَخَّرًا أو مُطيَّبًا.

    السادس: أن لا يشبه ملابس الكافرات؛ لحرمة التشبه بهم.

    السابع: أن لا يشبه ملابس الرجال.

    الثامن: أن لا يُقصد به الشهرة بين الناس.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (17)


    تشبُّه الرجال بالنساء والعكس

    (موعظة الأسبوع)




    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    المقدمة:

    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضمن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

    - تشبه الرجال بالنساء والعكس من الكبائر العظام، والمنكرات الجسام، وقد جاء فيه الوعيد الشديد: فَعَنِ ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المُتَشَبِّهِين َ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالمُتَشَبِّهَ اتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ" (رواه البخاري).

    - الإشارة إلى أن التشبه بين النوعين صار ظاهرة في هذا الزمان: قال -تعالى-: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (سبأ: 20).

    طبيعة خلق الإنسان:

    - خلق الله الإنسان في أحسن صورة، وميَّزه وكرَّمه وفضَّله على كثيرٍ من المخلوقات: قال -تعالى-: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين: 4)، وقال: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (الإسراء: 70).

    - خلق الله الرجل والمرأة، وميَّز كلًّا منهما بصفاتٍ تناسب تكوينه وفطرته (الشكل - الكلام - الأفعال - اللباس - الوظائف - ...)(1): قال -تعالى-: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) (النساء: 34)، وقال -تعالى-: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى) (آل عمران: 36)، وقال -تعالى- عن طبيعة النساء: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) (الزخرف: 18). قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "هُنَّ النِّسَاءُ؛ فَرَّقَ بَيْنَ زِيِّهِنَّ وَزِيِّ الرِّجَالِ".

    - وجعل سبحانه بين صفات النوعين حواجز؛ حتى لا يبغى أحدهما على الآخر، وكان مَن تشبَّه بالآخر مغيَّرًا لخلق الله، متبعًا لدعوة إبليس: قال -تعالى-: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (النساء: 32)، وقال عن دعوة إبليس: (وَلَأُضِلَّنَّه ُمْ وَلَأُمَنِّيَنّ َهُمْ وَلَآمُرَنَّهُم ْ فَلَيُبَتِّكُنّ َ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُم ْ فَلَيُغَيِّرُنّ َ خَلْقَ اللَّهِ) (النساء: 119).

    - حرمة التشبه بين النوعين(2):

    - بناءً على ما سبق حَرَّم الإسلام التشبه بين النوعين؛ لما فيه مِن انتكاس الفِطَر السليمة، وتغيُّر الطباع القويمة، واعتبره من الذنوب الكبيرة: قال -تعالى-: (فِطْرَتَ اللَّهِ *الَّتِي *فَطَرَ *النَّاسَ *عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) (الروم: 30)، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المُتَشَبِّهِين َ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالمُتَشَبِّهَ اتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ" (رواه البخاري).

    وعنه -أيضًا- قال: "لَعَنَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالمُتَرَجِّلا َتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَقال: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ" (رواه البخاري)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الرَّجُلَ يَلْبَسُ لِبْسَةَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةَ تَلْبَسُ لِبْسَةَ الرَّجُلِ" (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

    - ورتَّب الإسلام على ذلك العقوبة في الدنيا والآخرة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ *بِمُخَنَّثٍ *قَدْ *خَضَبَ *يَدَيْهِ *وَرِجْلَيْهِ *بِالْحِنَّاءِ، فَقال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: مَا بَالُ هَذَا؟ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ. فَأَمَرَ بِهِ فَنُفِيَ إِلَى النَّقِيعِ" (رواه أبو داود، وصححه الألباني). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لَعَنَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالمُتَرَجِّلا َتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَقال: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ. وَأَخْرَجَ فُلاَنًا، وَأَخْرَجَ عُمَرُ فُلاَنًا" (رواه البخاري).

    وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "فَالَّذِي يُعَظِّمُ الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَيَجْعَلُ لَهُمْ مِنَ الرِّيَاسَةِ وَالْأَمْرِ عَلَى الْأَمْرِ الْمُحَرَّمِ مَا يَجْعَلُ، هُوَ أَحَقُّ بِلَعْنَةِ اللهِ وَغَضَبِهِ". وقال النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (ثَلَاثٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ بِوَالِدَيْهِ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَة ُ، الْمُتَشَبِّهَة ُ *بِالرِّجَالِ، وَالدَّيُّوثُ...) (رواه أحمد والنسائي وصححه أحمد شاكر).

    أسباب الوقوع في التشبه:

    1- ضَعْفُ الْإِيمَانِ، وَغِيَابُ الْوَازِعِ الدِّينِيِّ.

    2- َسُوءُ التَّرْبِيَةِ من الآباء لِلْأَبْنَاءِ.

    3- حُبُّ الظُّهُورِ وَالشُّهْرَةِ.

    4- َسُوءُ فَهْمِ الْحُرِّيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ.

    5- َالْبُعْدُ عَنْ صُحْبَةِ أَهْلِ الشِّيَمِ وَالْمُرُوءَاتِ ، وَمُخَالَطَةُ أصحاب السوء.

    ما ينبغي أن يتنافس عليه:

    - لقد شرع الله المنافسة بين الناس عمومًا (ذكورًا وإناثًا) في أعمال الخير والبر، بل ورغَّب في ذلك: قال -تعالى-: (
    من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) (النحل: 97)، وقال: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُو نَ) (المطففين: 26).

    - أين هؤلاء المتشبهين من النوعين مِن سلفنا الصالح؟! (إشارة الى قصة إسلام مصعب بن عمير وهجرته ووفاته، وتركه مباهج الدنيا وهو ابن الطبقة الراقية! - وقصة استشهاد أم حرام بنت ملحان بعد تمنيها الشهادة مع الرجال غزاة البحر الذين بشَّر بهم النبي -صلى الله عليه وسلم-).

    علاج ظاهرة التشبه:

    - النَّظَرِ إِلَى أَسْبَابِ انْتِشَارِهَا، فَمَعْرِفَةُ السَّبَبِ نِصْفُ الْعِلَاجِ، ثُمَّ يَشْتَرِكُ فِي هَذَا الْعِلَاجِ، الْمُجْتَمَعُ بِكُلِّ أَطْيَافِهِ.

    - فعلى الْأُسْرَةِ: اتباع سُبُلَ التَّرْبِيَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالتَّنْشِئَةِ الصَّالِحَةِ؛ فَإِنَّ عَلَى الْوَالِدَيْنِ دَوْرًا عَظِيمًا فِي الْقَضَاءِ عَلَى هَذِهِ الظَّاهِرَةِ.

    - وعَلَى الدُّعَاةِ وَأَصْحَابِ التَّأْثِيرِ: نَشْرُ الْوَعْيِ الدِّينِيِّ فِي الْمُجْتَمَعِ، وَرَبْطُ الشَّبَابِ بِرَبِّهِمْ، وَتَذْكِيرُهُمْ بِتَقْوَاهُ وَمَخَافَتِهِ، وَإِشَاعَةُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.

    - وَعَلَى الشَّبَابِ: أَنْ يَبْتَعِدُوا عَنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ، وَمَوَاطِنِ الِاخْتِلَاطِ، وَأَنْ يَعْتَزُّوا بِرُجُولَتِهِمُ الَّتِي فَضَّلَهُمُ اللهُ بِهَا.

    - وَعَلَى الدَّوْلَةِ الْمُسْلِمَةِ ِأَنْ تَضَعَ الْأَنْظِمَةَ وَالْعُقُوبَاتِ لْمُكَافَحَةِ هَذَا السُّلُوكِ الْقَبِيحِ، مَعَ التَّرْكِيزِ عَلَى بَرَامِجِ التَّثْقِيفِ وَالتَّوْعِيَةِ فِي وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ الْمُخْتَلِفَةِ .

    اللهم احفظ شباب المسلمين، واهدهم إلى ما تحب وترضى.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ـــــــ

    (1) للرجل صفات تميِّزه مثل: قوة البدن والعضلات، وانتشار الشعر في الجسد والوجه، وخشونة الصوت والجرأة، والشجاعة، ونحو ذلك مما يناسب وظيفته في الحياة؛ فهو الذي يبني السدود ويحفر الآبار، ويكتشف المناجم ويقاوم الأعداء، ويحرس الثغور في حر الشمس وشدة البرد، وخشن العيش، وهكذا.

    وأما المرأة فلها كذلك صفات تميزها، فهي: على عكس الرجل في كلِّ ما تقدَّم؛ بالإضافة إلى جمال الوجه والهيئة، وعوامل الفتنة، وطريقة المشية، وهيئة الثياب، والزينة بأنواعها: كالتحلي بالذهب والحرير، والتعطر، وغير ذلك.

    (2) من مظاهر التشبه من الرجال بالنساء: لبس الذهب والحرير بصورٍ مختلفة، مثل: الأساور، والقلائد، وقص الشعور وجمعها على طريقة النساء، وارتداء الملابس المشابهة للنساء في هيئتها وألوانها، وصبغ الوجوه بالدهانات والزينات التي تشبه زينة النساء، والتحدث والممشى بطريقة تشبه النساء، وغير ذلك.

    ومن مظاهر تشبه النساء بالرجال: ارتداء الملابس المشابهة للرجال في هيئتها وألوانها، وحلق الشعر بطريقة تشبه الرجال مع كشفه، ولبس الثياب التي تشبه ثياب الرجال، والتحدث بطريقة تشبه الرجال، وممارسة ألعاب رياضية لا تناسب المرأة، مثل: (كرة القدم، وحمل الأثقال، والملاكمة ونحوه)، وغير ذلك. ومن أقبح ذلك في حقِّ النوعين: محاولات التحول بعمليات التجميل من أنثى الى ذكر، والعكس!

    قال الشاعر:

    وَمَا عَجَبٌ أَنَّ النِّسَاءَ تَرَجَّلَتْ وَلَكِنَّ تَأْنِيثَ الرِّجَالِ عـَجِـيـبُ



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (18)


    المَنُّ بالمعروف


    (موعظة الأسبوع)



    كتبه/ سعيد محمود
    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
    المقدمة:
    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضمن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
    - المَنُّ بالمعروف من الكبائر الجسام، ومنكرات الأعمال، وقبيح الخصال، وقد وَرَد في حقِّه شديد العقاب والوبال: قَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْمَنَّانُ الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَّا مَنَّهُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْفَاجِرِ، وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ) (رواه مسلم).
    - المقصود بالمن بالمعروف: قال العلماء: "هُوَ: أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ بِعَطَائِهِ، فَيَقُولَ: أَعْطَيْتُكَ كَذَا، وَيَعُدُّ نِعَمَهُ عَلَيْهِ فَيُكَدِّرُهَا. وَالْأَذَى: أَنْ يُعَيِّرَهُ فَيَقُولَ: إِلَى كَمْ تَسْأَلُ وَكَمْ تُؤْذِينِي؟ وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَذْكُرَ إِنْفَاقَهُ عَلَيْهِ عِنْدَ مَنْ لَا يُحِبُّ وُقُوفَهُ عَلَيْهِ. أَوْ أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَعْطَيْتُكَ، وَأَعْطَيْتُ فَمَا شَكَرْتَ"(1).
    (1) حاجة الناس بعضهم إلى بعض في الدنيا:
    - رَفَعَ الله مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، فَجَعَلَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَيْهِمْ، فحَثّهمَ عَلَى بَذْلِ الْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ: قال -تعالى-: (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ) (الأنعام: 165)، وقال: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا) (الزخرف: 32). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ -تعالى- أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تقْضِي عَنْهُ دَيْنًا) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني)، وقال -تعالى-: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة: 215)، وقال -تعالى-: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) (المزمل: 20)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ) (متفق عليه).
    - إلا أن هناك مُبْطِلَاتٍ لِلْمَعْرُوفِ بَعْدَ بَذْلِهِ يَقَعُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يَشْعُرُونَ أَنَّهَا تَذْهَبُ بِمَعْرُوفِهِمْ أَدْرَاجَ الرِّيَاحِ، وَتُحِيلُ حَلَاوَتَهُ إِلَى مَرَارَةٍ، وَتَقْلِبُهُ مِنْ مَعْرُوفٍ إِلَى مُنْكَرٍ، وَذَلِكُمْ هُوَ الْمَنُّ وَالْأَذَى فِيِ مَا يَبْذُلُهُ الْعَبْدُ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ.
    (2) حرمة المن بالمعروف وعاقبته في الدنيا والآخرة:
    - المن بالمعروف سبب في بطلانه، وضياع ثوابه: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى) (البقرة: 264). وَسَمِعَ ابْنُ سِيرِينَ رَجُلًا يَقُولُ لِرَجُلٍ: "فَعَلْتُ إِلَيْكَ وَفَعَلْتُ. فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: اسْكُتْ فَلَا خَيْرَ فِي الْمَعْرُوفِ إِذَا أُحْصِيَ" (الكبائر للذهبي). وَقَالَوا: "الْمَنُّ مَفْسَدَةُ الصَّنِيعَةِ".
    - الكلام الطيب والاعتذار للسائل، أفضل من معروف يعقبه مَنٌّ وأذى: قال -تعالى-: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) (البقرة: 263).
    - ومِن عواقب المن والأذى السيئة في الدنيا: أن فِعْلَ الْخَيْرِ لِلْغَيْرِ يَبْقَى أَثَرُهُ بِذِكْرِ صَاحِبِ الْمَعْرُوفِ بِالْخَيْرِ وَشُكْرِهِ، فَإِذَا أَتْبَعَ مَعْرُوفَهُ بِالْمَنِّ أَوْ بِالْأَذَى قَطَعَ ذِكْرَهُ بِالْخَيْرِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: "مَنْ مَنَّ بِمَعْرُوفِهِ أَسْقَطَ شُكْرَهُ" (الكبائر للذهبي).
    - وَشَبَّهَ اللَّهُ -تعالى- مَا يَفْعَلُهُ مِنْ مَنٍّ وَأَذًى بِفِعْلِ الْمُنَافِقِ: قال الله -سبحانه-: (كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (البقرة: 264)، قال العلماء: "أَيْ: أَنْتُمْ وَإِنْ قَصَدْتُمْ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ -تعالى- فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ؛ فَإِنَّ الْمِنَّةَ وَالْأَذَى مُبْطِلَانِ لِأَعْمَالِكُمْ ، فَتَصِيرُ أَعْمَالُكُمْ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يَعْمَلُ لِمُرَاءَةِ النَّاسِ وَلَا يُرِيدُ بِهِ اللَّهَ -تعالى- وَالدَّارَ الْآخِرَةَ".
    - وبعد كل هذا... فالْمَنَّانَ متوعد بالإبعاد والغضب يوم القيامة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْمَنَّانُ الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَّا مَنَّهُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْفَاجِرِ، وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ) (رواه مسلم).
    (3) فضل الاحتساب للأجر عند الله:
    - أهل الإخلاص والاحتساب يرجون الأجر من الخالق، ولا ينتظرون شيئا من المخلوقين: قال -تعالى-: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا . إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) (الإنسان: 8- 9). وقال -سبحانه وتعالى- عن موسى -عليه السلام-: (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص: 24). قال العلماء: "مَعَ أَنَّهُ كَانَ مُحْتَاجًا لِطَعَامٍ يُخَفِّفُ جُوعَهُ، وَمَأْوًى يُكِنُّهُ فِي لَيْلِهِ، فلم يسأل مَن أدَّى إليهما المعروف، وَإِنَّمَا سأل رَبَّهُ".
    - أهل الإخلاص والاحتساب يسترون معروفهم، ويحقِّرون أعمالهم، ولا يؤذون مَن شمله معروفهم: قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: "إِذَا اصْطَنَعْتَ الْمَعْرُوفَ فَاسْتُرْهُ، وَإِذَا صُنِعَ إِلَيْكَ فَانْشُرْهُ"، وقال العباس -رضي الله عنه-: "لَا يَتِمُّ الْمَعْرُوفُ إِلَّا بِثَلَاثِ خِصَالٍ: تَعْجِيلُهُ وَتَصْغِيرُهُ وَسَتْرُهُ، فَإِذَا عَجَّلْتَهُ هَنَّأْتَهُ، وَإِذَا صَغَّرْتَهُ عَظَّمْتَهُ، وَإِذَا سَتَرْتَهُ أَتْمَمْتَهُ". وقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: "كَانَ أَبِي يَقُولُ: إِذَا أَعْطَيْتَ رَجُلًا شَيْئًا وَرَأَيْتَ أَنَّ سَلَامَكَ يَثْقُلُ عَلَيْهِ، فَكُفَّ سَلَامَكَ عَنْهُ".
    (4) متى يُرَخَّصُ فِي ذِكْرِ َالْمَعْرُوفِ؟
    - بَعْضُ النَّاسِ تُحْسِنُ إِلَيْهِ، ثم إذا اختلفت معه يَنَالُ مِنْ عِرْضِكَ، وَيُنْكِرُ مَعْرُوفَكَ، وَيُشَهِّرُ بِكَ عِنْدَ النَّاسِ، فعند ذلك يجوز لك أن َتَذُبّ عَنْ نَفْسِكَ بِذِكْرِ مَعْرُوفِكَ عَلَيْهِ كَيْ تُخْرِسَهُ وَتُلْزِمَهُ: قالِ -تعالى- لنبيه لما آذاه الأعراب: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات: 17)، (وفَعَلَ ذَلِكَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حِينَ رَمَاهُ الْخَوَارِجُ بِالتُّهَمِ الْبَاطِلَةِ، فَرَدَّ تُهَمَهُمْ بِصَنَائِعِ مَعْرُوفِهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-)؛ ولذلك قِيلَ: "إِذَا كُفِرَتِ النِّعْمَةُ حَسُنَتِ الْمِنَّةُ".
    - خاتمة: نماذج في فعل المعروف واحتساب الأجر من الله -تعالى-:
    تنبيه: قلَّ ذكر نماذج المحتسبين سرًّا في كتب أهل العلم؛ لأن هذا مقتضى حالهم، ولكن بعضهم عرف من آثاره.
    - زين العابدين بن الحسين: قال محمد بن إسحاق: "كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون به في الليل".
    - عبد الله بن المبارك يقضي دين شاب من تلامذته من غير علمه: قال يعقوب بن إسحاق: حدثني محمد بن عيسى قال: كان ابن المبارك كثير الاختلاف إلى طرطوس، وكان ينزل الرقة في الخان - وهو بمثابة الفندق حديثًا-، فكان شاب يختلف إليه، ويقوم بحوائجه، ويسمع منه الحديث، فقدم عبد الله مرة فلم يجده، فخرج إلى النظر متعجلًا، فلما رجع سأل عن الشاب، فقالوا: محبوس على عشرة آلاف درهم دين عليه، فاستدل على الغريم فوزن له عشرة آلاف درهم، وحلَّفه ألا يخبر أحدًا، ما عاش فأُخرج الرجلُ بعد سداد الدين الذي على الشاب للغريم.
    وسري ابن المبارك من ليلته، فلحق الفتى على مرحلتين في الرّقة، فقال له: يا فتى أين كنت؟ لم أرك، قال: يا أبا عبد الرحمن كنت محبوساً بدين، قال: كيف خلصت؟ قال: جاء رجل فقضى ديني، ولم أدرِ، قال: فاحمد الله... ولم يعلم الرجل إلا بعد موت ابن المبارك، أنه هو الذي قضى دينه".
    - عكرمة الفياض "جابر عثرات الكرام": "ذكر له في مجلسه أمر رجل صالح يقال له: خزيمة بن بشر"، وما آل إليه حاله من الفقر والشدة حتى أغلق عليه بابه ينتظر الموت. فقام فحمل أربعة آلاف دينار في كيس واحد، ثم أمر بإسراج دابته، وخرج سرًّا من أهله، حتى نزل بيت خزيمة فأعطاه، فلما ألح عليه خزيمة أن يعرفه قال: "جابر عثرات الكرام". قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "صاحب المعروف لا يقع، فإن وقع وجد متّكأ" (عيون الأخبار)(2).
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــ
    (1) من صور المَنِّ والأذية بالمعروف: إذا شفع لطالبٍ في دراسةٍ صار في كلِّ مرَّةٍ يسأل عن مستواه الدراسي، وهو لا يهمه إلّا أنه يريد تذكيره أو تذكير أبيه أنه هو الذي شفع له. وإذا شفع له في وظيفةٍ صار يسأله في كلِّ مناسبةٍ عن ترقيته وعن مديره، ولا يريد بذلك إلا تذكيره، وهكذا على هذا المنوال في كل معروف يعمله.
    (2) ومن جميل وعجيب ما ذكر حول هذه القصة لمَن أراد الزيادة، ما ذكره ابن حجة الحموي في كتابه: "ثمرات الأوراق" (ص 151-153)، وذكره أيضًا التنوخي في "المستجاد من فعلات الأجواد" (ص6-8)، وقد ذكره أيضًا أبو الحسن بن هذيل في كتاب: "عين الأدب والسياسة وزين الحسب والسياسة" (ص 199)، مع اختلاف في الشخصيات.
    فذكروا جميعًا ما خلاصته:
    أنه كان في أيام سليمان بن عبد الملك رجل من بني أسد يُقَال له: "خزيمة بن بشر"، وكان مشهورًا بالمروءة والكرم والمواساة، وكانت نعمته وافرة، فلم يزل على تلك الحالة حتى احتاج إلى إخوانه الذين كان يواسيهم ويتفضَّل عليهم، فواسوه حينًا ثم ملوه، فلما لاح له تغيرهم أتى امرأته -وكانت ابنة عمه- فقال لها: يا بنت العم! قد رأيت من إخواني تغيُّرا، وقد عزمت على لزوم بيتي إلى أن يأتيني الموت، ثم أغلق بابه عليه، وأقام يتقوت بما عنده حتى نفد، وبقي حائرًا في حاله.
    وكان عكرمة الفياض (سُمِّي بذلك لفرط كرمه) واليًا على الجزيرة، فبينما هو في مجلسه، إذ جرى ذكر خزيمة بن بشر، فقال عكرمة: ما حاله؟ فقالوا: صار في أسوأ الأحوال، وقد أغلق بابه، ولزم بيته. فقال عكرمة الفياض: فما وجد خزيمة بن بشر مواسيًا ولا مكافئًا؟ فلما كان الليل عمد إلى أربعة آلاف دينار فجعلها في كيس واحد، ثم أمر بإسراج دابته، وخرج سرًّا من أهله، فركب ومعه غلام واحد يحمل المال، ثم سار حتى وقف بباب خزيمة، فأخذ الكيس من الغلام، ثم أبعده عنه، وتقدم إلى الباب فطرقه بنفسه، فخرج خزيمة فقال له: أصلح بهذا شأنك، فتناوله فرآه ثقيلًا، فوضعه وقبض على لجام الدابة وقال له: مَن أنت جُعلت فداك؟ قال له: ما جئت في هذا الوقت وأنا أريد أن تعرفني، قال خزيمة: فما أقبله أو تخبرني من أنت؟ قال: أنا جابر عثرات الكرام، قال: زدني، قال: لا، ثم مضى.
    ودخل خزيمة بالكيس إلى امرأته فقال لها: أبشري فقد أتى الله بالفرج، قومي فاسرجي، قالت: لا سبيل إلى السراج، فبات يلمس الكيس فيجد تحت يده خشونة الدنانير. ورجع عكرمة إلى منزله فوجد امرأته قد افتقدته، وسألت عنه، فأُخبرت بركوبه منفردًا، فارتابت، فلما رآها تلك الحالة قال لها: ما دهاك يا ابنة العم؟ قالت: سوء فعلك بابنة عمك، أمير الجزيرة لا يخرج بعد هدأة من الليل منفردًا عن غلمانه في سرٍّ من أهله إلا إلى زوجة أو سرية؟
    فقال: لقد علم الله ما خرجتُ لواحدة منهما، قالت: لا بد أن تُعلمني، قال: فاكتميه إذًا، قالت: أفعل، فأخبرها بالقصة على وجهها. ثم أصبح خزيمة فصالح غرماءه، وأصلح من حاله، ثم تجهز يريد سليمان بن عبد الملك بفلسطين، فلما وقف ببابه دخل الحاجب فأخبره بمكانه، وكان مشهورًا لمروءته، وكان الخليفة به عارفًا، فأذن له، فلما دخل عليه وسلم بالخلافة قال: يا خزيمة! ما أبطأك عنا؟ فقال: سوء الحال يا أمير المؤمنين، قال: فما منعك من النهضة إلينا؟ قال: ضعفي. قال: فمَن أنهضك؟ قال: لم أشعر يا أمير المؤمنين بعد هدأة من الليل إلا ورجل يطرق بابي، وكان منه كيت وكيت، وأخبره بقصته من أولها إلى آخرها، فقال: هل عرفته؟ قال: لا والله لأنه كان متنكرًا، وما سمعت منه إلا "جابر عثرات الكرام".
    قال: فتلهف سليمان بن عبد الملك على معرفته، وقال: لو عرفناه لأعنَّاه على مروءته، ثم قال علّي بقناة، فأتي بها فعقد لخزيمة الولاية على الجزيرة، وعلى عمل عكرمة الفياض، وأجزل عطاياه، وأمره بالتوجه إلى الجزيرة؛ فخرج خزيمة متوجهًا إلى الجزيرة، فلما قرب منها خرج عكرمة وأهل البلد للقائه فسلَّم عليه، ثم سارا جميعًا إلى أن دخلا البلد، فنزل خزيمة في دار الإمارة، وأمر أن يؤخذ عكرمة، وأن يحاسَب وما يدري أنه صاحبه، فحوسب، ففضل عليه مال كثير، فطلبه خزيمة بالمال، فقال: ما لي إلى شيء منه سبيل، فأمر بحبسه، ثم بعث يطالبه، فأرسل إليه: إني لست ممَّن يصون ماله لغرضه (أي: لا يبقي منه شيئًا ولا يدخر).
    فأمر به فكُبل بالحديد وضُيِّق عليه، وأقام على ذلك شهرًا، فأضناه ثقل الحديد، وأضر به، وبلغ ذلك ابنة عمه، فجزعت عليه واغتمت، ثم دعت مولاة لها ذات عقل وقالت: امضي الساعة إلى باب هذا الأمير، فقولي: عندي نصيحة، فإذا طُلبت منك قولي: ولا أقولها إلا للأمير خزيمة، فإذا دخلتِ عليه سليه الخلوة، فإذا فعل قولي له: ما كان هذا جزاء جابر عثرات الكرام منك في مكافأتك له بالضيق والحبس والحديد؟ قال: ففعلتْ ذلك، فلما سمع خزيمة قولها قال: واسوأتاه! جابر عثرات الكرام غريمي؟!، قالت: نعم.
    فأمر من وقته بدابته فأُسرجت، وركب إلى وجوه أهل البلد فجمعهم، وسار بهم إلى باب الحبس ففُتح، ودخل فرأى عكرمة الفياض في قاع الحبس متغيرًا قد أضناه الضر، فلما نظر عكرمة إلى خزيمة وإلى الناس أحشمه ذلك، فنكس رأسه، فأقبل خزيمة حتى انكب على رأسه فقبله، فرفع رأسه إليه وقال: ما أعقب هذا منك؟! قال: كريم فعلك وسوء مكافأتي، قال يغفر الله لنا ولك، ثم أمر بفك قيوده، وأن توضع في رجليه، فقال عكرمة: تريد ماذا؟
    قال: أريد أن ينالني من الضر مثل ما نالك، فقال: أقسم عليك بالله أن لا تفعل، فخرجا جميعًا إلى أن وصلا إلى دار خزيمة، فأكرمه وحسن هيئته، واعتذر من زوجته، ثم سأله أن يسير معه إلى أمير المؤمنين، وهو يومئذٍ مقيم بالرملة، فأنعم له بذلك، فسارا جميعًا حتى قدما على سليمان بن عبد الملك، فدخل الحاجب، فأخبره بقدوم خزيمة بن بشر، فراعه ذلك وقال: والي الجزيرة يقدم علينا بغير أمرنا مع قرب العهد به؟! ما هذا إلا لحادث عظيم! فلما دخل عليه قال قبل أن يسلِّم: ما وراءك يا خزيمة؟ قال: خير يا أمير المؤمنين، قال: فما أقدمك؟ قال: ظفرت بـ"جابر عثرات الكرام"، فأحببت أن أسرك لما رأيت من شوقك إلى رؤيته، قال: ومَن هو؟ قال: عكرمة الفياض. فأذن له في الدخول، فدخل فسلم عليه بالخلافة، فرحب به، وأدناه من مجلسه، وقال: يا عكرمة كان خيرك له وبالًا عليك، ثم قال له: اكتب حوائجك وما تختاره في رقعة، فكتبها، وقضيت على الفور، ثم أمر له بعشرة آلاف دينار، مع ما أضيف إليها من التحف والظرف، ثم دعا بقناة وعقد له على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، وقال له: أمرُ خزيمة إليك؛ إن شئت أبقيته، وإن شئت عزلته، قال: بل رده إلى عمله يا أمير المؤمنين، ثم انصرفا جميعًا، ولم يزالا عاملين لسليمان بن عبد الملك مدة خلافته (من مقالة على موقع: إسلام ويب، بعنوان: جابر عثرات الكرام).

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (19)

    الكبر


    (موعظة الأسبوع)




    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    المقدمة:

    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

    - الكبر من الكبائر الجسام، ومنكرات الأعمال، وقبيح الخصال، وقد وَرَد في حقِّه شديد العقاب والوبال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا *يَدْخُلُ *الْجَنَّةَ *مَنْ *كَانَ *فِي *قَلْبِهِ *مِثْقَالُ *ذَرَّةٍ *مِنْ *كِبْرٍ) (رواه مسلم).

    - معنى الكِبْر: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*الْكِبْرُ *بَطَرُ *الْحَقِّ *وَغَمْطُ *النَّاسِ) (رواه مسلم)(1)، وقال الزَّبيدي: "الكِبْر: حالةٌ يتخصَّص بها الإنسان من إعجابه بنفسه، وأن يرى نفسَه أَكْبَر من غيره". وقيل الكِبْر هو: "استعظام الإنسان نفسه، واستحسان ما فيه من الفضائل، والاستهانة بالناس، واستصغارهم، والترفع على مَن يجب التواضع له" (تهذيب الأخلاق للجاحظ).

    (1) ذم الكبر والتنفير منه:

    - الكِبْر أوَّل الذنوب التي عُصي الله -تبارك وتعالى- بها في هذا العالم: قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (البقرة: 34).

    - والكِبْر سبب رئيس في هلاك الأمم السابقة: قال -تعالى- على لسان نبيِّه نوح -عليه السلام-: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) (نوح: 7)، وقال -تعالى- عن قوم عاد: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) (فصلت: 15)، وقال -تعالى- في قوم ثمود: (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ . قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) (الأعراف: 75-76)، وقال الله -تعالى- عن قوم نبي الله شعيب -عليه السلام-: (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ) (الأعراف: 88)، وقال -تعالى- عن فرعون وجنده: (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (القصص: 39).

    - الكبر سبب للصرف عن دين الله: قال -تعالى-: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ) (الأعراف: 146)(2).

    - الكبر سبب لدخول النَّار والعذاب فيها: قال الله -تعالى-: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُ م بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ) (الأحقاف: 20)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*أَلَا *أُخْبِرُكُمْ *بِأَهْلِ *النَّارِ: *كُلُّ *عُتُلٍّ، *جَوَّاظٍ، *مُسْتَكْبِرٍ) (متفق عليه).

    وقال: (تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّر ِينَ وَالْمُتَجَبِّر ِينَ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: فَمَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ وَغِرَّتُهُمْ؟ قَالَ اللهُ لِلْجَنَّةِ: إِنَّمَا أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا) (رواه مسلم).

    - وذلك لأن الكبر صفة الرب، وليست صفة العبد الضعيف: قال ابن تيمية -رحمه الله-: "الكبر ينافي حقيقة العبوديَّة، كما ثبت في الصَّحيح، عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: يقول الله: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عذَّبته، فالعظمة والكبرياء من خصائص الرُّبوبيَّة". وقال مطرف بن عبد الله لرجل مستكبر لما قال له: "ألا تعرفني؟! قال: بلى أعرفك، فأولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك تحمل العذرة!".

    - وأخبر النبي أنه كلما ضعف داعي الكبر عند الإنسان، اشتد عذابه وعقابه اذا فعله وباشره: قال -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، *وَمَلِكٌ *كَذَّابٌ، *وَعَائِلٌ *مُسْتَكْبِرٌ) (رواه مسلم).

    (2) فضل التواضع:

    - كفى بهذا الخُلُق شرفًا أن صدرت به صفات عباد الرحمن: قال -تعالى-: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) (الفرقان: 63).

    - أمر به أعلى الناس منزلة وأحسنهم خلقًا أن يضع مِن قدره، ليسهل على إخوانه التعامل معه: قال -تعالى-: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر: 88).

    - هو سبب لمحبة الخلق وإيثار القلوب في الدنيا، ونيل الجزاء الأعلى في الآخرة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ اللهُ) (رواه البيهقي، وصححه الألباني).

    - هو سبب للتوفيق والسداد في الرأي: قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ آدَمِيٍّ إِلَّا فِي رَأسِهِ حَكَمَةٌ بِيَدِ مَلَكٍ، فَإِذَا تَوَاضَعَ، قِيلَ لِلْمَلَكِ: ارْفَعْ حَكَمَتَهُ، وَإِذَا تَكَبَّرَ قِيلَ لِلْمَلَكِ: ضَعْ حَكَمَتَهُ) (رواه الطبراني، وقال الألباني: حسن لغيره).

    (3) نماذج من المتواضعين:

    - سيد المتواضعين: عن أبي مسعود -رضي الله عنه- قال: أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ، فَكَلَّمَهُ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ، فَقَالَ لَهُ: (هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، ويخبر أنه كان راعيًا للغنم فيقول: (كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ) (رواه البخاري)، بخلاف حال المتكبرين الذين يظنون أن ذلك يحقر مِن قدرهم؛ لا سيما الذين أعطوا مِن متاع الدنيا ما يعينهم على العلو وترك التواضع.

    - السَّلَف الصالحون: عن عروة بن الزبير قال: "رأيت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين! لا ينبغي لك هذا. فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين دَخَلَت نفسي نخوة، فأردت أن أكسرها" (تاريخ دمشق لابن عساكر). وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- يحمل الحزمة من الحطب على ظهره، وهو أمير الناس في المدينة، ويقول: "طرقوا للأمير، طرقوا للأمير" (تنبيه الغافلين للسمرقندي)، وقال رجاء بن حيوة: "قام عمر بن عبد العزيز ليلة فأصلح السراج، فقلت: يا أمير المؤمنين: لمَ لمْ تأمرني بذلك؟ أو دعوت مَن يصلحه؟ فقال: قمتُ وأنا عمر، ورجعت وأنا عمر" (الطبقات الكبرى)، وقال الأصمعي: "كتب محمد بن كعب نسبه محمد بن كعب القرظي. فقيل له: قل الأنصاري. فقال: أكره أن أمن على الله ما لم أفعل" (قوت القلوب)، وعن مالك بن مغول قال: "قَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، وَاللَّهِ لَقَدْ تَكَلَّمْتُ، وَلَوْ وَجَدْتُ بُدًّا مَا تَكَلَّمْتُ، وَإِنَّ زَمَانًا أَكُونُ فِيهِ فَقِيهَ أَهْلِ الْكُوفَةِ زَمَانُ سُوءٍ!" (سنن الدارمي).

    (4) أمور تعين على التواضع:

    1- شهود ضعف النفس وعيوبها: قال الله -تعالى-: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ . إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) (الطارق: 5-8)، وقال: (وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا) (النساء: 28)، وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "عجبًا لابن آدم، يغسل الخرء بيده في اليوم مرة أو مرتين ثم يعارض جبار السماوات والأرض!" (التواضع والخمول).

    2- تذكر عاقبة الكبر: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُون َ يَوْمَ القِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الخَبَالِ) (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني).

    3- الإذعان للحق وقبوله مِن كل مَن جاء به: سُئِل الفضيل عن التواضع؟ فقال: "يخضع للحق وينقاد له، ويقبله ممَّن قاله" (مدارج السالكين لابن قيم الجوزية). وقال ابن القيم -رحمه الله-: "لَا تَصِحُّ لَكَ دَرَجَةُ التَّوَاضُعِ حَتَّى تَقْبَلَ الْحَقَّ مِمَّنْ تُحِبُّ وَمِمَّنْ تُبْغِضُ" (مدارج السالكين).

    4- مجالسة المساكين والفقراء الصالحين وزيارتهم، ولا سيما لمَن كان كثير المجالسة للكبراء والوجهاء: قال -تعالى- للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (الكهف: 28). "مَرَّ الحسن على صبيان معهم كسر خبزٍ فاستضافوه، فنزل فأكل معهم، ثُمَّ حملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم، وقال: البدء لهم" (شذرات الذهب).

    5- ترك نفيس الطعام والثياب: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ تَوَاضُعًا لِلَّهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ حُلَلِ الإِيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْبَذَاذَةَ مِنْ الْإِيمَانِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ــــــــ

    (1) قال ابن القيم -رحمه الله-: "فَسَّر النَّبي الكِبْر بضده فقال: (*الْكِبْرُ *بَطَرُ *الْحَقِّ، *وَغَمْطُ *النَّاسِ) (رواه مسلم)، فبطر الحق: رده وجحده، والدفع في صدره، كدفع الصائل. وَغَمْصُ الناس: احتقارهم، وازدراؤهم. ومتى احتقرهم وازدراهم: دفع حقوقهم وجحدها واستهان بها".

    (2) مما يذكر في ذلك تنفيرًا؛ ما ذكره أصحاب السِّيَر: "أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - لما بلغه إسلام جبلة بن الأيهم -آخر ملوك غسان- فَرِح بإسلامه، ثم بعث يستدعيه ليراه بالمدينة. وقيل: بل استأذنه جبلة في القدوم عليه، فأَذِن له، فركب في خلقٍ كثيرٍ مِن قومه، قيل: مائة وخمسون راكبًا. وقيل: خمسمائة. وتلقته هدايا عمر ونزله قبْل أن يصل إلى المدينة بمراحل، وكان يوم دخوله يومًا مشهودًا، دخلها وقد ألبس خيوله قلائد الذهب والفضة، ولبس هو تاجًا على رأسه، مرصعًا باللآلئ والجواهر، وخرج أهل المدينة رجالهم ونساؤهم ينظرون إليه، فلما سَلَّم على عمر رحَّب به عمر وأدنى مجلسه، وشهد الحج مع عمر في هذه السَّنَة.

    فبينما هو يطوف بالكعبة إذ وَطِئَ إزاره رجل من بني فزارة فانحل، فرفع جبلة يده فهشم أنف ذلك الرجل، ومِن الناس مَن يقول: إنه قلع عينه، فاستعدى عليه الفزاري عمر، ومعه خلق كثير من بني فزارة، فاستحضره عمر، فاعترف جبلة فقال له عمر: أقده. فقال جبلة: كيف وأنا ملك وهو سوقة؟ فقال: إن الإسلام جمعك وإياه، فلست تفضله إلا بالتقوى. فقال جبلة قد كنت أظن أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية. فقال عمر: دع ذا عنك، فإنك إن لم ترضِ الرجل أقدته منك. فقال: إذًا أتنصر. فقال: إن تنصرت ضربت عنقك.

    فلما رأى الجد، قال: سأنظر في أمري هذه الليلة. فانصرف مِن عند عمر، فلما ادلهم الليل ركب في قومه ومَن أطاعه، فسار إلى الشام، ثم دخل بلاد الروم، ودخل على هرقل في مدينة القسطنطينية، فرحب به هرقل وأقطعه بلادًا كثيرة، وأجرى عليه أرزاقًا جزيلة" (السير للذهبي، البداية والنهاية حوادث سنة 53).



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر


    الكبائر (20)

    الكذب

    (موعظة الأسبوع)


    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
    المقدمة:
    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
    - الكذب من الكبائر العظام، والجرائم الجسام، لما يسببه من ضياع الحقوق، وتغيير الحقائق: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*عَلَيْكُمْ *بِالصِّدْقِ *فَإِنَّ *الصِّدْقَ *يَهْدِي *إِلَى *الْبِرِّ، *وَإِنَّ *الْبِرَّ *يَهْدِي *إِلَى *الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا) (متفق عليه).
    - الإشارة إلى استهانة كثيرٍ مِن الناس بالكذب بكلِّ أنواعه؛ فضلًا عن جرأة البعض الآخر على الكذب؛ سواء في وسائل الإعلام، أو وسائل الاتصالات الحديثة، وغير ذلك.
    (1) أنْوَاعُ الْكَذِبِ:
    1- الْكَذِبُ عَلَى اللهِ -تعالى-: وهو أقبح أنواع الكذب على الإطلاق، قال الله -تعالى-: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (الأنعام: 21).
    2- الْكَذِبُ عَلَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجِ النَّار) (رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّار) (متفق عليه)، وكلاهما يؤدي إلى تبديل دين الله -تعالى-، وتغيير الشرع، وهو علامة على سوء معتقد فاعله.
    3- الْكَذِبُ عَلَى الْنَّاسِ(1): قال النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: (أَرْبَعٌ *مَنْ *كُنَّ *فِيهِ *كَانَ *مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْ نِفَاقٍ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ) (متفق عليه).
    (2) الكَذِبُ مستقبحٌ عقلًا وشرعًا:
    - الكذب مذموم في سائر الشرائع: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*عَلَيْكُمْ *بِالصِّدْقِ *فَإِنَّ *الصِّدْقَ *يَهْدِي *إِلَى *الْبِرِّ، *وَإِنَّ *الْبِرَّ *يَهْدِي *إِلَى *الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا) (متفق عليه).
    - الكذب مستقبح عند كل صاحب عقل، ويستنكف منه البر والفاجر، والمؤمن والكافر: فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: "أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ -رضي الله عنه- أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا. فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ : قُلْ لَهُمْ: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ، فَوَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ... " (رواه البخاري).
    - والكذب كله مذموم؛ في الجد والهزل، وليس فيه أبيض -كما يظن بعض الناس!-: روى الترمذي في سُننه مِن حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جدِّه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (*وَيْلٌ *لِلَّذِي *يُحَدِّثُ *بِالحَدِيثِ *لِيُضْحِكَ *بِهِ *القَوْمَ *فَيَكْذِبُ، وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، وقال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: "الكذب لا يَصلُح منه جدٌّ ولا هزل" (الآداب الشرعية لابن مفلح)(2).
    - بل ولا يجوز الكذب على الأطفال للترويض: عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا، فَقَالَتْ: هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ؟)، قَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا *كُتِبَتْ *عَلَيْكِ *كِذْبَةٌ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
    (3) من آثار الكذب:
    - الْكَذِبُ سَبَبُ مَحْقُ البَرَكَةِ: عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) (متفق عليه).
    - الْكَذِبُ رِيبَةٌ واضطراب: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ طمأنينة، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَة) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وسبب الريبة: أن آفة الكذاب نسيان كذبه؛ لذلك يظل متخوفًا من أن يفتضح أمره، ويطلع الناس على كذبه، وسوء فعله.
    - الكذاب يُعذَّب في قبره قبل يوم القيامة: ففي حديث الرؤيا الطويل: (فَانْطَلَقْنَا، *فَأَتَيْنَا *عَلَى *رَجُلٍ *مُسْتَلْقٍ *لِقَفَاهُ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الْأَوَّلِ، فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الْأُولَى) فسأل عنه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فقيل له: (إِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ، فَيَكْذِبُ *الْكَذِبَةَ *تَبْلُغُ *الْآفَاقَ) (رواه البخاري)(3) .
    (3) فضل الصدق وترك الكذب:
    - الصِّدق منجاة للعبد في الدنيا والآخرة: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*عَلَيْكُمْ *بِالصِّدْقِ، *فَإِنَّ *الصِّدْقَ *يَهْدِي *إِلَى *الْبِرِّ، *وَإِنَّ *الْبِرَّ *يَهْدِي *إِلَى *الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا) (متفق عليه)، وفي الصحيحين في قصة توبة كعب بن مالك -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بشَّره بذلك، قال: "يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ إِنَّمَا أَنْجَانِي بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لَا أُحَدِّثَ إِلَّا صِدْقًا مَا بَقِيتُ، قَالَ: فَوَاللهِ *مَا *عَلِمْتُ *أَنَّ *أَحَدًا *مِنَ *الْمُسْلِمِينَ *أَبْلَاهُ *اللهُ *فِي *صِدْقِ *الْحَدِيثِ *مُنْذُ *ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى يَوْمِي هَذَا أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلَانِي اللهُ بِهِ، وَاللهِ مَا تَعَمَّدْتُ كَذِبَةً مُنْذُ قُلْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى يَوْمِي هَذَا، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللهُ فِيمَا بَقِيَ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119) (رواه مسلم)".
    - موقف شجاع في بيان قبح الكذب: روى ابن عساكر: "أن سليمان بن يسار دخل على هشام بن عبد الملك، فقال له: يا سليمان، الذي تولى كبره مَن هو؟ قال: عبد الله بن أُبَيِّ، قال: كذبت هو علي! قال: أمير المؤمنين أعلم بما يقول، فدخل الزهري فقال: يا ابن شهاب، مَن الذي تولى كبره؟ فقال: ابن أُبَيِّ. قال: كذبت هو علي، قال: أنا أكذب؟ لا أبا لك، والله لو نادى منادٍ من السماء: أن الله قد أحل الكذب ما كذبت، حدثني عروة وسعيد وعبد الله وعلقمة عن عائشة: أن الذي تولى كبره: عبد الله بن أُبَي" (تاريخ دمشق لابن عساكر).
    فاللهم ارزقنا الصدق في الأقوال والأعمال، والحمدُ لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ــــــــ
    (1) ومع أنه أقل أنواع الكذب خطرًا، وأخفها على صاحبه أثرًا؛ إلا أنه من الكبائر، ومنافٍ للإيمان، وسبب محق البركة، وعلامة من علامات النفاق، وأقرب الطرق للنار، وسبب الريبة والاضطراب، ومَن اتصف به كان أبعدَ الناس عن الهداية، وأقرَبَهم إلى الغواية.
    (2) متى يجوز الكذب؟
    الجواب: استثنى العلماء -رحمهم الله- الكَذِبَ إذا كان لإصلاحٍ بين متخاصمَين، والكذب في الحرب، والكذب إذا كان لدفع الظلم، فإذا اختفَى مسلم مِن ظالم يريد قتْلَه أو أخْذَ ماله، وأخفى ماله وسُئل إنسان عنه، وجب الكذب بإخفائه، وكذا لو كان عنده وديعة وأراد ظالم أخْذها فإنه يكذب لإخفائها، والأحوط أن يوَرِّي، ومعنى التورية: أن يقصد بعبارته مقصودًا صحيحًا ليس هو كاذبًا بالنسبة إليه، وإنْ كان كاذبًا في ظاهر اللفظ، وبالنسبة إلى ما يفهمه المخاطَب.
    وقد استدلَّ العلماء على جواز الكذب في هذا الحال، بما رواه البخاري ومسلم من حديث أم كلثوم رضي الله عنها؛ أنها سمعَت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لَيْسَ *الْكَذَّابُ *الَّذِي *يُصْلِحُ *بَيْنَ *النَّاسِ، *فَيَنْمِي *خَيْرًا *أَوْ *يَقُولُ *خَيْرًا)، زاد مسلم: قال ابن شهاب -رحمه الله-: "وَلَمْ *أَسْمَعْ *يُرَخِّصُ *فِي *شَيْءٍ *مِمَّا *يَقُولُ *النَّاسُ *كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: الْحَرْبُ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا".
    (3) ومِن هؤلاء في زماننا: الكَذَّابون في وسائل الإعلام، ومروجو الأكاذيب على النت، ونحوه.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •